العمل الجمعوي في المغرب بين الحصيلة وتحدي الإستمرارية

شهد العملُ الجمعوي في المغرب، خلال العقود الأخيرة، تحوّلاتٍ بارزة مكّنته من أن يتبوّأ موقعًا مركزيًا داخل البنية المجتمعية، بعدما أصبح فاعلًا رئيسيًا في التأطير والتوعية وتنشيط الحياة العمومية، وتعزيز قيم المواطنة والتضامن. هذا التطوّر لم يكن مجرد نتيجة طبيعية لتزايد عدد الجمعيات أو لتنوّع مجالات تدخلها، بل يعكس تراكمًا تاريخيًا وحضاريًا ساهمت فيه قوى اجتماعية وسياسية وثقافية متعدّدة، وعبّر عن وعيٍ جماعي بأهمية المبادرة المدنية في مواجهة التحديات التنموية والحقوقية التي عرفها المغرب منذ مرحلة ما بعد الاستقلال.

ومنذ تلك المرحلة التأسيسية، انخرطت جمعيات ثقافية وحقوقية ورياضية وشبابية ونسائية، وتنظيمات كشفية وأندية سينمائية، إلى جانب جمعيات خيرية وتضامنية، في بلورة خطاب مدني جديد يسعى إلى ترسيخ قيم الحداثة السياسية، ويعمل على فتح فضاءات جديدة للنقاش العمومي والمرافعة والاشتغال الميداني. وقد أتاح هذا الزخم نشوء حسّ مدني جماعي عزّز الثقافة الديمقراطية الناشئة، وأسهم في بناء جسور الثقة بين المواطن والدولة، كما شكّل أحد الأعمدة التي استندت إليها مشاريع الإصلاح السياسي والحقوقي في فترات متعددة.

وتنامت أهمية المجتمع المدني على نحوٍ خاص في ظل التحولات الكبرى التي عرفها المغرب خلال العقود الأخيرة، سواء على مستوى تكريس الحريات العامة أو إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع. وبفعل هذه التحولات، أصبح المجتمع المدني يوفر أحد أهم الفضاءات التي تُنتَج فيها قيم المشاركة، والمساءلة، والمواطنة الفعالة. كما ساهمت الجمعيات، بفضل جهودها في التوعية والتأطير، في الدفع نحو مزيد من الانفتاح الحقوقي، ومزيد من الدينامية داخل الحقل السياسي والاجتماعي.

إلا أنّ هذه الدينامية، على أهميتها، لم تكن بمعزل عن التوترات التي رافقت تطوّر النصوص القانونية المؤطّرة للعمل الجمعوي. فقد خضعت هذه النصوص، في مراحل متعددة، لتجاذبات سياسية أثرت في وتيرة الإصلاح وفي طبيعة التحديث القانوني. غير أنّ الإطار التشريعي العام ظلّ، في خطوطه العريضة، منحازًا لمنطق الإيجاب، وهو ما يظهر جليًا في ظهير الحريات العامة لسنة 1958 الذي تبنّى الطابع التصريحي لتأسيس الجمعيات، قبل أن تتعزز مقتضياته عبر تعديلات متتالية هدفت إلى مواءمته مع متطلبات المرحلة وتوسيع مجال الحرية الجمعوية.

وقد شكلت محطة دستور 2011 منعطفًا جديدًا في مسار تثمين أدوار المجتمع المدني، إذ أقرّ الدستور مبادئ المشاركة الديمقراطية وحوكمتها، وفتح الباب أمام مساهمة الجمعيات في إعداد السياسات العمومية وتقييمها، ومنحها إمكانيات دستورية للتأثير في القرار العمومي، سواء عن طريق تقديم العرائض والملتمسات أو عبر المشاركة في آليات التشاور العمومي. وبذلك، صار المجتمع المدني شريكًا أساسيًا للدولة والفاعلين السياسيين، وفاعلًا متعدد الأدوار داخل المنظومة المؤسسية.

هذا الاعتراف الدستوري، وإن كان مهمًا، إلا أنه ترافق مع بروز تحديات جديدة تتعلق بضعف الموارد البشرية داخل عدد من الجمعيات، ونقص التمويلات المستدامة، وتفاوت القدرات التنظيمية، وغياب رؤية استراتيجية لدى الكثير من الفاعلين الجمعويين. وقد كشفت تقارير وطنية ودولية العديد من الاختلالات البنيوية والوظيفية التي تعيق العمل الجمعوي، وتحدّ من قدرته على تحقيق الأهداف المنوطة به. هذه الإكراهات تتوزع بين عوامل موضوعية مرتبطة بالسياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأخرى ذاتية تعود إلى ضعف الحكامة الداخلية، وانعدام التخطيط الاستراتيجي، ومحدودية الكفاءات، ومشاكل الاستدامة المالية.

وتبرز، في هذا السياق، الحاجة الملحة إلى بحوث ميدانية معمّقة تتناول العمل الجمعوي من منظور علمي واقعي، بدل الاكتفاء بالمقاربات النظرية التي تكتفي بوصف الظاهرة دون تفكيك بنياتها الداخلية، أو دون الوقوف على الفاعلين الحقيقيين الديناميّين داخلها. فالبحث السوسيولوجي والقانوني والحقوقي حول المجتمع المدني قادر على كشف الأعطاب التي تقف أمام تطور الجمعيات، وتمنع إحداث التراكم المطلوب، وتعرقل مساهمتها في التنمية المستدامة. كما يسمح هذا النوع من التحليل بالكشف عن الآليات التي يمكن أن تنظّم العلاقة بين الجمعيات والسلطات العمومية، بما يضمن تحقيق أهداف التنمية وتعزيز الثقة وتوسيع دائرة المشاركة المدنية.

في هذا الإطار، يأتي هذا الكتاب الجماعي ليقدّم مساهمة علمية نوعية في دراسة واقع العمل الجمعوي في المغرب، ورصد تحولاته، وتقييم حصيلته، وتحليل عناصر قوته وضعفه، واستشراف مستقبله في ظل التحديات الوطنية والدولية الراهنة. وتنفرد هذه المساهمات بكونها تقدم رؤية متعددة الأبعاد، تستند إلى مقاربات قانونية وسياسية وسوسيولوجية وحقوقية وتنموية، وتغطي مجالات واسعة تشمل التمويل، والحوكمة، والمشاركة المدنية، والتمكين الاجتماعي، وأدوار الفاعلين المحليين، وإشكالات الاستمرارية.

وتمثل الدراسات المضمّنة في هذا الكتاب محاولة جادة للإجابة عن عدد من الأسئلة المركزية، من بينها:

  • كيف تطورت بنية الفعل الجمعوي في المغرب خلال العقود الأخيرة؟
  • ما هي التحديات التي تواجه الجمعيات في تحقيق الاستمرارية والفاعلية؟
  • كيف يمكن تعزيز استقلالية المجتمع المدني والرفع من قدراته التأطيرية والتنظيمية؟
  • ما هي الاستراتيجيات الممكنة لجعل الجمعيات شريكًا مؤثرًا في صياغة السياسات العمومية؟
  • كيف يمكن الاستفادة من التجارب الدولية في ترسيخ نموذج جمعوي متقدم؟

وتجمع مساهمات هذا الكتاب بين التحليل النظري والملاحظة الميدانية والدراسات الحصرية، بما يجعل منه مرجعًا علميًا مهمًا للباحثين والفاعلين والجمعيات وصنّاع القرار وكل المهتمين بقضايا المجتمع المدني. كما تسهم هذه الأعمال في تطوير النقاش العمومي حول مستقبل العمل الجمعوي، وتدعم الحاجة إلى بناء مجتمع مدني قوي ومؤثر وفاعل في التنمية والديمقراطية.

تتقدم هيئة تحرير هذا العمل بجزيل الشكر والعرفان إلى الجهات التي أسهمت في تنظيم الندوة العلمية التي انبثقت عنها هذه الدراسات، وعلى رأسها مختبر الدراسات القانونية والسياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، ومركز تكامل للدراسات والأبحاث، ومؤسسة هانس زايدل، وجامعة الأخوين بإفران. وقد مكّن دعم هذه المؤسسات من توفير فضاء علمي خصب سمح بتبادل الرؤى وتقاطع الخبرات وإنضاج هذا العمل الجماعي الذي نقدّمه اليوم للقارئ.