كتاب الدولة المدنية والحرية في المغرب الكبير

إن واقع استبداد الدولة الوطنية الموروثة عن الاستعمار قد جعل جلّ الأقطار ذات الأغلبية المسلمة ترزح تحت واقع الاستبداد السياسي، وذلك بفعل استحواذ بعض النخب على السلطة السياسية واحتكارها دون باقي القوى الوطنية والشعبية الأخرى، وكذلك بفعل تحالف المال والسلطة، ويشكل هذان المظهران أبرز أعطاب الدولة في الواقع العربي الإسلامي المعاصر والمتمثلة في الفساد والاستبداد، وعنهما تناسلت باقي القبائح الأخرى من غياب للحريات، واحتكار للثروات، وفساد للإدارات… وغيرها.

       لهذا فإن ما شهدته مجموعة من الدول من حراك اجتماعي سیاسي تحت مسمى “الربیع العربي”، شكّل لحظة تاریخیة فارقة في الوعي الجمعي، أعادت طرح قضية الدولة الوطنية من جديد وسبل الارتقاء بها إلى مستوى الدولة المدنية التي تتوفر فيها مواصفات دولة الحق والقانون والتداول السلمي على السلطة، كما أنها أعلت من فكرة الحریة وضرورة الانعتاق من ثقافة التقلید والطغیان؛ إذ كان الشعار الغالب على الحَراك العربي هو :”حرية، كرامة، عدالة اجتماعية”.

       فبخصوص قضية الدولة المدنية، فإن المصطلح قد تمّ تداوله بقوة بعد الحَراك الاجتماعي سواء من خلال تعبير الشعوب عَبره عن تطلعاتها لتحقيق تغيير سياسي حقيقي نحو الديمقراطية والحكم المدني، أو من خلال محاولة النخب السياسية المختلفة وذات التوجهات المتعارضة التعبير عن إرادتها في إيجاد تقارب حقيقي بينها، أو العمل على نفي تهمة محاباة الدولة الدينية أو الدولة العسكرية التي تُلصق عادة بهذه الأطراف.

       والدولة المدنية في أساسها تقوم على مفهوم الإرادة العامة التي تتوج وتعبّر عن التعاقد الاجتماعي داخل المجتمع، وليس يخفى أن هذا التصور قد نشأ في الفكر السياسي الحديث عبر مختلف فلاسفة العقد الاجتماعي، وفلاسفة الأنوار الذين ساهموا جميعا في إحداث قطيعة نظرية مع تصورات العصر الوسيط للممارسة السياسية المستبدة، وقد توّج ذلك فيما بعد بالدولة المدنية الحديثة التي انتقلت عبر تحولات وتراكمات عدة، رغم كل المآسي والحروب التي رافقت هذه التحولات، إلى نمط الدولة الديمقراطية المعاصرة بسلبياتها وإيجابياتها.

       لكن في المجال التداولي لثقافتنا الإسلامية مازال هذا المفهوم يطرح مشكلة مزمنة، تتمثل أساسا في سيادة تصورات عتيقة للممارسة السياسية، تستقي من الأدبيات السلطانية ومن اللاشعور الثقافي السلطوي الكثير من أسهها وقيمها وتمثلاتها للفعل السياسي والتعاقد الاجتماعي، مما يجعل أي حديث عن مفهوم الدولة المدنية يصطدم بهذه التمثلات والتصورات التقليدية.

       وينجم عن التعارض بين التصور الحديث للدولة والتصور التقليدي الشمولي للسلطة، صراعا وتمزقا حقيقيا سواء في واقع الممارسة أو التنظير في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، وقد اتخذ هذا التمزق أشكالا مختلفة من الظواهر السياسية والثقافية والحقوقية والقانونية، اتسمت في غالب الأحيان بالمزاوجة بين التقليد والحداثة، مما جعل مهمة الإصلاح معقدة.

       أما بخصوص فكرة الحرية، فقد احتلت مركز اهتمام إنسان العصور الحدیثة والراهنة على حدّ سواء، حصل ذلك لِما لها من أهمية في تبریر الرغبة في الحیاة وإضفاء المعنى عليها، وقد ترسّخ الوعي بهذه المسألة منذ الاكتشاف النظري والمنهجي لمفهوم الفرد باعتباره شخصا واعیا وذاتا حرّة، تفكّر وتتمثل هذا العالم على أنه موضوع لها. فالحریة بهذا المعنى تحمل دلالات وتجلیات تكمن في عدم الخضوع لإكراهات وحتمیات موضوعیة “طبیعیة وسیاسیة وثقافیة واقتصادیة”، وذاتیة “نفسیة وشعوریة ووجدانیة”، غیر أنّ وجود هذا الإنسان في واقع معطى یخضع لمحدّدات تاریخیة واجتماعیة وثقافیة، فرض الإقرار بمبدأ الحتمیة إلى جانب الحریة، ومن ثمّ ضرورة التسلیم بنسبیة الحریة الإنسانیة ومحدودیة الإرادة.

       ورغم كونیة سؤال الحریة، إلا أنه في مجتمعات الأزمة یصبح أكثر ملحاحیة، بسبب تعاظم الأسباب الموجبة إلى التفكیر مجددا فيه، ولا شك أن المجتمعات العربیة والإسلامیة معنیة بهذا السؤال أكثر من غيرها، فهي لیست في حاجة إلى استئناف طرح سؤال الحریة كموضوع للتفكیر فقط، بل هي في  حاجة ماسة إلى تحویل الحریة إلى موضوع للتطبیق. لأنها بقدر ما تتوق إلى الحریة، على غرار باقي المجتمعات، فهي تواجه مشكلة استعصاء الواقع.

       من هنا الحاجة إلى تعمیق فهم لغة الحریة الحدیثة لإدراك أسباب رسوخ الحریة بمعاني معینة في واقع مجتمعات بعينها من جهة، وإلى فهم مواریث الحریة في مجتمعات الأزمة مفهوما وواقعا، ومنها میراث الحداثة لتفسیر الظواهر في مجتمعات الأزمة ومنها الحركات الاجتماعي، من جهة أخرى.

       ومن الأسئلة التي حاول هذا العمل الجماعي الإجابة عنها والمتعلقة بموضوعات الدولة المدنية والحرية:

       ما هي الدولة المدنية؟ وما هي مقوماتها النظرية والعملية؟ وهل من الممكن أن تقوم دولة مدنية بكل مقوماتها الحقوقية والديمقراطية في مجتمعاتنا العربية؟ وكيف يمكن إحداث قطيعة مع التصورات التقليدية للممارسة السياسية للحكم في بلداننا والانتقال بها إلى واقع الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة؟ وهل حقق الحراك العربي في بلدان المغرب الكبير انتقالا سلميا نحو ترسيخ الدولة المدنية؟..

       ومن جهة أخرى: ما معنى الحرية؟ وهل یمكن تصوّر حریات فردیة من دون قوانین منظّمة لها؟ وما هو الإنسان الحرّ والمجتمع الحر، وما علاقتهما بالدولة؟ هل یمكن للحریة الإنسانیة أن تتحقق في ظلّ وجود العدید من الحتمیات السیاسیة والاقتصادیة والثقافیة والدینیة..؟ وإلى أيّ حدّ یمكن إخضاع الحریة للتنظیم القانوني والتدبیر السیاسي والاجتماعي؟

       للتفكير في هذه الأسئلة والإشكالات ارتأينا محورة النقاش في هذا الكتاب حول مفهوم الدولة المدنية والحرية ومستقبلهما في المغرب الكبير (المغرب، والجزائر، وتونس، وليبيا، وموريتانيا)، وذلك اعتبارا للروابط التاريخية والمصير المشترك بين شعوب هذه الدول. وبدون أن نتعمد إقصاء التفكير في وضعية باقي الدول العربية الأخرى التي يشملها السؤال نفسه والنقاش ذاته، نطرح سؤالا الدولة المدنية والحرية في المغرب الكبير وذلك قصد استجلاء واقع الممارسة السياسية والحقوقية والثقافية والاقتصادية لمجتمعات هذه الأقطار، في ظل الواقع الجديد الذي أفرزته الأحداث التاريخية والسياسية الجديدة بعد أحداث 2011.

Abstract:

Civil State and Freedom in  the Maghreb.

This book originated from two seminars organized by the Takamul Center for Interdisciplinary Studies and Research on subjects of “civil state” and “freedom”. These topics are both fundamental concepts in the contemporary Arab thought. Addidionally, their importance has increased over the last years especially after the Arab Spring. The studies and research carried out in this book provide an in-depth analysis of the themes “civil state” and “freedom” in the Maghreb, using a multidisciplinary approach.