تدبير المجالات الحضرية بالمغرب في سياق متغير

تمهيد

يكتسي موضوع التدبير الحضري أهمية وراهنية على المستوى الوطني، بالنظر إلى الدينامية التي أصبحت تميز المجالات الحضرية المغربية خلال العقود الأخيرة، ولاسيما التضخم الذي يشهده الجهاز الحضري، والذي من المفروض أن يكون حافزا للتنمية الترابية المحلية والجهوية والوطنية؛ إذا سلمنا بصحة النظريات التي تؤكد على العلاقة العضوية بين التمدن والتنمية، باعتبار المدن عنصرا أساسيا في البنيات المجالية وهيكلة التراب.

لقد انطلقت تجارب تدبير المجالات الحضرية في المغرب، من الإرث الاستعماري الفرنسي والإسباني، حيث كانت الإدارة الاستعمارية قد وضعت أسس النسيج العصري الحديث للمدن المغربية، وفق اعتبارات معينة كانت تخدم رؤية المستعمر وتصوره لاستغلال المجال الحضري وتوفير البنيات اللازمة للاستيطان المدني والعسكري. وبعد حصول المغرب على استقلاله، وجدت السلطات نفسها أمام متغيرات كثيرة: ديمغرافية، اقتصادية واجتماعية…، دفعتها إلى وضع سياسات حضرية مختلفة للتأقلم مع المتغيرات المتعاقبة إلى اليوم.

إلا أن واقع مدننا الحالي يعرف اختلالات وإكراهات عديدة تنبئ بمزيد من التفاقم على مختلف الأصعدة: عمرانيا واقتصاديا واجتماعيا وبيئيا… حيث إن التوسع الحضري تم في الغالب خارج الضوابط القانونية للتعمير، واستفحلت الخروقات المرتبطة بقوانين التجزيء والبناء، كما أن غياب وثائق التعمير والسياسات الاستشرافية والتخطيط الاستباقي، كلها عوامل تساهم في تكريس مظاهر الخلل، وبشكل خاص التناقضات الموجودة داخل الأنسجة الحضرية بين الأحياء النظامية والأحياء الهامشية -التي تراكم كل مظاهر التهميش والإقصاء الاجتماعي، وضعف البنيات والخدمات الأساسية من جهة- وبين المدينة الجديدة والنسيج العتيق الذي طاله النسيان في كثير من الحواضر ذات التاريخ العريق، لدرجة أنه أصبح يهدد أرواح ساكنيه من جهة أخرى.

ولتدارك هذا الوضع أولت السلطات العمومية أهمية خاصة للمدينة من خلال تسطير مجموعة من البرامج الوطنية والمبادرات والاستراتيجيات من قبيل برنامج إعادة الاعتبار الحضري (2003)، وبرنامج مدن بدون صفيح وبرنامج المدن الجديدة (2004)، وبرنامج التأهيل الحضري (2005)، ومشاريع سياسة المدينة (2012)؛ من أجل تعزيز القدرة التنافسية للمجالات الحضرية كفضاءات لاستقطاب الرساميل، وخلق فرص النمو. وتشكل مسألة مراجعة الإطار القانوني المنظم للتعمير، وتحيين القوانين المرتبطة بالجماعات الترابية واختصاصاتها في مجال التنمية والتدبير والتخطيط الحضريين إحدى العناصر الرئيسية لهذه الاستراتيجية.

ومع أن هذه البرامج والمبادرات أصبحت آثارها الإيجابية تظهر تدريجيا في مدننا، فإن الاختلالات تبقى مستمرة، والسياسات الموجهة للتخطيط والتدبير الحضريين تظل قاصرة عن الاستجابة للحاجات الملحة للمواطنين وتحسين القدرة التنافسية للمجالات الحضرية وحكامة تدبيرها، ما يستدعي وقفة تأمل لتقييم هذه البرامج والسياسات، والكشف عن نقط قوتها لتثمينها، ومكامن ضعفها لمعالجتها، حتى تضطلع المدينة فعلا بالأدوار المنوطة بها كحاضنة للمشاريع ومستقطبة لفرص الاستثمار، وتتحقق التنمية الحضرية المندمجة والمستدامة.

من هنا جاءت فكرة تأليف كتاب جماعي حول موضوع: “تدبير المجالات الحضرية في سياق متغير” من قِبل مجموعة من الباحثين والمهتمين ومختلف الفاعلين الترابيين، بُغية مناقشة الأفكار والرؤى وتقييم السياسات والتشريعات، ما من شأنه الارتقاء بمستوى مدننا والإسهام في تعزيز حكامتها وتدبيرها، حتى تتمكن من قيادة التنمية الترابية محليا، جهويا ووطنيا.

وقد توزعت مواضيع الكتاب حول أربعة محاور أساسية يمكن إجمالها فيما يلي:

المحور الأول: يتناول الجانب التاريخي للموضوع، سواء على مستوى البدايات الأولى لظهور النسيج الحضري العصري بالمغرب، أو على مستوى المسار التاريخي لتطور سياسات تدبير المجال الحضري به. على اعتبار أن المعطى التاريخي عنصر مهم في تفسير مجموعة من الاختلالات والإكراهات التي تواجه مختلف سياسات تدبير المجال الحضري في المرحلة الراهنة؛

المحور الثاني: يستهدف مناقشة “مفهوم التدبير الحضري”، والتعريف بمختلف الفاعلين والمتدخلين فيه، ورصد أدوارهم من خلال المقاربتين القانونية والمجالية؛ حيث تتوخى الأولى إجراء قراءة في التشريعات والنصوص التنظيمية المؤطرة للتدبير الحضري، والمؤسسات الفاعلة فيه في التشريعين الوطني والمقارن، وتعطي الثانية أمثلة عن التجارب الناجحة في مجال التدبير الحضري بمدن من المغرب والخارج بغية الاستفادة منها وتعميمها،

المحور الثالث: يروم تقييم البرامج والسياسات العمومية المرتبطة بتأهيل المجالات الحضرية عمرانيا، واجتماعيا، وفي مجال البنية التحتية… من أجل إظهار المكاسب التي تحققت، والتعثرات التي طرحت في تنفيذها، ولاسيما مستوى التنسيق بين مختلف المتدخلين والفاعلين في التدبير الحضري من خلال دراسة نماذج ميدانية،المحور الرابع: يبحث في الاستراتيجيات المنتهجة للتسويق الترابي للمجالات الحضرية، وذلك عبر استحضار الجوانب النظرية والعملية- التطبيقية لعملية التسويق، مع إدراج نماذج من الوطن والخارج؛ على اعتبار أن مسؤولية المدبر الحضري لا تتوقف عند التدبير اليومي، وتوفير الخدمات الأساسية، وتحسين صورة المدينة… بل تتعداها إلى تسويق مؤهلاتها، بالشكل الذي يقوي تنافسيتها، ويضمن إحداث دينامية إيجابية فيها، ويخلق فرص التنمية التي هي مفقودة اليوم في العديد من مدننا التي باتت مجرد تجمعات سكنية.