هل يمكن أن تكون الشاشة ضدّ الكتابة؟

لوك فيري / أندري كونت سبونفيل

ترجمة الحسين أخدوش

يتعلّق الأمر في هذا النص بمحاورة فكرية بين الفيلسوفين الفرنسيين لوك فيري وأندري كونت سبونفيل حول حدود وسائل الإعلام الجديدة وتأثيرها على

الفكر والثقافة.

  • مداخلة لوك فيريل (Luc Ferry): هل يمكن أن تكون الشاشة ضدّ الكتابة؟  

« لماذا يثير عالم الصور، وخاصة عالم التلفاز، الفكر إلى الحدّ يعتبر فيه جنسا أدبيا جديدا؟ لا نكاد نجد  موسما يمرّ دون يأتي بحصاد من مقالات غير إعلامية تكرّر كلّ يوم تقريبا نفي التفاهات: الخضوع لاكراهات المشاهدة، الخضوع لمنطق القهري للمشهد والتسلية، سيكون طريق الثقافة والمعلومة الإعلاميين هو الهلاك. لأسباب تقنية وأيديولوجية، هيمنة السرعة على ضرورة وجود الصدق والجد، والمعاش على المتصوّر، والحاضر على الزمان، والعاجل على المسافة، والمرئي على غير المرئي، وتصدم الصورة الفكرة، والإحساس على التفسير … إلخ. قمت بانجاز اختبار والذي هو كالآتي: قراءة خمسة عشر أو عشرون مرجعا المخصّص حديثا لمساوئ المجتمع الإعلامي، وكانت اللائحة مذهلة، وبدون إضافة من عندي ولا مبالغة نجد: أنّ التلفاز يسلب العقول، فهي تعرض نفس المادة للكل، وتنقل أيديولوجيا من صنعوها، تشوّه خيال الأطفال، تضعف فضول البالغين، تشلّ الذكاء، تمارس مراقبة سياسية ماكرة، تصنع إطار فكرنا دون علمنا، تنقل المعلومة كما تشاء، تفرض نماذج ثقافية سائدة (لا يمكن التجرؤ لقول لفظة بورجوازي)، لا تعرض سوى جزء قليل من الواقع، وتقوم بتناسي حقيقة العالم الحضاري، الفئات المتوسطّة والقطاع الثالث، حياة البوادي، ماسي العمّال، اللغات والثقافات المحلية، تسبب الكسل وعدم الفاعلية، تهدم وتدمّر العلاقات بين الأشخاص داخل الأسر، تقتل الكتاب، وبصفة عامة كلّ ثقافة صعبة المنال، تحرّض على العنف والفظاظة والإباحية، تمنع الأطفال من أن يصبحوا راشدين، تنافس بطريقة غير شرعية العروض الحيّة الهادفة كالسيرك، المسرح، المقاهي الفنية، أو السينما، تولّد فتور الشعور وعدم المبالاة لدى المواطنين بسبب كثرة المعلومة غير النافعة وعديمة الفائدة، تبطل التسلسل الهرمي الثقافي، وتجعل التواصل مكان الثقافة، والبعد الفكري مكان المشاعر الزائفة والسطحية، تعطي الأولوية للسرعة والعجالة بدل كل تأني ضروري يهدف إلى تأملّ عميق، تنافس وتنقص من قيمة المدرسة … إلخ.

بالتأكيد، لا يمكن أن يكون كلّ شيء خطأ في هذه اللائحة الفظيعة، كما أنّه ليس صحيحا البتة، وهي لم تجعل من الحقيقة أولى اهتماماتها وأولويتها، هم قبل كلّ سيء هو الموقف، كنت سأقول بعد النظر الذي يمنح الموقف النقدي. فهل يمكن أن يتعلّق الأمر بتفاهة كبيرة؟ هنا أطرح السؤال: لماذا إذاً؟

الفرضية الأولى تتعلّق بالمزدرين المهنيين أنفسهم، حيث نجد جذرية النقد أكبر من خيبة الأمل التي يوحي بها المشهد التلفزي اليوم باعتبارها وسيلة تواصل بكثافة، حيث أنّ الشاشة الصغيرة كان بإمكانها خدمة مصالح الجمهورية ونشر ديمقراطية حقيقية للثقافة، لكنّها تكتفي بالتضليل الإعلامي وإفساد العقل. فكما هو معروف، من يحب كثيرا يعاقب كثيرا، وبذلك ينبغي أن تكون الإنذارات والتوبيخات صارمة جدّا.

أما فيما يخصّ الفرضية الثانية والتي أجدها أكثر صوابا، وهي أنّ التلفاز والوسائل الإعلامية الحالية أصبحت منذ الستينيات رمزا للعصرنة والتقدم، ونموذجا مثاليا للعالم الديمقراطي المتكتل؛ ولهذا تميل هذه الوسائل الإعلامية إلى لفت انتباه انتقادات العالم المعاصر التي تم نهجها في ثلاثينيات القرن الماضي والمستحدثة لاحتياجات القضية. وكما كنت أشير دائما إلى انّه بعد الحرب العالمية الأولى بدا العالم الديموقراطي (لليبرالية السياسية) يعرف نوعين من التشهير: الأول يتجلّى في الإلهام الرومانسي، والذي يؤدي إلى حد الفاشيستية، المستوحى من إحياء مثالي لكل النعم الضائعة. أما الثاني، فهو تقدمي، عكس الأول فهو يهدف إلى إقامة شروط مستقبل مشرق. وأنا ازعم إننا نجدهم اليوم، كما هم، وإن كانوا قد تحسنوا في ما يخص التلفاز. »

(…)

  • مداخلة أندري كونت سبونفيل (  André comte-sponville): هل يمكننا أن نقرأ أرسطو على الإنترنيت؟

«إنّها المرّة الأول التي أصادف فيها الصعوبة في مباشرة العمل منذ أن شرعنا في تأليف هذا الكتاب، بل أكثر من ذلك، إنّني بدأت اشعر بنوع من الإرهاق بسبب حجم هذه المهمة، ومن فرط الاستغراق في تعقيد هذه المشكلة. أو بالأحرى، فإنّ العكس هو ما ينبغي أن يحصل لأنّ الموضوع يظهر لي فقير، وفي كلّ الأحوال لا يستهويني أبدا، وأخشى ألاّ أجد سوى القليل لقوله بخصوصه. فأنا اهتمّ لأمر الرسائل الإعلامية أكثر من أدواتها. لكن كيف لهذه الوسائل الإعلامية أن تحلّ محلّ رسائلها رغما ما يزعمه “ماكلوهان”؟ إنّ بثّ تفاهة لملايين المرّات لسوف تبقى دوما تفاهة، بينما كلام صحيح وعميق يتم إعلانه أو توصيله لبعض الناس فقط، لا يفقد عمقه ولا صحته. غير أنّه إذا كانت الطباعة لم تغيّر ما هو جوهري، فلما تفعله التلفاز بزيادة؟

إنّني عندما أقول بأن الطباعة لا تغير ما هو ضروري، كما لا يغيّره التلفاز كذلك، فماذا الذي أقصده بذلك؟ إنّني أذكر على سبيل المثال “مونطين” الذي كان يملك الأعمال المطبوعة لكل من سينيكا و”بلوتارك”، حيث كان يجد فيها زاده وسعادته، وهو نفس الأمر الذي يستطيع معاصروه القيام به، والذين لا يملكون سوى أعمال مخطوطات مكتوبة باليد. وكما يمكن لنا دائما قراءة مؤلفات “أرسطو” أو “لوكريس” – كما الشأن بالنسبة لمعاصريهما، وكذلك بالنسبة لـ”مونطين”- قصد أن نجد فيها ما يبدو لنا مهما: أي رؤية معينة للعالم وللإنسان التي يمكنها أن تنيرنا وتريحنا، فتجعلنا نفكر ونتساءل. لذلك، فإنّ ما هو أساسي وضروري لا يمرّ إطلاقا عبر قناة التلفاز، وبالتالي يطرح السؤال حول كيف يمكن للتلفاز أن يسقط هذا الذي هو ضروري من الاعتبار ويلغيه؟

المؤكد أن شيئا لم يتغير بعد، بل إنّ كل ما تغير بالضرورة ليس يخصّ الوسائل التي نستعملها للوصول إلى هذه الأعمال [يقصد الأعمال الفكرية والأدبية السابقة]، وإنّما طريقتنا لفهمها، والحكم عليها، واستعمالها. لذا، فإن لم نتمكن اليوم من أن نصبح أرسطيين (أي أتباع أرسطو)، فلأنّ السبب في ذلك لا يعود إلى هذه الوسائل الإعلامية ذاتها (فمسكينة هي! لأنّ ما عساها أن تفعله ضد أرسطو؟)، وإنّما السبب في ذلك يكمن في التقدم العلمي والتاريخي الذي أمكن لهذه الوسائل الإعلامية أن تواكبه. لذلك، فهي تارة تسهل، وتارة أخرى تعرقل؛ وهي بذلك لا تلغي هذا التقدم ولا تستبدله. أخيرا، لأنه لا يمكننا أبدا أن نكون أرسطيين، وهذا لا يغير شيئا، لذلك فأنّ المهم هو أن نقرأ أرسطو ونفهمه (رغم أعماله الضائعة، إلاّ أنّنا نعرف عنه من نواحي كثيرة أحسن من معاصريه) ونستفيد منه. هكذا، أتعمّد التطرق لهذا المثال، لأنّني أعتبر أرسطو من دون تردّد: الفيلسوف الذي أعجبني أكثر دون غيره من باقي الفلاسفة الآخرين.»