الأسس التصورية العامة للديمقراطية التشاركية

ملخص تنفيذي:

تبنت الدولة الديمقراطية التمثيلية لتأسيس الممارسة السياسية ودعمتها بديمقراطية القرب التي تحمل أبعادا ودلالات تتجه نحو إعطاء السكان أهمية في تدبير شؤونهم، حيث عمل المشرع على إدخال إصلاحات متعددة  لمواكبة التطورات الحاصلة على المستوى الكوني والتكيف مع المستجدات على مستوى البناء الديمقراطي الداخلي. وإذا كانت الأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها من تطبيق هذا النظام متباينة، فإن الديمقراطية التمثيلية أصبحت في العصر الراهن عاجزة عن تحقيق أهدافها، بفعل التناقضات والظواهر السلبية التي أفرزها منطق الأغلبية، فيما أصبح يطلق عليه بإشكالية الديمقراطية التمثيلية، المرتبطة أساسا بإشكالية التمثيل السياسي الذي أخفق في تحقيق مطالب السكان واحتياجاتهم. إن تدنّي المشاركة السياسية التي يفقد الناخبون فيها الإحساس بأنهم ممثلون، وحيث ينتاب الوهن شعور المرء بمواطنته، عائد إما إلى إحساس العديد من الأفراد أنهم مستهلكون أكثر من كونهم مواطنون، أو أنهم منبوذون من مجتمع لا يشعرون أنهم يساهمون فيه. في هذا السياق برزت ضرورة إبداع طرق ونماذج جديدة تسهم في تكريس الديمقراطية وترسخ لفكرة المشاركة السياسية، وذلك من خلال ما يطلق عليه بالديمقراطية التشاركية التي تتحدد في إشراك المواطنين في تدبير الشأن العام، وترتكز نظريا على ضرورة توافر مجموعة من الأسس المتمثلة في التنشئة السياسية التي تنمّي الوعي والثقافة السياسية وتؤدي بالتالي للتشجيع على تبني قيم الديمقراطية، وتجاوز تمظهرات أزمة التمثيل السياسي، وهو ما تحاول هذه الورقة مقاربته بالدرس والتحليل.

كلمات مفاتيح: الديمقراطية التشاركية – التنشئة السياسية – الثقافة السياسية – المشاركة السياسية

Executive Summary:

The democratic state adopted representative to establish political practice and supported it with a democracy of proximity that carries dimensions and connotations that tend to give the population importance in managing their affairs, as the legislator worked on introducing various reforms to keep pace with developments at the global level and to adapt to the developments at the level of the internal democratic structure. If the goals that the state seeks to achieve from implementing this system are different, then representative democracy has become, in the current era, incapable of achieving its goals, due to the contradictions and negative phenomena produced by the logic of the majority, in what has become called the problem of representative democracy, which is mainly related to the problem of political representation that has failed in achieving the demands and needs of the population. The decline in political participation in which the voters lose the sense of being represented, and where the sense of one’s citizenship is weakened, is due either to the perception of many individuals that they are more consumed than citizens, or that they are rejected by a society in which they do not feel they are participating. In this context, the necessity of creating new methods and models that contribute to the consolidation of democracy and the consolidation of the idea of ​​political participation, through what is called participatory democracy, which is defined in the participation of citizens in managing public affairs, and theoretically based on the need for a set of foundations represented in political formation that develops awareness and political culture and thus lead to encourage the adoption of democratic values, and to overcome the manifestations of the crisis of political representation, which is what this paper attempts to approach with study and analysis.

Key words: participatory democracy – political socialization – political culture – political participation


يرتبط بناء أنموذج للديمقراطية التشاركية في المغرب بضرورة إحداث تغييرات وتحولات متعددة في النسق السياسي، الذي لا ينفصل عن الأنساق الاجتماعية الأخرى، تحولات تنصب بالأساس على إعادة النظر في الأساليب التقليدية لتدبير الشأن العام لصالح ترسيخ آليات جديدة تضمن المشاركة الفعلية للمواطنين في صناعة السياسة التنموية، ولن يتأتى هذا التحول فقط من خلال التنصيص عليه في القوانين وإقراره على مستوى المؤسسات، بل يتعدى ذلك إلى المضمون، بحيث إذا لم تخترق المبادئ الديمقراطية المجتمع، فإن وجود تلك المؤسسات يكون بدون معنى. ولعل من أهم قنوات هذا التحول، ضرورة البدء من الأفراد عبر تنشئة سياسية ديمقراطية وتكريس ثقافة سياسية مشاركة، من أجل أن يصبح للمواطن تصور واختيارات تدفعه للمشاركة الواعية لتحقيق تنمية فعلية، ما سيمكن من ترسيخ عدد من المرتكزات قوامها فتح المجتمع للنقاش الديمقراطي الحقيقي، ما يشكل في المجمل الأرضية النظرية التأسيسية للديمقراطية التشاركية.

إن التوجه نحو بناء أنموذج للديمقراطية التشاركية لتدعيم الديمقراطية التمثيلية يستلزم التوجه نحو بناء ثقافة ديمقراطية، عبر تنشئة سياسية للمواطن تجعله يهتم بتدبير الشأن العام سواء الوطني أو الترابي، تجسد مدخلا تربويا سياسيا يروم تشييد ثقافة سياسية تكون محفزة ومؤهلة لمشاركة سياسية ذات مضمون ديمقراطي مواكبة للعصر.

إن الديمقراطية التشاركية لا تقوم في ظل مجتمع لا تسود فيه قيم الديمقراطية، ومبادئ حقوق الإنسان، فهي تنهض في مجتمع سليم مبني على احترام الاختلاف، حرية التعبير وقدرة الفرد على التغيير بالطرق السلمية. وهذا لن يتأتى إلا بتنشئة سياسية بمضمون ديمقراطي، تساهم في صقل وتنشئة الفرد على قيم المواطنة، وتنهل من الثقافة السياسية المبادئ التي تدفع المواطن للمشاركة الإيجابية في تدبير شؤونه، وإلا فإن الديمقراطية التشاركية لن تجاوز المقتضيات المضمّنة في الوثيقة الدستورية والنصوص القانونية، ولن تكون لها الأرضية الفكرية الخصبة لتوطيدها في المجتمع.

يكتسي مفهوم الديمقراطية التشاركية أهمية بالغة ذات بعدين، يتمثل البعد الأول في الجانب النظري، إذ تشكل الديمقراطية التشاركية مفهوما جوهريا في حقل القانون العام والعلوم السياسية، بالنظر إلى كونه يتأسس على مجموعة من المفاهيم الإجرائية ويتقاطع مع عدد من النظريات والمفاهيم ذات الصلة بهذا الحقل المعرفي، بالتالي فالبحث في موضوع الديمقراطية التشاركية يساعد على فهم واستيعاب الظواهر السياسية التي تتسم بنوع من التعقيد، كما أن مقاربة هذا المفهوم بالبحث والتحليل من شأنه أن يغني الحقل المعرفي القانوني والسياسي بالشكل الذي يمكن من تحقيق التراكم ويساهم في تأطير الظواهر السياسية والإحاطة بها. أما البعد الثاني فهو عملي يتحدد في كون الديمقراطية التشاركية تعد من المقومات والمرتكزات الأساسية للنظام الدستوري المغربي، إذ نص المشرع الدستوري عليها في الفصل الأول من الوثيقة الدستورية لسنة 2011 بالإضافة إلى نصه على مجموع آلياتها (الحق في تقديم العرائض، حق تقديم الملتمسات في مجال التشريع، هيئات التشاور) التي تضمنتها فصول متفرقة (الفصول 13، 14، 15، 139)، كما أنها تعتبر منهجا في التعامل مع عدد من القضايا المحورية في الحياة السياسية المغربية، حيث تم تكريس الديمقراطية التشاركية كمقاربة في التدبير والتعامل مع الأحداث والمواضيع التي تكتسي أهمية لدى مختلف الفاعلين وتشغل حيزا من النقاش على مستوى الرأي العام من قبيل الدستور، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، الإجهاض، مدونة الأسرة، الجهوية والنموذج التنموي وغيرها، وعليه فدراسة أسس الديمقراطية التشاركية لا يخلو من أهمية بالغة لا شك أنها ستنعكس إيجابا على الواقع العملي.

في هذا السياق تبرز إشكالية مركزية تروم بسط وفهم وتحليل الأسس التصورية العامة للديمقراطية التشاركية، وتتحدد في طرح سؤال الدور الذي تسهم من خلاله هذه الأسس النظرية العامة للديمقراطية التشاركية في تكريس نمط جديد للتدبير العمومي، بما يستجيب لحاجيات ومتطلبات الساكنة ويسرع من وتيرة التنمية في بعديها الوطني والترابي.

وعن هذه الإشكالية تتفرع عدة أسئلة، يمكن إجمالها في الآتي:

  • ما هي الأسس النظرية للديمقراطية التشاركية وما دلالاتها؟
  • كيف تساهم في تكريس الديمقراطية؟ وما أثرها على التنمية؟
  • ما هو الإطار القانوني المنظم للديمقراطية التشاركية؟

ولمحاولة الإجابة عن هذه الإشكالية وما انبثق عنها من أسئلة فرعية، سنقسم الموضوع للمحاور الرئيسية التالية:

المحور الأول: التنشئة السياسية للمواطن

المحور الثاني: ثقافة سياسية مشاركة


المحور الأول: التنشئة السياسية للمواطن

 يعرف “كينث لانتون Longton Kenneth” التنشئة السياسية على أنها تلك الطريقة التي ينقل بها المجتمع ثقافة سياسية من جيل إلى جيل، أو تلك العملية التي يتعلم من خلالها الفرد المواقف الاتجاهية، والأنماط السلوكية الوثيقة الصلة بالحياة السياسية[1]. أما “هايمان هوربرتHayman HERBERT ” فيعتبرها تعلم الفرد لأنماط سلوكية اجتماعية تساعده على أن يتعايش سياسيا مع هذا المجتمع[2].

 في حين يعرف كل من “جرين شتاين وسيدني Greenstin and Sideny” التنشئة السياسية بكونها التلقين الرسمي وغير الرسمي للمعارف والقيم والسلوكيات السياسية، وخصائص الشخصية ذات الدلالة السياسية وذلك في كل مراحل الحياة عن طريق المؤسسات والبنى المختلفة في المجتمع[3].

من خلال التعريفات السابقة يمكن اعتبار التنشئة السياسية تعليما أو تلقينا لسلوكيات معينة أو هي عملية تعايش يكتسب المرء من خلالها مجموعة قيم تتشكل في شخصيته السياسية، فهي تعريفات تحصر مفهوم التنشئة السياسية في التأثير الذي تمارسه على الفرد من حيث تبني هذا الأخير للتوجهات والقيم المختلفة السائدة في مجتمعه إما عن طريق التعليم وإما عبر التعايش. في حين ينظر البعض إلى التنشئة السياسية باعتبار الوظيفة التي تؤديها داخل النسق السياسي، فيعرفها بالشكل الذي تصبح فيه مجرد أداة للحفاظ على النسق السياسي القائم، وذلك بتلقين الفرد التوجهات والقيم السياسية السائدة في المجتمع والداعمة لنسقه السياسي. بينما يعطيها البعض الآخر تعريفا محايدا، بحيث تصبح أداة في خدمة التنمية السياسية المفتوحة على كل التوجهات والاحتمالات. في هذا الصدد يمكن تحديد ثلاث خصائص للتنشئة السياسية وفق ما سبق بسطه تتمثل في الآتي: 

  • الخاصية الأولى: التنشئة السياسية تعمل على أن يكتسب الإنسان الثقافة السياسية من قيم وتوجهات الحياة السياسية السائدة في بلده، فهي عملية متواصلة وتدريجية تبدأ منذ الطفولة وتستمر حتى الشيخوخة من باب المضمون السياسي للثقافة السائدة التي تمكنه من فهم الظروف العامة التي تحيط بالعملية الانتخابية أساسا.
  • الخاصية الثانية: التنشئة السياسية تعبر عن تلك الثقافة السياسية في شخصية الفرد التي تعكس ما هو سائد، حيث يتحدد السلوك السياسي الفردي انطلاقا من الثقافة السياسية للمجتمع، فالمجتمع الديمقراطي يفترض أن تؤدي التنشئة السياسية فيه إلى خلق مواطن يؤمن بحرية الرأي وبالتعددية السياسية.
  • الخاصية الثالثة: تمكن التنشئة السياسية من التكيف مع النسق السياسي، يعني أن الفرد يشعر بالانتماء الحقيقي لهذا النسق كمشارك أو مؤيد أو معارض حيث لا يشعر بالاغتراب السياسي عن الثقافة السياسية السائدة في  مجتمعه.

 إن التنشئة السياسية تكسب الفرد حمولة ثقافية وفكرية في مجال العمل السياسي، فيما يتعلق بالمشاركة السياسية، إما بالتأييد أو التعايش مع النظام السياسي القائم[4]. هذا التكيف والتجاوب مع النسق السياسي هو الذي يحدد موقف الفاعل السياسي من العملية الانتخابية، بحيث كلما زاد تكيف الفاعل مع النسق السياسي إلا وازداد تجاوبه وانسجامه مع الانتخابات، وهو أمر من شأنه أن يزيد من فعالية ومصداقية هذه الأخيرة[5].

ومن هذا المنطلق، تعد المشاركة السياسية تعبيرا عن طبيعة التنشئة السياسية التي يتلقاها الفرد، إذا كانت تنشئة سياسية مبنية على التأييد للنظام السياسي القائم، فإن ذلك يشجعه على المشاركة السياسية الايجابية، ويدفعه إلى الثقة السياسية في الحكومة وباقي مؤسسات النظام السياسي، ويعمل على إكسابه الكفاءة السياسية التي تقوي لديه الولاء الوطني وتعمق الإحساس بالمسؤولية اتجاه المجتمع بما يجعله يهتم بالشأن العام وينخرط في تدبيره عبر ما توفره الديمقراطية التشاركية من آليات، هذه الأخير التي تتمثل أساسا -على المستوى الوطني- في الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع والحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية، الذي نصت عليهما الوثيقة الدستورية لسنة 2011[6] على التوالي في الفصلين 14 و 15، ونصت كذلك على آليات تشاركية أخرى على المستوى الترابي تتجلى في وضع هيئات للتشاور والحوار وتقديم العرائض للمجالس المنتخبة في الفصل 139. لتعمل القوانين التنظيمية الصادرة سنتي 2015 و 2016 على تفعيل هذه المقتضيات الدستورية وذلك من خلال القانون التنظيمي رقم 64-14 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع[7]، والقانون التنظيمي 44-14 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية[8]، إضافة إلى أن القوانين التنظيمية للجماعات الترابية[9] ( ق.ت المتعلق بالجهات 111-14، ق.ت المتعلق بالعمالات والأقاليم رقم 112-14، ق.ت المتعلق بالجماعات 113-14) تضمنت هي الأخرى النص على شروط وكيفية ممارسة الآليات التشاركية في بعدها الترابي. على الرغم من أن الشروط التي تضمنتها مقتضيات هذه القوانين التنظيمية لممارسة الحق في تقديم العرائض أو الملتمسات في مجال التشريع تجعل من مسالة التفعيل أمرا صعبا، ولعل هذا ما يفسر محدودية اللجوء إلى هذه الآليات للتعبير عن المطالب والمشاركة في العملية السياسية، في الوقت الذي يزداد فيه الإقبال أكثر على وسائل الاحتجاج إما الكلاسيكية المرتبطة بالتظاهر في الشارع أو أمام المؤسسات السياسية مثلا، أو عن طريق الوسائط الرقمية المتاحة. ذلك أن بعض الباحثين سجلوا فقط في صيف سنة 2017 عرف المغرب احتجاج أزيد من 37 مركزا من مجموع مراكزه البالغة 700[10]، وأن المغرب كان يشهد ما يقارب 31 احتجاج في اليوم[11]، مقابل عدد ضئيل من العرائض التي قدمت إلى السلطات العمومية لا تتجاوز 8 عرائض[12]،  6 منها لرئيس الحكومة و2 فقط لمجلس النواب، وعدم تقديم أي ملتمس إلى حدود كتابة هذه الأسطر. ما يجعل من مسألة تعديل شروط ممارسة الحق في تقديم العرائض والملتمسات في مجال التشريع أمرا لا محيد عنه، وذلك في أفق تيسير ممارسة المواطنات والمواطنين لحقهم في تقديم العرائض[13]، بما يمكن من مأسسة الفعل الاحتجاجي ويكرس الديمقراطية التشاركية.

على هذا الأساس تكون التنشئة السياسية للمواطن المدخل الأصيل والمقدمة الأولى للديمقراطية التشاركية، بحيث لا يمكن تصورها -الديمقراطية التشاركية- على مستوى الفعل والممارسة في غياب تنشئة سياسية تدفع المواطن إلى الاهتمام بالشأن العام، وتكون حاملة لثقافة سياسية ذات مضمون ديمقراطية.

المحور الثاني: ثقافة سياسية مشاركة

يتضمن مفهوم الثقافة السياسية ثلاث دلالات أساسية:

  • الدلالة الأولى: تعني كل ثقافة تتخذ لها من المجال السياسي فضاء معرفيا وتداوليا فتهتم باتجاهاته النظرية ومسائله الكبرى، ويضبط المختصون في هذا السياق محددات عدة منها المحدد المعرفي المتمثل في المعلومات والمعارف ذات الطابع السياسي، والمحدد العاطفي الذي يتجلى في طبيعة العلاقات بين المواطنين والقادة والمؤسسات، ثم المحدد القيمي[14] والمتمثل في مختلف الأحكام والتمثلات والتقييمات التي يتبناها أو يصدرها الأفراد على الظواهر والمؤسسات.
  • الدلالة الثانية: تعني التنشئة ببعديها السياسي والاجتماعي، ويرتكز على تعريفه للثقافة السياسية كونها تتحدد في أن الأفراد يتعلمون المواقف السياسية ويكتسبونها في وقت مبكر من حياتهم، لتأخذ بعد ذلك في الانبثاق والتجلي[15].
  • الدلالة الثالثة: تعد أكثر دقة كما يصفها عالم السياسة “لوسيان بايLucien PYE ” الذي يرى أن الثقافة السياسية هي مجموع الاتجاهات والمعتقدات والمشاعر التي تعطي نظاما ومعنى للعملية السياسية، وتقدم قواعد مستقرة بحكم تصرفات أعضاء النظام السياسي.

ومن ثم فإن الثقافة السياسية هي التي تهم كل ما يتعلق بتدبير الشأن العام من نظام الدولة، وأدوار هيئات وتنظيمات المجتمع السياسي، وآليات اشتغالها ووسائل التعبير عن توجهات الرأي العام، وتقييم الخيارات التي تتبعها السلطات العمومية، وكذا مناهج وطرق التدبير، واتخاذ القرارات وأداء المؤسسات والهيئات المزاولة للعمل السياسي[16].

فالثقافة السياسية تشكل الوعاء السياسي الذي يمكن أن يحافظ على الديمقراطية ويضبط حركتها ويساهم في تطويرها، وثقافة الديمقراطية تقوم على التكامل والتلاقي والتسامح والاعتراف بالآخر والمشاركة، في حين أن ثقافة الاستبداد تقوم على القمع والقطيعة وإدعاء الأفضلية والاستعلاء وإقصاء الآخر وتهميشه[17].

وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن للثقافة السياسية أشكالا متعددة، حيث ركز “غابريال ألموندGabriel ALMOND ” على الأبعاد الإدراكية، التأثيرية والتنظيمية للقضايا والمؤسسات السياسية، لتحديد أنماط الثقافة السياسية، حيث هناك نمط الثقافة السياسية المشاركة التي تسود حين تكون التوجهات ايجابية، ونمط الثقافة السياسية التابعة أو المحددة عندما تتوافر التوجهات السلبية ويدرك المواطنون أنهم غير قادرين على التأثير في النظام[18]. ويقوم نمط الثقافة السياسية المشاركة على أساس رابطة المواطنة التي تدفع وتقود الأفراد إلى المشاركة في العملية السياسية والمساهمة الطوعية في الحياة السياسية.

ففي ظل الثقافة السياسية المشاركة، يتدافع الأفراد للانغماس في العمل السياسي والإقدام على المساهمة النشيطة في الحياة السياسية على كافة المستويات عبر ما تتيحه الديمقراطية (التمثيلية والتشاركية من آليات)، حيث يكون الأفراد مواطنون ومشاركون ناشطون، إذ يمتلكون مستوى عال من الوعي السياسي، ويقومون بدور فعال في الحياة السياسة، ومن ثم يؤثرون بشكل كبير في النسق السياسي من خلال الفعل والمساهمة في الانتخابات، تنظيم المظاهرات، تقديم العرائض والملتمسات، الاحتجاجات إلى غيرها من تمظهرات ممارسة العمل السياسي. ولا تقتصر أهمية الثقافة السياسية على كونها موجه للسلوك السياسي لأفراد المجتمع، وعلى كونها محدد لطبيعة علاقة الفرد بالسلطة واتجاهه نحو هذه السلطة، ولكنها أيضاً تفسر لنا استجابات الجماهير تجاه بعض الظواهر أو الممارسات السائدة[19]. ولعل المتأمل في ثقافتنا السياسية القائمة، التي تحولت، كما يشهد عليها واقعنا السياسي، من ثقافة مؤطرة بحد أدنى من الثقافة (السلفية الليبرالية، الحركة الوطنية، التقدمية اليسارية)، إلى ثقافة مكيافيلية لا تؤطرها مرجعية، دهرية كانت أم دينية، ولا يحكمها منطق[20]، يعي حجم التأثير الذي تمارسه الثقافة على الفرد لاسيما في علاقته بما هو سياسي. في هذا السياق يمكن تعداد ثلاث أشكال على الأقل من طرائق التعبير، ظهرت وانتشرت بالموازاة مع احتجاجات 20 فبراير، والتي تجسد للثقافة في علاقتها بالمعطى السياسي. الشكل الأول يتعلق بمسرحة الاحتجاج على حد تعبير أحد الباحثين[21]، فسواء كان ذلك عبر من خلال عملية إهداء فتيات 20 فبراير الورود لرجال الأمن، والتي تذكر بثورة القرنفل في البرتغال في عام 1974، أو حتى مشاهد مسرح الشارع، الساخرة من البرلمان من أمام مبناه مباشرة، فإن الشباب كانوا يصوغون الاحتجاج في شكل عروض، ويرسون ضمن المشهد العام ثقافة الأداء الفني والتواصل التحريضي والاحتجاجي. والشكل الثاني يتمثل في استخدام الرسوم المتحركة باعتبارها شكلا افتراضيا ومعديا للتعبير الاحتجاجي أو الساخر، ويمكن عدّ بطل سلسلة “بوزبال” وهو يسخر من ندّه “كيليميني”، الأنموذج الأول للشاب الذي يتم ازدراؤه وإساءة معاملته، والذي ينتفض على شبكة الانترنت، من دون أن يفقد حس السخرية. أما الشكل الثالث فهي ظاهرة ثقافية تتعلق بالوسومات على الجدران وغيرها من مظاهر “فن الشارع”، التي كانت تسمح بتجاوز اللافتات التقليدية لتسليط الضوء على رسائل محددة ومنحها جاذبية[22]. إن هذه الأشكال التعبيرية تدل على ثقافة سياسية مشاركة، تجسد باختلاف أنماطها الوعي السياسي لدى الشباب المندفع نحو الانغماس في التدافع السياسي والمهتم بالشأن العام، عبر انخراطه في الحياة السياسية من خارج المؤسسات والذي يتفاعل عبر الوسائل المتاحة لاسيما منها الرقمية والرمزية. هنا تتجلى أهمية الآليات التشاركية التي تسهم في تأطير النقاش  العام ومأسسة الفعل الاحتجاجي وإشراك هؤلاء الفئات في القرار السياسي والتنموي، والتفاعل أكثر مع المطالب الشعبية، بالشكل الذي يمكّن من الاستجابة لها أولا، ويساعد على تجاوز إشكالات التمثيل السياسي أو ما يعبر عنه بأزمة الديمقراطية ويعيد الثقة في المؤسسات والقنوات التمثيلية ثانيا.

وعليه، فإن الثقافة السياسية تكشف عن التوجهات والتقييمات والأحكام التي تتشكل على ضوءها البنى السياسية، و آليات العمل التي تتم بموجبها عملية صنع واتخاذ القرارات السياسية، من ناحية انفتاحها أو انغلاقها أمام مشاركة الأفراد والجماعات والقوى المختلفة في إطار الأنشطة ذات الطابع السياسي[23].

لتكون بذلك التنشئة السياسية للمواطن على مبادئ الديمقراطية الأصيلة ضمن ثقافة سياسية مشاركة تحض على الفعل والمساهمة في عملية صنع القرار السياسي والتنموي، هي الأسس والمرتكزات الأساسية المساهمة في بناء ديمقراطية تشاركية مكملة وداعمة للديمقراطية التمثيلية بما يخدم الاستجابة للمطالب والحاجيات ويساعد على تسريع وتيرة التنمية.


[1]-Longton Kenneth, Political socialization, BOSTON, Little Brown, 1969, P:65.

[2]– Hayman Herbert, Political socialization, A study in the psychology of political behavior, NEW YORK, 1959 p67.

[3]– Greenstin and Sideny, the study of french political socialization, world politics, 1968.

[4]– علي سعد إسماعيل، أصول علم الاجتماع السياسي، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 1988، ص:143.

[5]– خالد بن ادريس، المشاركة السياسية بالمغرب، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية عين الشق -الدار البيضاء-، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، السنة الجامعية 2005-2006، ص: 456

[6] – ظهير شريف رقم 1.11.91 صادر في 27 شعبان 1432 (29 يوليو 2011) بتنفيذ نص الدستور الصادر بالجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر الصادرة بتاريخ 28 شعبان 1432 (30 يوليو).

[7] – ظهير شريف رقم 1.16.108 صادر في 23 شوال 1437 (28 يوليو 2016) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 64-14 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع، الصادر بالجريدة الرسمية عدد 6492 بتاريخ 14 من ذي القعدة 1437 (18 أغسطس 2016).

[8] – ظهير شريف رقم 1.16.107صادر في 23 شوال 1437 (28 يوليو 2016) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 44.14 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة العرائض إلى السلطات العمومية، الصادر بالجريدة الرسمية عدد 6492 بتاريخ 14 من ذي القعدة 1437 (18 أغسطس 2016).

[9]– القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية الصادرة بالجريدة الرسمية عدد 6380 بتاريخ 6 شوال 1436 (23 يوليوز 2015).

[10] – عبد الإله سطي، احتجاجات الهوامش: القشرة وما تخفيه، مقال صادر عن المعهد المغربي لتحليل السياسات، تاريخ النشر 12 مارس 2018، https://mipa.institute/5495، تاريخ الاطلاع: 08 ماي 2021.

[11] – عبد الرحمان رشيق، حركة 20 فبراير: تتويج للاحتجاجات في المغرب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت، نوفمبر 2018، ص: 149.

[12] – انظر البوابة الوطنية للمشاركة المواطنة: https://www.eparticipation.ma/espace/liste_petitions، تاريخ الاطلاع: 08 ماي 2021.

[13] – المادة 17 من القانون التنظيمي رقم 44-14، مرجع سابق.

[14]– Maurice DUVERGER, Sociologie de la politique , P.U.F, 1eredition, 1973, p79.

[15]– Maurice DUVERGER, op, cit. p79.

[16]– عبد القادر العلمي، في الثقافة السياسية الجديدة، منشورات الزمن، كتاب الجبر، العدد 47، 2005، ص:3

[17]– عبد اللطيف بكور، دستور 2011 وسؤال الانتقال الديمقراطي، المجلة المغربية للسياسات العمومية، العدد 8، 2012، ص93.

[18]-G. Almond & Verba, The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations, Boston, Little Brown and Comp., 1965, pp. 1-30.

[19] – عادل عمر، الثقافة السياسية والوعي السياسي، مقال صادر عن مركز مقديشو للبحوث والدراسات، تاريخ النشر 9 نوفمبر 2019، http://mogadishucenter.com/2019/11/ ، تاريخ الاطلاع: 08 ماي 2021.

[20] – محمد بهضوض، السياسة الثقافية في المغرب -الحصيلة والآفاق-، مجلة الأزمنة الحديثة، عدد 13، المغرب، سنة 2016، ص: 24.

[21] – إدريس كسيكس، الحصيلة الثقافية ل20 فبراير: المكونات والامتدادات الإعلامية والثقافية لحركة ذات حمولة سياسية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت 2018، ص:494

[22] – المرجع نفسه، ص:495.

[23]– حسن علوان، إشكالية بناء الثقافة المشاركة في الوطن العربي، سلسلة طريق المعرفة، الطبعة الأولى، بيروت، 2009، ص17.

مراجع مختارة:

إدريس نبيل، الديمقراطية التشاركية: مقاربات في المشاركة السياسية، مركز الكتاب الأكاديمي، القاهرة، سنة 2018.

آلان تورين، ما الديمقراطية؟، ترجمة عبود كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة السورية، سلسلة دراسات فلسفية، دمشق 2000.

جيري نجيب، الديمقراطية التشاركية: براديغم جديد لتدبير الشأن المحلي، مجلة الحقوق المغربية، عدد 13، سنة 2012.

جيري نجيب، الديمقراطية المحلية وسؤال التنمية التشاركية، نحو لامركزية القرار التنموي، مجلة المتوسط للدراسات القانونية والقضائية، عدد 3، مكتبة دار السلام الرباط، 2017.

حسن علوان، إشكالية بناء الثقافة المشاركة في الوطن العربي، سلسلة طريق المعرفة، الطبعة الأولى، بيروت، 2009.

خالد بن إدريس، المشاركة السياسية بالمغرب، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية عين الشق، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، السنة الجامعية 2005-2006.

عبد القادر العلمي، في الثقافة السياسية الجديدة، منشورات مجلة الزمن، العدد 47، 2005.

محمد سدقاوي، الديمقراطية التشاركية المحلية في المغرب، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سطات، جامعة الحسن الأول، السنة الجامعية 2014-2015.

مراد دياني وآخرون، 20 فبراير ومآلات التحول الديمقراطي في المغرب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، نوفمبر 2018.