كتاب “الدين في الديمقراطية” ألّفه مارسيل غوشيه، وهو مؤرخ وفيلسوف فرنسي ومدير الدراسات بمعهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس، فرنسا، يُعدّ هذا الكتاب من الكتب المهمة التي اهتمّت بمرحلة تاريخية فاصلة في تاريخ أوروبا، وكانت بمثابة منعطف في تاريخ العلاقة بين الدين والسياسة في اتجاه العلمانية وتحول نظام الحكم من الخلافة الإلهية إلى نظام إنساني بامتياز، يكتسب مشروعيته من الشعب وليس من السماء، ولذلك كان لا بدّ من طرح العلاقة الجديدة بين الدين والديمقراطية والتعريفات الجديدة لهما بعد تراجع الديني أمام تطور النظام العلماني.
يبدأ الكتاب بمقدمة مهمة للمترجم د. شفيق محسن تستحق الوقوف عندها، خصوصاً أنه حاول من خلالها تقريب القارئ من محتوى الكتاب من خلال تركيزه على إشكالية العلاقة بين السياسة والدين، وكيف أنها ليست إشكالية جديدة في الفكر السياسي، بل واكبته منذ نشوء الفلسفة مع اليونان، مع أنّ عصر التنوير عرف بروز الإيديولوجيا التي عوضت المرجعية الدينية، وأزاحت سلطة الكنيسة لتظهر من جديد إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني. برزت بعدها نظريات العقد الاجتماعي بقوة متجاوزة بذلك الحالة السابقة التي كان فيهالكل من البناء الديني والبناء السياسي ميدانه الخاص، وكل واحد منهما يتحدد بالآخر،إلى أن فرض استقلاليته عنه وخاصة مع سيادة الفردانية وبناء دولة الفرد والمواطن والتعددية والتفويض والتمثيلية، اللذين يعززان استقلالية السياسي، ويجعلان من الحاكم الزمني الممثل الطبيعي للجماعة، في حين تظل الكنيسة عبارة عن تجمع مجموعة من الأفراد المؤمنين فقط لا سلطة سياسية لها، بشكل أصبحت معه فكرة الحق الإلهي في الحكم غير مقبولة داخل المجتمعات الأوروبية، وذلك منذ القرن التاسع عشر، ليطرح السؤال عن مكانة الدين وموقعه في الديمقراطيات المعاصرة،وخصوصاً بعد أن تشكل المجتمع المدني الذي سوف يتمايز عن الدولة نفسها. ومقابل ذلك لم تتمكن الدول العربية والإسلامية من أن تبصر الديمقراطية النور بها باستثناء تركيا المشكوك في مستقبلها حسب د. شفيق محسن، وهو ما يعيد طرح إشكالية ارتباط الزمني والروحي وتناقضه مع العلمانية والليبرالية في صيغتها الغربية. وعلى هذا الأساس، يخلص شفيق محسن في مقدمة الكتاب إلى أنه يمكن للديمقراطية بمفهومها الغربي أن تسود بمعزل عن العلمانية، ولا يمكن للعلمانية حتى الآنعلى الأقل أن تظهر في الدول الإسلامية.
يبدأ كتاب الدين في الديمقراطية لصاحبه مارسيل غوشيه في فصله الأول بعنوان “انقطاع في تاريخ فرنسا” بالحديث عن العلمنة بفرنسا، وكيف أنها شكلت مصدر قلق في بدايتها. كما أوضح أنّه سيتبنى منهجاً للتفسير في دراسته هذه؛ ليبيّن خصائص تيار العصرنة من أجل تفادي عبارات العلمنة أو الدنيوة، والتي تعبر عن حالة من التطور عاشته فرنسا، والتحول نحو الديمقراطية وتطبيقاتها.
وينطلق الكاتب من فكرة أساسية، وهي أنّ فصل الكنيسة عن الدولة وفصل الدين عن السياسة قدّم دافعاً مهماً لتعظيم السياسة، وأصبحت دولة المواطن من صنع الإنسان، ولم يعد المواطن يتصور نفسه مسيراً من قبل العالم الآخر. وتبقى فرنسا بخصوصيتها مركز العلمنة، ولكن المنظار المشوه للخصوصية الفرنسية حسب غوشيه يفرض علينا أن نعيد تأسيسه لمساءلة مستقبل الديمقراطية.
شمل الفصل الثاني والمعنون بـ”المكان والزمان” ثلاث ملاحظات مهمة: تدور الملاحظة الأولى حول الإطار التفسيري لحالة أو مسار الخروج من الديني والذي لا يعني التخلي عن المعتقد الديني، ولكن الخروج من عالم يشكل الدين فيه منظماً بنيوياً يوجد الشكل السياسي للمجتمعات.
وتهدف الملاحظة الثانية إلى التأكيد على ما سبق، حيث أشار غوشيه إلى أنّ مفهومي العلمنة والدنيوة لديهما قدرة تفسيرية محدودة قد تقتصر على القدرة الوصفية. ومن الناحية الوصفية يمكن القول إنّ الظروف الأخيرة التي عاشت انقلاباً جعل من دور العامل الديني عاملاً ثانوياً، وخاصة بشكل يصبح معه التنظيم المؤسساتي وقواعد العيش المشترك للمواطنين تتحدد ليس على أساس قناعات دينية ولكن على أساس الاعتراف المسبق بأنّ التنظيم السياسي لا يحدد سلفاً بالدين في ظل ضرورة أن تكون الدولة حيادية تجاه الدين.
وتتعلق الملاحظة الثالثة بالزمن الحالي، حيث الخروج من الدين مازال مستمراً، بشكل يمكن الحديث معه عن تحول في الثقافة الأوروبية. ويمكن تفسير ذلك من خلال الإشارة إلى أنّ ما دفع بمسألة العلمنة إلى الصدارة هو ما نراه في أوروبا من صدام بين الإضعاف المتواصل للعامل الديني وموجة اجتماعية تاريخية معاكسة قادمة من المناطق المجاورة وخاصة من دول العالم الثالث (بلاد الإسلام، العالم الهندوسي….). كما أنّ ما يمكن أن نطلق عليه العلمنة المناضلة ارتكز على أمور عديدة، كالعلوم، والعقل، والتقدم، والأمّة، والجمهورية….
ومن جانب آخر، ظهرت كتابات في ذروة عصر الأنوار عرضت المبادئ الصحيحة لإدارة المقدسات، وقدّمت رؤية متنورة للترجمة اللاتينية للكتاب المقدس، من قبيل أنه “لم توجد الدولة بتاتاً لخدمة الدين وإنما وجد الدين لخدمة الدولة”، “المصلحة العامة هي القاعدة التي يجب أن يبنى عليها كل شيء في الدولة”…. وعلى هذا الأساس برز عالم آخر، والشيء الجديد الذي قدّمه القرن التاسع عشر، هو الانشطار الجماعي بين حقل سياسي وحقل مدني، بين حقل الحياة العامة وحقل المصالح الشخصية، وهو الحقل الذي أصبح من الصعب إدخال الكنيسة فيه، وأصبح هدف السياسة الديمقراطية هو أن يسترجع المجتمع البشري حقه في إدارة أسباب وجوده وغاياته، أي الحكومة الشرعية التي تحددها سيادة الإرادة العامة، مع امتلاك الديمقراطية للسيادة المطلقة كما نادى بها روسو.
وفي الفصل المعنون بـ”الحياد الديمقراطي” حاول مارسيل غوشيه أن يشرح كيف تمكنت الدولة الجمهورية من أن تنفصل ليس فقط عن الكنيسة ولكن عن الدين أيضاً، فالدين هو اجتماع الإنسان مع الخالق، والدولة هي اجتماع البشر مع بعضهم بعضاً، وعن طريق وضع السياسة خارج الدين تمكنت الجمهورية من ضم متدينين أصبحوا يطمعون أيضاً في أن يكونوا مواطنين خالصين، وهم في الوقت نفسه مؤمنون مخلصون. وبالتالي أصبح لدينا مواطنون ليسوا بالضرورة غير متديّنين، ولكنّ انتماءهم للدولة غير تابع لانتمائهم للكنيسة.
لقد كان مارسيل غوشيه منشغلاً بما أسماه انقلاب الدورة في التاريخ، حيث تتالت الدولنة ومظاهر الليبرالية، فهذه الأخيرة تمكنت من خلق تحول شامل طال الاقتصاد وأيضاً عمل الأنظمةالسياسية، فقد انتقلت ممارسة السيادة باعتبارها المعبر عن الإرادة الموحدة لمجموع المواطنين إلى الاهتمام بحماية حقوق الأفراد. ولشرح هذه الفكرة خصّص الكاتب فصلاً عنونه بـ”تكريس المجتمع المدني”، وهو الذي حاول من خلاله مراجعة مفهوم الحرية والسبل التي علينا أن نتحكم من خلالها فيها، وذلك انطلاقاً من الفردانية التي تدعو إلى التحرر مع وجود مؤشر ارتفاع الحقوق الشخصية للأفراد، والتي تقضي بأن يستغل الفرد ارتباط الحقوق بشخصه وفي مواجهة انتمائه إلى المواطنة، بشكل أصبح معه الإنسان يعيش كامل إنسانيته في مواطنيته.
ومن خلال الفصل المعنون بـ”عصر الهويات” أشار غوشيه إلى أنّ إطار التحولات التي تجري في المجتمع المدني ونمط تركيبه هو الذي يجب أن يتم من خلال فهم تحولات المعتقد. فحال الفرد لا يتغير من الخارج فحسب بل من الداخل أيضاً، وهي ظاهرة تحيلنا إلى فكرة الذاتية عند المواطن منذ القرن الثامن عشر، وما نصنفه اليوم في خانة الهويات يمثل التعويض الكامل لما كنا نعده بالأمس جوهر الهوية الشخصية. كما أننا نشهد قيام نوع جديد من الروابط بين الأفراد والفضاء الاجتماعي الجديد يضم كل الهويات وينظمها عن طريق الاختلاف، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى عدم الاستقرار، ولذلك علينا أن ننتبه إلى عامل الذاتية، وإذا كان كل فرد يسلّم بحرية الآخر فإنّ هذا لا يمنعه من أن يحتفظ لنفسه بنمط من الإيمان الراسخ. وهذا هو الفرق الكامل بين التسامح بوصفه نظاماً سياسياً والتعددية باعتبارها مبدأ فكرياً. إنها ثمرة تغلغل الروح الديمقراطية داخل فكرة الإيمان نفسها، وهي الفكرة نفسها التي تضمنها فصل “ثورة الإيمان” الذي أوضح فيه غوشيه كيف أنّ الديمقراطية وهي تنمو على التصادم مع المقدس جنت شيئاً من القداسة، وبرزت علاقة التمثل بين مجتمع جديد في طريق تكوينه عبر مبدأ الهوية وبين مجتمع سياسي حدد من جديد عبر تبريره بواسطة مبدأ التعايش. واختتم مارسيل غوشيه كتابه بفصل حمل عنوان “حدود ديمقراطية الهويات”، تناول فيه عناصر التغيير التي حصلت بين المجتمع المدني والدولة، والذي رافق تحولات في ظروف الإيمان، وهو الهدف من تحريره هذا الكتاب، وقد لخّصه في قوله: “ما أتمناه هو الوصول إلى تصوّر أقل غموضاً عن آفاق تطور الديمقراطية المخادعة في الوقت الحاضر لهذه الديمقراطية التي تتكون ثانية في ظل جو من التوتر والدهشة يسود بيننا”، وعلى هذا الأساس أكد أنّه يمكن المجازفة بالقول: “إنّنا سنعرف يوماً مسيرة الديمقراطية وهي تذهب باتجاه آخر،فمنطقها النظامي التماثلي يسمح برؤية مركز التناقض الذي سيتم من حوله.. .. وسيعيد مثال الحكم الذاتي إلى دائرة الاهتمام وستبنى لغة جديدة”. وبذلك يكون مارسيل غوشيه قد طرح إشكالية جديدة في نهاية كتابه تستحق الدراسة والتحليل.
إكرام عدنني
أستاذة علوم سياسية وقانون دستوري بجامعة ابن زهر بأكادير. عضو مؤسس للمركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية، الرباط. وعضو مشارك بالعديد من المراكز البحثية داخل وخارج المغرب.
حاصلة على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاضي عياض. مراكش. صدر لها كتاب “سوسيولوجيا السياسة والدين عند ماكس فيبر” عن دار منتدى المعارف بلبنان، وكتاب “مدخل إلى علم السياسة” عن دار العرفان. أكادير. المغرب. ولها مقالات ودراسات منشورة حول مواضيع الهجرة، حقوق الأقليات، الدراسات الأكاديمية حول المرأة بجرائد ومجلات ومواقع مغربية وعربية.