الثقافة والمؤسّسات السياسية الديمقراطية في أمريكا القرن 19 من خلال كتاب “الديمقراطية في أمريكا” لألكسـيس دوتوكفيل

تمهيد الموضوع

يمثّل الفيلسوف والمؤرّخ ألكسيس دوتوكفيل (Alexis  De Tocqueville) أبرز المفكّرين المحدثين الذين أرّخُوا لكيفية قيام الديمقراطية في أمريكا انطلاقا من تحليل وقراءة الأحداث السياسية والثقافية الكبرى التي عرفتها العصور الحديثة، خاصّة الثورتين السياسيتين الفرنسية والأمريكية. ويعود الفضل إليه في إثارة طبيعة العلاقات بين المؤسّسات السياسية الديمقراطية وثقافة المجتمعات الحديثة من خلال دراسة شكل حكوماتها. ولقد أظهر تحليل هذا المفكّر للمجتمع السياسي الحديث، وبصفة خاصّة لطبيعة نظام الحكم في كتابه العمدة “الديمقراطية الأمريكية”، أنّ الديمقراطية تمثّل أهمّ خاصية مميّزة للمجتمعات الحديثة.

والواقع أنّ هذا الكتاب يعتبر بمثابة العمدة في الفكر السياسي الحديث، من حيث كونه يناقش قضايا سياسية وثقافية واجتماعية متصلة بالديمقراطية السياسية الحديثة، فضلا عن كونه آمَنَ إلى حدّ بعيد بالحرية والإنسان بربطه بين ثقافة المجتمع ومؤسّساته السياسية وأنظمته القانونية والاجتماعية والاخلاقية. ولأجل توضيح هذه العلاقة وكيفية مساهمتها في تشكّل النموذج الديمقراطي الأمريكي، يحاول كتاب “الديمقراطية في أمريكا” تقديم إجابات محدّدة للأسئلة التي يطرحها نشوء النظام الديمقراطي الحديث من رحم الليبرالية السياسية، من مثل:

كيف ساهمت مجموعة من المعطيات التاريخية والثقافية والسياسية في قيام الديمقراطية في أمريكا القرن التاسع عشر؟ هل من علاقة بين ثقافة المجتمع وقيام النظام الديمقراطي داخل هذا المجتمع؟ وإلى أيّ حد يمكن للسلوك الاجتماعي أن يؤثّر في الثقافة السياسية لبد مثل أمريكا في القرن التاسع عشر؟ وكيف يمكن للحرية أن كون ثقافة عامّة وعنصرا مشجّعا على قيام النظام الديمقراطي؟ كيف ساهم كتاب دوتوكفيل “الديمقراطية في أمريكا” في إظهار أهمية الثقافة في ترسيخ الديمقراطية السياسية في المجتمع الأمريكي؟

نقترح بحث هذه التساؤلات انطلاقا من التعرّض لثلاث نقاط أساسية؛ أوّلها مخصّصة للحديث عن أهمية كتاب دوتوكفيل حول الديمقراطية في أمريكا، ومكانته في الفلسفة السياسية الحديثة. ثمّ في نقطة ثانية، نعمد إلى إبراز منهجية دوتوكفيل في بحث ظاهرة الديمقراطية سياسية في هذا الكتاب. وفي الأخير، نبيّن دور الثقافة والمجتمع في قيام الديقراطية الأمريكية من خلال هذا الكتاب.

  1. أهمية كتاب “الديمقراطية في أمريكا” في الفكر السياسي الحديث

ينزل كتاب الديمقراطية في أمريكا مكانة خاصة في التواليف الخاصة بالفلسفة السياسية للعصر الحديث، حيث ظهر في فترة تاريخية متميّزة سمتها صعود التيارات السياسية الليبرالية والديمقراطية في كلّ من أوربا وأمريكا معا ممّا يجعلها وثيقة فكرية وتاريخية لتحليل وفهم هذه الظاهرة الثقافية والسياسية في المجتمعات الغربية. نشره دوتوكفيل في أواسط القرن التاسع عشر، تحديدا الجزء الأول سنة 1835 الذي تناول موضوع أثر الديمقراطية على المؤسّسات السياسية والمدنية في أمريكا. ثمّ ابرز فيه الفرق بين ما تتيحه الديمقراطية من سبل للقوانين وما تفرضه على الحكومة السياسية خاصّة، وبين ما تفرضه من سلطان على شؤون الدولة عامة. وقد عمل على استكشاف الأضرار والمنافع التي أدت إليها، ودرس الاحتياطات التي اتخذها الأمريكيون في توجيهها، كما درس فيه كذلك تلك التي أغفلها الكتاب الآخرون، فتولى بيان العوامل التي مكنّت لها من أن تحكم المجتمع.[1]

أمّا الجزء الثاني من هذا الكتاب فقد صدر سنة 1840، وتناول بالأساس مسألة تأثير الديمقراطية في الثقافة والأفكار والأحاسيس والأخلاق والمشاعر الوجدانية عند الأمريكيين. والبيّن أنّ الغرض من هذا الجزء الثاني الهام كان هو استدراك ما لم يتم الإشارة إليه في الجزر الأول، تحديدا أن المعطى الفكري والثقافي العام الذي سمح بتشجيع تساوي أحوال الناس الاجتماعية والسياسية، وقيام الحكومة الديمقراطية في المجتمع المدني في أمريكا من حيث العرف والآراء والعادات الأخلاقية. وتكمن أهمّية هذا العمل الفذ في كونه يبرهن بالملموس على كون كاتبه دوتوكفيل يعدّ واحدا من الكتاب المحلّلين الأوائل لإشكاليات الديمقراطية والمساواة في أواسط العصر الحديث.

لقد أخذ دوتوكفيل على عاتقه مهمّة إنجاز بحث شامل للكيفية التي يتشكّل بها المبدأ الديمقراطي والمساواة الذي تتأثر به كل جوانب الحياة داخل المجتمع الإنساني.[2] أصبحت طريقته في كتابة هذا العمل الأساس استكمالا وتتمة للنهج الذي تناول به فلاسفة الحداثة والأنوار الأوائل المسائل السياسية كما لدى مونتسكيو؛ إلاّ أنّه قد استطاع، مع ذلك، أن يميّز طريقته بأسلوبه الخاص ولمسته الشخصية في الوصف والتنظير. تبدأ دراسة وتحليل السياسة بالنسبة إليه في ببحث السياق الاجتماعي، ذلك أنّه كان يؤمن بأنّ الوضع الاجتماعي هو نتيجة للظروف والقوانين التي تحكمه، وحين يكون مستقرّا يكون هو نفسه مصدر معظم القوانين والعادات والأفكار التي تنظّم سلوك الشعوب.

ركّز دوتوكفيل في مقدمته للكتاب على أهمّية فكرة المساواة في توجيه الثقافة السياسية والاجتماعية للمواطنين الأمريكيين؛ وقد استرعى انتباهه تساوي أفراد هذا الشعب في أحوالهم الاجتماعية. فالمساواة توجّه الرأي العام اتجاها خاصا، وهي التي صبغت القوانين بصبغة معيّنة وزودت الحاكمين بمبادئ جديدة، وأكسبت المحكومين عادات خاصة. وتمتد فكرة المساواة إلى النظام السياسي في الدولة الأمريكية ككل، كما تمتد إلى القوانين وتتجاوزها إلى الثقافة بشكل عام. فالمساواة لها تأثير قوي على الحكومة والمجتمع المدني معا، وهي قائمة في عادات وثقافة الأمريكيين؛ وقد أشار هذا الأخير إلى أهمّية هذه المسألة عندما أكّد أنّه كلّما تقدّمت به دراسة المجتمع الأمريكي، كلّما ازداد ثقة بأنّ هذه المساواة في الأحوال الاجتماعية هي الحقيقة الأساسية التي تبدو سائر الحقائق الجزئية مستمدة منها كلّها. أنّها النقطة المركزية التي ما فتئت ملاحظاته المختلفة للمجتمع الأمريكي تنتهي إليها دائما.[3]

اعتقد دوتوكفيل أن الظروف التاريخية الاجتماعية والسياسية والثقافية قد لعبت كلّها مجتمعة دورا حاسما في ظهور فكرة المساواة والديمقراطية في أمريكا كما في أوربا، وذلك عبر حدوث تبدّلات وتغيّرات في مختلف نواحي الحياة السياسية والثقافية للفئات والطبقات المشكلة لشعوب هذه الأقطار والبلدان الغربية. ولقد عبّر عن هذا الأمر بتصريح أكّد فيه ما معناه أنّه يندر أن يوجد في التاريخ الحدث العظيم الذي من شأنه أن يؤدّ إلى المساواة بين الناس.[4] فالمساواة، وفقا لهذا المنظور، إنّما هي حقيقة علوية تتصف بجميع الصفات التي لأمثال الحقائق القدسية. إنّها حقيقة عالمية باقية تأبى أن يتدخّل فيها بني البشر بالتصرف، ذلك أنّها نتاج كل الأحداث وجميع الناس قد ساهموا في العمل على تقدم هذا المبدأ: مبدأ المساواة.[5]

يلخّص دوتوكفيل أهمية كتابه حول الديمقراطية في أمريكا في زعم يدّعي فيه أنّه لم يوضع تأييدا لرأي شخص معيّن، كما لم تكن لديه، عند كتابته، أيّة نيّة لأن يخدم به فريقا من الناس، أو أن يهاجم فريقا آخر، ولم يقصد أن يرى الأشياء على خلاف ما يراها الناس الآخرون؛ وإنّما كل ما في الأمر أنّه قصد أن ينظر أبعد ممّا ينظرون، لأنّه إن كان هؤلاء الناس قد شغلوا أنفسهم بالغد وحده، فقد وجّه هو فكره إلى المستقبل كلّه.[6] يكشف هذا الموقف عن القصد الأساسي لتأليف كتاب “الديمقراطية في أمريكا”، حيث يحدّد دوتوكفيل فيه الغرض من توجيه الفكر إلى المستقبل من خلال أهمية استخلاص كلّ العبر والدروس الممكنة والمتاحة من تجربة الديمقراطية في أمريكا؛ وبالتالي فهو موجّه بقصد التطلّع للمستقبل والتفاؤل بممكناته المتاحة للعقل لتحقيق التقدم المأمول، وليس فقط لتأريخ لأحداث الماضي الخاصة بالتجربة الأمريكية.

  • منهجية دوتوكفيل في كتاب “الديمقراطية في أمريكا”

يقوم منهج دوتوكفيل في كتاب الديمقراطية في أمريكا على أسلوب تقديم الأفكار باسترسال في دراسته للديمقراطية، لكنه يقرن ذلك بتقديم الحجج القوية التي تدعم هذه الأفكار مع نوع من الخصوبة الفكرية التي يتمتّع بها صاحبه. ولعلّ ما يتوجب الانتباه إليه وأخذه بعين الاعتبار، هو أن هذا الكتاب ليس كتابا عن أمريكا بصفة أساسية، ولكنّه عن الديمقراطية التي تمثل جوهر النقاش فيه. فالجمهورية الأمريكية ليست سوى تجربة توضيحية ومثال شارح للمنهجية التي تعمل بها الديمقراطية في الظروف المواتية.[7]  ويعد بعض الباحثين كتاب الديمقراطية في أمريكا “كتابا وعظيا” من حيث هو قائم على النصح والتحذير وتعلو فيه نبرة القلق المحفوف بالخوف. ففي قلبه تكمن الحقيقة المؤكّدة بأنّ الديمقراطية ظهرت، ليس في الولايات المتّحدة فقط، وإنّما في جميع أنحاء أوروبا أيضا، وأنّها وصلت إلى فرنسا مصحوبة بعاصفة رعدية غير عادية بسبب الثورة الفرنسية.[8]

يتناول كتاب الديمقراطية في أمريكا أفكارا سياسية واجتماعية تتمحور حول فكرة الديمقراطية ويجعلها موضوعا مركزيا للمناقشة والتحليل، غير أنّه يوظّف هذا المصطلح بشكل واسع ومطاطي، حيث يقصد به أحيانا شكلا حكوميا يتبنى التوسّع في منح حقوق الانتخاب، وفي أحيان أخرى يصف به روح الشعب أو الطابع المسيطر عليه، كما أنّه يستخدمه كمرادف للمساواة؛ لكن المعنى الغالب الذي جاء به مصطلح الديمقراطية في كتابات دوتوكفيل هو زيادة المساواة في المراتب.[9]

امن دوتوكفيل بقناعة مفادها أنّ كل الحكومات تميل بصورة طبيعية إلى مركزة وظائفها، ممّا يعزّز من سلطتها بزيادة سيطرتها زيادة كبيرة؛ لذلك يحتل مصطلح “المركزية” مكانة كبيرة في تحليله لظاهرة السلطة وفكرة السيادة. وانطلاقا من مناقشته لمفهوم مركزة السلطة هذا يرى صاحبنا أن الحرية هي كلّ شيء في الديمقراطية، لذلك وجب الحذر من المركزية حيث تستأثر قلة من الأشخاص بالسلطة، ممّا قد يفضي في النهاية إلى تجريد هؤلاء من حقّهم في إدارة شئونهم بأنفسهم ومن قدرتهم على ذلك، فيقعون في الاستبداد أو الثورة على الوضع أو كليهما.

يرى دوتوكفيل أنّ الديمقراطية ضرورية وأنها الخيار الصحيح من الناحية الأخلاقية، لكنّه سرعان ما يشعر بأنّ المجتمع الذي تتحقق فيه الديمقراطية الخالصة يفقد حيويته، حتى وإن كانت تلك الديمقراطية في أفضل صورها. ذلك أنّه يصبح أقل تألقا من المجتمع الأرستقراطي لكنه أيضا يكون أقل تعرّضا للشقاء؛ إذ تسود فيه مظاهر الرخاء ويقلّ فيه إسراف الناس في التمتّع بالملذات وتزيد فيه المعرفة ويقلّ الجهل، وتصبح فيه مشاعر الناس أقل اتقادا واعتدالا، وتخف فيه نسب الجريمة، ويغيب التطرف والتمسك بالمعتقدات البالية والخرافية.

لا يزعم صاحبنا أنّه يقدّم الحقائق عن الديمقراطية في أمريكا، لكنّه يعمل على صياغة بعض الآراء التي يمكن أن تتفق مع الحقيقة. وقد اعتمد في تحليله ومناقشته لمسألة الديمقراطية في أمريكا على مصادر ومراجع ووثائق مختلفة وخاصة بالموضوع متعمّدا الإشارة إليها في الحواشي والهوامش في النسخة الأصلية للكتاب. أما فيما يخص العادات السياسية والملاحظات التي بشأن البلد، فقد حاول جهد إمكانه الرجوع فيها إلى أكثر الناس علما بها. ومتى تعلّق الأمر بنقطة هامة جدّا أو هي موضع شك، فإنّه لا يكتفي فيها بشاهد واحد، بل يعتمد شواهد كثيرة حتى يبيّن أمرها ويؤكّده. وقد تحاشى إتباع طريقة عرض وسرد الأسماء المعروفة للقارئ أو الجديرة بأن تكون كذلك تأييدا لما يقوله عن المسألة التي يريد تقريرها.

لا يقيم أحكامه بخصوص القضايا التي تعرّض لها في الكتاب على اعتبار واحد أو حجة واحدة، بل يقيمها على جملة ما توفّر له من أدلة وشواهد وبيانات. ويعتبر أنّه رغم تعدّد القضايا والموضوعات التي تطرّق إليها في الكتاب، إلاّ أنّه يحتوي فكرة تنتظم فيها أجزاءه كلها وتربطها بعضها ببعض. وقد حاول دوتوكفيل، هنا، أن ينزع نحو الدفاع عن تصوّراته السياسية والفكرية باعتماد منهجية تحليلية وتدليلية متنوعة، تمتح من ثقافته الموسوعية بالفكر السياسي الحديث خاصة فيما يتصّل بها بمعطيات الثورتين السياسيتين: الفرنسية والأمريكية.   

  • 3.     دور الثقافة والمجتمع في قيام الديمقراطية الأمريكية

أفرد دوتوكفيل فصولا عديدة لإبراز الملامح العامة للجمهورية الأمريكية من حيث التشكّل والنشوء؛ وخصّ العامل الثقافي والاجتماعي بأهمية بالغة في تفسير قيام الديمقراطية الأمريكية، إضافة إلى العوامل الأخرى: السياسية والجغرافية، والعرقية المرتبطة بالسكان الأصليين أو المهاجرين الانجليز في عاداتهم وأحوالهم. يتعرض دوتوكفيل لمثل هذه الأحوال بخلفية لا تكاد تخفي نزعتها العرقية الغربية المبرّرة لغزو الإنسان الأوروبي لبلاد الهنود الحمر، واستعمارها لتأسيس أمّة جديدة فوق أراضيها بحيث تكون قادرة بالنهوض بتقدمها وتطورها التاريخي. نجد ما يفصح عن هذه النزعة المركزية الغربية في العديد من التصريحات والأوصاف التي أدلى بها في الفصل الثامن عشر تحت عنوان مشاكل عرقية (Problèmes raciaux)، نذكر منها فقط النماذج الآتية:

أمّا سكان أمريكا الأصليين [يقصد الهنود الحمر]، فهؤلاء كانوا يعيشون على الصيد والطراد.. وقد كان تعصبّهم الشديد الذي لا هوادة فيه، وشهواتهم الجامحة، ورذائلهم، بل وحتى فضائلهم الوحشية، هي التي قضت عليهم بالهلاك المحتوم.. لقد بدأ فناء هذه الشعوب يوم حلّت أقدام الأوربيين شواطئهم، وظل حتى أيامنا هذه.. وإنّا لنشهد اليوم الإجهاز عليهم.. ويبدو أنّ العناية الإلهية لم تلق بهم وسط ثروات الدنيا الجديدة، إلا لأجل أن يستمتعوا بها وقتا معلوما، لأنّهم لم يوجدوا فيها إلاّ انتظارا لمجيء غيرهم.. فهذه الشواطئ الملائمة كل الملائمة للتجارة والصناعة، وتلك الأنهار الواسعة العميقة، ووادي المسيسيبي الذي لا تنفذ موارده، وعلى الجملة، هذه القارة كلّها، تبدو كما لو كانت قد أعدت لتكون مهدا لأمة عظيمة.. لقد قُدّر للإنسان المتحضّر في تلك البلاد أن يحاول القيام بإجراء التجربة العظمى.. تجربة إنشاء المجتمع على أساس جديد؛ فطبقت فيها لأوّل مرّة نظريات لم تكن معروفة من قبل، أو قيل عنها أنّها نظريات غير عملية، وبذلك عرضت هذه النظريات على الدنيا مشهدا، لم يكن التاريخ قد أعدّها لمشاهدته.”[10]

والملاحظّ في هذا التصريح حضور النزوع التبريري لاستعمار هذه المنطقة الجغرافية، بل والدفاع عن أحقّية المهاجرين الانجليز بها من شعوبها الأصلية. وتنم أقواله تلك عن وجهة نظر أيديولوجية وفلسفية ترى أنّ سقوط حضارة وقيام أخرى أرقى من الأولى وأكثر تقدّما منها مسألة متعلّقة بالعناية الإلهية ومشيئته التي شاءت أن تنهار الحضارة البدائية للشعوب الأصلية الوضيعة والحقيرة، لتفسح المجال لقيام حضارة أخرى جديدة أرقى منها وأكثر تطوّرا عليها. وقد كانت هذه الفكرة موّجهة للنظرية الاستعمارية الغربية التي ساهمت في قيام الحركة الاستعمارية.

يشير دوتوكفيل في مختلف الفصول الخاصّة بدراسة طبيعة الحكومة الاتحادية وعلاقتها بالأحوال الثقافية والاجتماعية للأمريكيين، وبشكل خاص الحديث عن أحوال الولايات المتحدة المختلفة قبل الكلام عن حكومة الاتحاد، إلى أهمية الثقافة الاجتماعية في تفسير السلوك المدني السياسي الليبرالي لدى الأمريكيين[11]. ثم يتعرض لفكرة مبدأ السيادة للشعب وانسجامه مع أحوال الأمريكيين الميّالين للمساواة والحرية أشد الميل، وكذلك طبيعة السلطة القضائية وتأثيرها في المجتمع السياسي والاجتماعي برمته.[12]

حاول دوتوكفيل إبراز كيف سمح الوضع الاجتماعي الخاص بالمجتمع الأمريكي بأن تظهر فكرة الحرية وتتحوّل إلى معتقد راسخ لدى الناس في إطار مبدأ المساواة، مما جعلها ممارسة سائدة في مؤسسات وأنظمة حكم هذا المجتمع. وقد اعتبر من خلال الوضع الاجتماعي والثقافي السائد لدى الأمريكيين الأوروبيين كيف أن الثقافة الاجتماعية علّة النظام الديمقراطي السياسي المدني القائم بينهم، حيث ساهمت العادات والتقاليد، وكذا بعض المعطيات الجغرافية والثقافية الأخرى في تشكيل نظام الحكم السياسي الديمقراطي هناك.

استخلص دوتوكفيل النتيجة التي يريدها من هذا التدليل، حيث ذهب إلى اعتبار الوضع الاجتماعي والثقافي القائم هناك بمثابة المحرك الأساسي للنظام الديمقراطي الحرّ الذي ظهر في الولايات المتّحدة الأمريكية. ولقد جعل هذا الأخير تقديس الناس للحرية واعتبار المساواة بينهم شرطا حازما لترسيخ مبدأي: العدالة وسيادة الشعب، اللذان يؤطّران المجتمع الأمريكي بأسره، ويوجّهان سلوكيات الأمريكيين الثقافية والاجتماعية لإيمانهم القوي بالحرية والمساواة.

 تعرّض دوتوكفيل لطبيعة الحكم المحلِّي انطلاقا من وحدته واستقلاليته عن المركز؛ وأظهر أنّ كل مواطن خيّر وعادل، إنّما هو قاض في شؤونه الخاصة قياسا إلى مبدأ سيادة الشعب. وقد قدّم الأمثلة المختلفة على ذلك من مقاطعات نيو- إنجلند الذي يشبه تقسيمها الترابي إلى مديريات تقسيم فرنسا بشكل كبير.[13] تتمتع الولايات باستقلالية عن المركز في تدبير شؤونها، وقد كان هذا الأمر نتيجة الميل التلقائي لدى الأمريكي في الحرية والاستقلالية. كان من سمات هذا النزوع التحرّري النضج والتدبّر، كما لم تكن نزعة الاستقلال هذه مبهمة وغامضة؛ وإنّما على العكس، كانت واضحة المعالم، فسارت تحدوها محبة النظام والقانون.[14]  

أمَّا بالنسبة للسلطة القضائية، فقد احتفظ الأمريكيون الإنجليز بكل خصائص السلطة القضائية المعهودة في سائر الأمم ومع ذلك فقد جعلوا منها جهازا سياسيا قويّا. ويعرض الكتاب مواضع اختلاف السلطة القضائية عند الأمريكيين الإنجليز عمّا هي عليه عند الأمم الأخرى. ثم بيّن كيف أنّه لم يخوّل للقضاة الأمريكيين الحق في إعلان عدم دستورية القوانين، وبين كيف يستخدمون هذا الحق وكذا الاحتياطات التي نجدها لدى الشارع ضد إساءة استخدام هذا الحق.

ومن السلطات الأخرى المخولة للقضاة في أمريكا، فسح المجال أمام أي مواطن ليكون له الحقّ في توجيه الاتهام إلى الموظفين العامين أمام المحاكم العادية. يتجلّى هذا الأمر في كيفية استخدام هذا الحق درءا لكلّ ما من شأنه أن يخلّ باستقلالية القضاء، وعدم توجيهه من طرف أي كان. لذلك، فمن أهمّ مميزات القضاء الأمريكي الاعتراف بحق القضاة في أن يبنوا أحكامهم على مبادئ الدستور، وليس على القوانين فقط؛ أو بعبارة أخرى، إنّ الأمريكيين قد سمحوا لقضاتهم ألاّ يطبقوا من القوانين إلاّ ما يرونه دستوريا حقّا.[15]

الواضح ممّا سلف أن للعامل الثقافي – الاجتماعي دورا بارزا في قيام الديمقراطية الليبرالية في المجتمع الأمريكي قبل الثورة وبعدها. لذلك، حرص دوتوكفيل حرصا بيّنا على جعل الانطلاق من الظروف الاجتماعية والثقافية والبيئية منطلقات أساسية للبحث عن تبريرات مقنعة وعقلانية لتفسير ظهور الديمقراطية في المجتمع الأمريكي ثقافة وسلوكا وسياسة واقتصادا. وقد عبّر عن هذا المنحى لديه في تفسير الظواهر السياسية والمدنية عندما أشار إلى أنّه كلمّا درس هذا البلد، إلاّ ووجد نفسه مقتنعا أكثر بحقيقة مفادها أنّه لا يوجد شيء مطلق في القيمة النظرية للمؤسسات السياسية، لأن كفاءته غالبا ما تعتمد على الظروف الأصلية والأحوال الاجتماعية للأشخاص الذين يتعامل معهم ويستطيعون تحقيق تقدّمهم العام عن طريق حسن استعمال عقولهم وفنونهم.[16]

لقد فهم دوتوكفيل بهذا المنهج البحثي أنّ التجربة العملية والعادات لها حق الصدارة على الأفكار والقوانين. [17] لكن، ونظرا لميوله نحو التعقيد والاستشكال، حاول أن يوازن بين الرصد الوصفي والتنظير المركّب، حتى أنّه وَدَّ لَوْ عَرَفَ النسبة التي تبرز بها هذه على تلك. ولعلّ السبب في كونه كذلك يعود إلى إيمانه القوّي بأنّ العادات إنّما تبقى بقاءً دائما ومستقلاّ عن القوانين؛ وهذا ما نجح في التوصّل إثباته في كتابه “الديمقراطية في أمريكا”، وعمل على التدليل عليه من خلال إيمانه الكبير بالحرية والتقدم والديمقراطية الليبرالية.[18]

على سبيل الختم

رأى دوتوكفيل في قيمتي الحرية والمساواة مبدأين أساسيين للديمقراطية السياسية والاجتماعية في بلاد الولايات المتحدة الأمريكية التي أنشأها الأوربيون المهاجرون إلى أمريكا في العصور الحديثة. والمستفاد من هذه التجربة التاريخية هو أنّ أيّة محاولة للتخفيف من وطأة الديمقراطية، أو النيل منها، إنما مآله الفشل خاصّة كلّما تشبّع الأفراد بالحرية وبمبدأ المساواة، إذ حتى المستبّد لن يستطيع، بعد ذلك، أن يحكم هؤلاء المواطنين إلاّ وفق مبدأ المساواة الديمقراطي وأن ينحني احتراما للمساواة والحرية.

لذلك حذّر دوتوكفيل كلّ المعاصرين له من أنّ المهمّة الأساسية التي تلزم التصدي لها ليست في بناء مجتمع أرستقراطي جديد، وإنّما هي الانصراف إلى جعل الحرية واقعا معاشا في المجتمع الديمقراطي الحديث، عن طريق تعزيز دور فكرة المساواة في الممارسة السياسية للديمقراطية الناشئة. هذا هو الدرس الأهمّ الذي يمكننا استفادته من التجربة الفكرية لهذا المفكّر السياسي الحديث الذي استطاع أن ينقل إلينا تجربة شعب وأمّة حديثة التشكل، ليكون بذلك المرشد إلى الديمقراطية الحديثة.


[1] Catherine Golliau : « Ecrire sur l’Amérique ? Un pari risqué » ; Le Point : Hors – série – les maitres penseurs, (sur Alexis de Tocqueville), num 24, mai-juin 2018, pp : 53 – 54.

[2]  أنظر ليو ستراوس وجوزيف كروبسي: تاريخ الفلسفة السياسية، ج 2، ترجمة محمود سيد أحمد، ط 1 نشرة المشروع القومي للترجمة، القاهرة، سنة 2005، ص 411.

[3]  الكسيس دوتوكفيل: الديمقراطية في أمريكا، ترجمة أمين موسى قنديل، أنظر مقدمة الكتاب، ط 4، نشرة عالم الكتب، القاهرة، سنة 2004، ص 15.

[4]Alexis  De Tocqueville : De la démocratie en Amérique; union générale d’éditions, Paris, 1963, p 56.

[5] Ibid, p 64.

[6] Ibid, p 30.

[7]  جوزيف ابستاين: ألكسي دوتوكفيل: المرشد إلى الديمقراطية. ترجمة سمية ممدوح الشامي، ط 1، نشرة كلمات عربية، القاهرة، سنة 2010، ص 80 و81.

[8]  نفسه، ص 81.

[9]  نفسه، ص 82.

[10]  Alexis  De Tocqueville : De la démocratie en Amérique, op-cite, pp178-186.

[11]  Ibid, p 56.

[12]  Ibid, p78.

[13] Ibid, p 63.  

[14] Ibid, p 84.

[15] Ibid, p 88.

[16] Ibid, p 236.

[17]  جوزيف إبستاين: الكسيس دوتوكفيل: المرشد إلى الديمقراطية، مرجع سابق، ص 45.

[18] De Tocqueville : De la démocratie en Amérique, op-cite, pp355-360.