الرأسمال الترابي في سياق الجهوية المتقدمة

تقديم عام

أضحت مسؤوليات الدولة المتسمة بجسامتها وتزايدها، من المعطيات البارزة التي تستلزم التفاعل معها، إن على المستوى الداخلي، من خلال إيجاد الحلول الممكنة لإشكالية التنمية الترابية، وتدبير الاختلاف والتنوع الاجتماعيين داخل المجتمع، أو على المستوى الخارجي، بمواكبة روح العصر والتكيف مع التأثيرات الصعبة المتمثلة في ضغوطات الحداثة وعولمة الاقتصاد.هذه التحديات تستوجب البحث عن مقاربة فعالة وسلسة لتصريف ومعالجة مختلف الاكراهات التي تواجهها الدولة دون تفتيت وحدة كيانها.

إن تعثر وظائف وأدوار الدولة في القيام بواجباتها والتزاماتها التنموية على المستوى العالمي، حتّم عليها تطوير أدائها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بشكل موضوعي كفاعل عمومي مركزي من جهة أولى، ومن جهة ثانية، تعين عليها إيجاد من تقتسم معه جسامة هذه المسؤولية من مؤسسات وهيئات، خاصة بعد أن تأكد أن رسم المخططات التنموية وتنفيذها وفق مقاربة مركزية أصبح من تجارب الماضي، التي يصعب نهجها سواء في الحاضر أو في المستقبل، بسبب تنوع وكثرة حاجيات المجتمع بمختلف فئاته وشرائحه، وكذلك جراء الحيوية المتزايدة التي تسِم المشاريع والمخططات الترابية اللامركزية، حيث تطرح كبدائل تنموية تتوخى تحقيق أهداف ذات طبيعة حقوقية إقليمية وجهوية. ناهيك أن الطلب على هذه الآلية يتزايد في ظل مجتمع يسوده التنوع الاجتماعي والثقافي.

من هذا المنظور، تميل معظم الدول إلى طرح القضايا التنموية الحيوية والضرورية لنهضة مجتمعاتها، وتقديم الإجابات الممكنة لمعالجتها وفق أساليب ومقاربات جديدة، بعد استخلاصها لدروس التجارب الماضية في إدارتها للمسائل الرئيسية التي تواجهها. حيث أصبحت مسألة التنمية تتخذ أبعادا مجالية ترابية، وصارت تلعب دور القاطرة في سياق منظومة للحكامة منسجمة المكونات، المراد منها- ومن خلالها- بلورة وإقرار وتنفيذ مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية المجالية.

تأكد ذلك فعليا، بعد أن أضحى مفهوم الجهوية يلقى اهتماما دوليا متزايدا على مستوى صانعي القرار السياسي والاقتصادي، كما على مستوى الباحثين الجامعيين، انطلاقا من العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة، حيث النجاح البارز الذي حققته العديد من التجارب الجهوية المقارنة، انطلاقا من احترام الشروط الديمقراطية اللازمة على المستويين المركزي والجهوي، في أفق تملك الدور الذي يمكن أن تؤديه هذه الآلية المؤسساتية.

برزت فكرة الجهوية بالمغرب-كمشاريع قانونية مع ترقية المجالس الجهوية من مجرد هيئات استشارية إلى درجة هيئات تقريرية، طبقا لمفهوم الجماعة المحلية الذي أصبحت الجهة تنتمي إليه بصريح النص الدستوري (الفصل 100 من دستور 1996) وطبقا لنص القانون بمثابة الميثاق الجهوي لـ 2 أبريل 1997 ، وانسجاما مع دستور 2011 ، حيث اكتسبت الجهة مكانة متميزة باعتبارها جماعة ترابية. فضلا على أن الدستور الجديد قد نص على عبارة الجهوية المتقدمة بشكل لا لبس فيه، والتي تم تكريسها مع القانون التنظيمي المتعلق بالجهات.

ولعل ما كان وراء هذا الترقي القانوني، هو الرهان على المجال الجهوي من أجل مواجهة التحديات التنموية كهدف استراتيجي، كما أن تطوير مؤسسة الجهة يأتي في خضم التطور الديمقراطي الذي أصبح ثابتا من ثوابت الدولة المغربية وفق منطوق الدستور. ذلك أن مؤسسات ووظائف الدولة المعاصرة، لا بد لها من التكيف مع التحولات الداخلية والخارجية على السواء، ولا محيد لها عن ترجمة تلك المطالب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على أساس جديد وأكثر فعالية.

يجدر التأكيد في هذا السياق، أنه رغم محدودية المنجزات المسجلة، إلا أن الجهوية في المغرب أضحت منذ مطلع تسعينات القرن المنصرم، تتمتع باهتمام ومتابعة بالغين من طرف أغلب الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، باعتبارها آلية تنظيمية وتأطيرية لها دورها الحاسم في معالجة إشكالية التنمية الترابية، استنادا إلى الدعامة الديمقراطية التي تشترط دمقرطة المجالات الترابية، ومن تم دمقرطة مجمل البنيات السياسية والاجتماعية الاقتصادية الثقافية للدولة، عبر إفساح المجال للخصوصيات المحلية والجهوية في التعبير عن مكوناتها، بُغية تنمية كل وحدة ترابية على حدة، وانطلاقا منها تنمية الدولة والمجتمع .

إن الانبثاق القوي للوحدات الترابية ومن ضمنها مؤسسة الجهة المتمتعة بالاستقلالية اللازمة في تدبير شؤونها أمر لا جدال فيه. لذلك غدا حضورها الاقتصادي والاجتماعي في ميادين: البنيات التحتية والتشغيل والصحة والتعليم…إلخ، من الأولويات في التجارب المقارنة، وكذلك الأمر بالنسبة لدورها في تنشيط الدورة الاقتصادية المحلية والوطنية، والتفكير في البناء التشاركي لمسلسل التنمية.

وهكذا، فإن تحليل ومقاربة موضوع الجهوية بالمغرب له أهميته وقيمته من زاوية رصد العلاقة الموضوعية بين الانعكاسات السياسية والسوسيو-إقتصادية السلبية،التي أحدثتها وضعية اللاتوازنات المجالية الصارخة، الناتجة عن غياب تصور تنموي واضح في الماضي، في مقابل الامكانية التأطيرية الكبيرة للنموذج الجهوي المبني على أسس ديمقراطية وحقوقية ورمزية، وقدرته على تصحيح الاختلالات السائدة في أفق مستقبل واعد.

غير أن التنمية الجهوية لا تستقيم دون الاستغلال الأمثل للموارد الترابية المتوفرة بالمجالات الجهوية باعتبارها رأسمالا ترابيا وجب تثمينه واستغلاله على أحسن وجه من أجل خلق تنمية ترابية. خاصة وأنالجهات المغربية تتميز بغنى رأسمالها الترابي المرتبط أساسا بتنوع مجالاتها الطبيعية والثقافية والبشرية، وما أبدعته الحضارة المغربية من إرث مادي ولامادي. هذا الرأسمال الوطني شكّل ولفترات طويلة ركيزة أساسية في التنمية الاقتصادية. لكن، مع التزايد السكاني وما رافقه من ضغط على الموارد الترابية، فضلا عما خلفته الفترة الاستعمارية من استغلال مباشر وغير مباشر لكافة الموارد، وتعدد المقاربات التي تبنتها بلادنا منذ الاستقلال إلى غاية الخمسينية الأولى، دخل الرأسمال الترابي في مرحلة تدهور وتراجع مستمّرين. كل هذا أصبح يفرض على كل الفاعلين والمتدخلين في تدبير المجال، سواء على المستوى المحلي أو الجهوي أو الوطني ضرورة التفكير في تجديد زوايا النظر لهذا المفهوم، وكذا بلورة أشكال وأنماط تدبير جديدة تروم تعبئة هذه الموارد لتحقيق تنمية شاملة.

وفي هذا السياق، تطرح إشكالية استغلال الرأسمال الترابي وما يرتبط بها من تعدد أشكال وأساليب التدبير، في ظل مراعاة مبدأ الاستدامة وتحقيق التنمية بمختلف مقاييسها، تحديات مختلفة ترتبط أساسا بغياب التنسيق والتشاور بين مختلف الفاعلين والمتدخلين في الحقل التنموي، فضلا عن صعوبة التمفصل الإداري والترابي فيما بينهم، ذلك أن كسب رهان التنمية الترابية وتحقيق شروطها يتطلب تعبئة وتضافر جهود مختلف الفاعلين المحليين الرسميين وغير الرسميين، على اعتبار أن التنمية الترابية عملية متكاملة لا تتم بواسطة تدخل فاعل محلي دون آخر، وإنما تتم بواسطة سياسات متكاملة ومندمجة، تأخذ بعين الاعتبار المحيط السوسيو- اقتصادي والاختلالات المجالية، وذلك في إطار من التكامل والتشارك بين مختلف هؤلاء المتدخلين. فالهدف من التنمية الترابية هو العمل على تحسين المحيط والظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، عن طريق إيجاد عمليات إجرائية توحد بين مختلف الجهود لحسن استثمار الرأسمال الترابي.

ختاما نشكر كل من ساهم في إخراج هذا المؤلف إلى حيز الوجود من باحثين مشاركين ومحكمّين ومراجعين لغويين، ولا يسعنا أيضا إلا أن نتوجّه بجميل العرفان للمركز الجامعي لقلعة السراغنة (جامعة القاضي عياض) والمجلس الجماعي لمدينة مراكش ومؤسسة هانس زايدل الذين بفضل دعمهم المادي والمعنوي تم عقد مجموعة من الندوات واللقاءات في موضوعات هذا البحث المشترك.

فريق البحث