منع رفع اللافتات والاحتجاج داخل مجلس النواب

تعليق على قرار المحكمة الدستورية رقم 256.25م.د المتعلق بالرقابة على النظام الداخلي لمجلس النواب

المقدمة:

أصدرت المحكمة الدستورية قرارها[1] المتعلق بالرقابة على النظام الداخلي[2] لمجلس النواب بتاريخ 4 غشت 2025، الذي يعتبر الثالث في الموضوع نفسه خلال الولاية التشريعية الحالية (2021-2026)، حيث سبق لها إصدار قرارها الأول[3] الذي يحمل رقم 209.23 م.د بتاريخ فاتح مارس 2023. ثم القرار الثاني[4] رقم 243.24م.د الصادر بتاريخ 7 غشت 2024 والذي قضى بمراجعة العديد من المواد التي سبق للمحكمة الدستورية التصريح بمطابقتها للدستور، إضافة إلى مواد تم تعديلها أو استحداثها بناء على ملاحظات سابقة للمحكمة الدستورية. أما القرار الثالث فكان بمناسبة تعديل جديد للنظام الداخلي للمجلس، أقره بالتصويت في جلسته العامة المنعقدة في 8 يوليو 2025.

وقد جاء هذا الفحص استنادا إلى ضرورة التأكد من توافق النظام الداخلي مع أحكام الدستور، مركزة في قرارها على أهمية التزام مجلس النواب بالضوابط الدستورية في تنظيم عمله الداخلي، وقضت بمطابقة معظم مواده مع الدستور، إلا أنها أبدت ملاحظات ورفضت بعض المقتضيات التي رأت أنها تخالف المبادئ الدستورية.

ومن أبرز المقتضيات التي ناقشها القاضي الدستوري في هذا القرار، إدراج المشرع مقتضى في النظام الداخلي يتعلق بمنع رفع اللافتات أو القيام بأشكال احتجاجية داخل قاعة الجلسات العامة أو اجتماعات اللجان، وهو مقتضى يفتح نقاشا حول حدود التوفيق بين مقتضيات النظام والانضباط البرلماني من جهة، وحرية التعبير والاحتجاج البرلماني من جهة أخرى. كما يفتح المجال لمقارنة هذه الممارسة بالتجارب البرلمانية الدولية، والوقوف عند خصوصية السياق المغربي في هذا المجال.

التعليق:

قضت المحكمة الدستورية في قرارها – موضوع هذا التعليق – بدستورية المقتضيات الواردة في المواد 30 و391 و392 من النظام الداخلي لمجلس النواب، والتي تمنع أشكال الاحتجاج داخل القاعة كرفع اللافتات أو القيام باعتصامات.

وقد ورد في تعديلات النظام الداخلي[5] تعديل للفقرة الأخيرة من المادة 30، وإضافة فقرة بعدها كما يلي: “ويقصد بإبداء المواقف والقناعات المعبر عنها شفويا أو كتابيا والتي تصدر عن عضو المجلس أثناء ممارسته لمهامه الدستورية سواء داخل المجلس أو خارجه.

وينحصر إبداء الرأي في التعبير اللغوي دون رفع لافتات احتجاجية أو توضيحية أو القيام باعتصامات داخل المجلس”

وإضافة فقرة في المادة 391 من النظام الداخلي، وتفصل هذه المادة في الواجبات التي على النائبات والنواب التقيد بها:

“الإمتناع عن رفع لافتات خلال اجتماعات اللجان والجلسات العامة، أو القيام باحتجاجات أو اعتصامات داخل مقر مجلس النواب”

كما تم التأكيد على نفس المقتضى في المادة 392 والتي تحدد بعض الممارسات التي في حالة عدم الالتزام بها تستوجب إجراءات تأديبية و إحالة على لجنة الأخلاقية، وعليه تم إضافة الفقرة التالية:

“عدم رفع اللافتات خلال أشغال اللجان والجلسات العامة، أو القيام باعتصامات داخل مقر مجلس النواب”

استندت المحكمة في تعليلها لاعتبار هذه المواد غير مخالفة للدستور إلى ضرورة الحفاظ على النظام والانضباط وضمان السير العادي لأشغال المجلس، إلا أن هذا القرار يثير نقاشا حول حدود التوفيق بين مقتضيات النظام الداخلي ومبادئ حرية التعبير والعمل البرلماني المعارض التي يكفلها الدستور، كما يفتح المجال للمقارنة مع التجارب البرلمانية المقارنة في تنظيم الاحتجاج داخل المؤسسة التشريعية.

يستوقفنا في هذا القرار تأكيد المحكمة الدستورية على أن منع رفع اللافتات داخل قاعة الجلسات أو اجتماعات اللجان “لا ينطوي على مصادرة للحق في التعبير”، بل يدخل ضمن حدود التنظيم لضمان حسن سير العمل البرلماني. وهو تأويل يرتكز على فكرة “تنظيم الحق لا مصادرته”، ويستند إلى مقاصد الانضباط والنجاعة البرلمانية.

غير أن هذا المنع يطرح تساؤلات بخصوص حدود المشروعية الديمقراطية لهذا النوع من التنظيمات، خاصة إذا لم يُقترن بآليات تكميلية تضمن للنواب التعبير الاحتجاجي بصيغ مؤسساتية بديلة، كطلب نقاط نظام، أو تخصيص أوقات للتصريحات السياسية، أو اعتماد نظام “الأسئلة الآنية ذات الطابع الاحتجاجي”.

ولفهم هذا الجدل في سياق أوسع، يمكن النظر إلى كيفية تعامل برلمانات أخرى مع المسألة، وتتباين التجارب البرلمانية الدولية بين من يعتمد قواعد تنظيمية صريحة تمنع أشكال التعبير البصري غير المتفق عليه (مثل رفع اللافتات أو الأعلام)، وبين من لا يتضمن نظامه الداخلي نصوصا صريحة بهذا الخصوص، لكن الممارسة العملية تحد من هذه الأشكال.

تنص التعليمات العامة لمكتب الجمعية الوطنية الفرنسية[6] في المادة 9[7]، على أن التعبير داخل قاعة الجلسات يتم حصرا بشكل شفوي، ويمنع استخدام أي دعم بصري أثناء المداخلات، بما في ذلك الرسوم البيانية أو اللافتات أو الوثائق أو الأدوات أو الآلات المختلفة. ويخول النص لرئيس الجلسة سحب الكلمة فورا من العضو المخالف. كما يفرض النص التزام النواب بارتداء لباس محايد يتناسب مع رسمية المكان، ويمنع أي مظهر يستخدم كذريعة للتعبير عن آراء سياسية أو دينية أو تجارية.

وينص النظام الداخلي للبرلمان الأوروبي[8] على أنه “يجب على الأعضاء ألا يخلوا بالنظام الجيد للقاعة وأن يمتنعوا عن السلوك غير اللائق. كما يجب عليهم ألا يعرضوا لافتات”. يؤطر هذا النص منع عرض لافتات أو رموز بصرية غير مصرح بها، ما يؤكد رفض إدخال عناصر قد تؤثر على سير النقاش أو تفقده احترامه الرسمي. وتجليات هذا المنع وضحت في عدة مرجعيات قضائية أوروبية أيضا، عندما اعتبر رفع العلم الوطني من قِبل نواب داخل القاعة بمثابة “لافتة” تخالف النص التنظيمي[9].

يسجل العمل البرلماني -في حالات استثنائية- احتجاجات رمزية من قبل الأعضاء  مثل ارتداء شارات، أو رفع صور لبضع ثوان، أو الانسحاب الجماعي، ولم تمنعها الأنظمة الداخلية لمجلس النواب المغربي صراحة قبل هذا، بل جرى التعامل معها بقدر من المرونة السياسية. وعند التأمل في هذه الممارسات نجد أنها تعبر عن أزمة تمثيلية. ويمكن تكثيف أسبابها في التالي:

أولا، ضعف المعارضة داخل البرلمان، سواء بسبب تشتتها أو بفعل التفوق العددي الكبير للأغلبية، ما يدفع بعض أعضائها إلى اللجوء لوسائل بصرية رمزية للفت الانتباه لقضايا يرونها مغيبة عن النقاش الرسمي.

ثانيا، محدودية قنوات التواصل المؤسسية بين النواب والمواطنين، حيث تشكل الجلسات العامة أحد المنافذ القليلة للتعبير المباشر أمام الرأي العام. وفي ظل ضيق الوقت المخصص للكلمات الرسمية، قد يجد أعضاء البرلمان في اللافتات أو الرموز البصرية وسيلة أسرع وأوضح لإيصال رسائل موجهة أساسا للجمهور خارج القاعة أكثر مما هي موجهة للحاضرين فيها. ولو كان هناك نقل موسع لأشغال البرلمان، وبرامج تواصلية منتظمة تعزز التواصل بين أعضاء البرلمان والمواطنين، ربما ماكانت الحاجة لهذه الأساليب الرمزية التي تمثل، في جوهرها، محاولة لردم فجوة التمثيل والتواصل.

خاتمة:
            إن قرار القضاء الدستوري ينسجم مع مقتضيات الدستور التي تحدد مهمة عضو البرلمان في تمثيل المواطنين عبر الاختصاصات المخولة له، ويتوافق مع التجارب الدولية المقارنة الرائدة. ومع ذلك، فإن بروز هذه الممارسات يفتح أمام الباحثين آفاقا لدراسة التحولات التي يعرفها العمل البرلماني، حيث ينتقل “ممثل الأمة” في بعض اللحظات من موقع الوسيط والناقل لاحتجاجات المواطنين عبر القنوات والآليات التي يكفلها الدستور، إلى موقع المحتج من داخل المؤسسة نفسها. وهو تحول يطرح أسئلة جوهرية حول أدوار البرلماني وحدودها، وطبيعة العلاقة بين الفعل البرلماني والعمل الاحتجاجي، إلى جانب التغيرات التي تعرفها أنماط التمثيل السياسي ووسائل التعبير عن المطالب الشعبية.


[1] قرار المحكمة الدستورية رقم 256.25م.د المتعلق بمراقبة دستورية النظام الداخلي لمجلس النواب، الصادر بتاريخ 4 غشت 2025، الجريدة الرسمية عدد 7429، بتاريخ 11 غشت 2025، الرابط على موقع المحكمة الدستورية: https://www.cour-constitutionnelle.ma/Decision?id=2120&Page=Decision

[2] تعتبر الأنظمة الداخلية لمجالس البرلمان عنصرا أساسيا من تنظيم العمل البرلماني، حيث تحدد قواعد سير الجلسات وتوزيع الاختصاصات بين اللجان المختلفة وكيفية عملها، وتحديد تنظيم مختلف الهياكل البرلمانية واختصاصاتها، وتساهم في ضمان فعالية ووضع قواعد العمل التشريعي والرقابي والتقييمي والدبلوماسي. وتخضع الأنظمة الداخلية للمجالس البرلمانية لرقابة قبلية من قبل القضاء الدستوري لضمان تطابقه مع أحكام الدستور ومبادئه الأساسية.

[3] قرار المحكمة الدستورية رقم 209.23 م.د المتعلق بمراقبة دستورية النظام الداخلي لمجلس النواب، الصادر بتاريخ فاتح مارس 2023، الجريدة الرسمية عدد 7177 بتاريخ 13 مارس 2023، الرابط على موقع المحكمة الدستورية : https://www.cour-constitutionnelle.ma/Decision?id=2073&Page=Decision

[4] قرار المحكمة الدستورية رقم 243.24 م.د المتعلق بمراقبة دستورية النظام الداخلي لمجلس النواب، الصادر بتاريخ 7 غشت 2024، الجريدة الرسمية عدد 7326، بتاريخ 15 غشت 2024. الرابط على موقع المحكمة الدستورية : https://www.cour-constitutionnelle.ma/Decision?id=2107&Page=Decision

[5] تقرير لجنة النظام الداخلي حول تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب، دورة أبريل 2025. رابط التقرير: https://www.chambredesrepresentants.ma/sites/default/files/RapportRI080725.pdf

[6] التعليمات العامة لمكتب الجمعية الوطنية الفرنسية، (INSTRUCTION GÉNÉRALE DU BUREAU DE L’ASSEMBLÉE NATIONALE) وهي وثيقة تنظيمية مكملة للنظام الداخلي.

[7] “Dans l’hémicycle, l’expression est exclusivement orale.

L’utilisation, notamment pendant les questions au Gouvernement, à l’appui d’un propos, de graphiques, de pancartes, de documents, d’objets ou instruments divers est interdite. Lorsque ceux‑ci sont utilisés par un ou plusieurs députés appartenant à un même groupe pendant l’intervention de l’un de ses membres, le Président peut retirer immédiatement la parole à ce dernier…”

Assemblée nationale, Instruction générale du Bureau, art. 9, Version consolidée au 29 janvier 2024.

[8] “Members shall not disrupt the good order of the Chamber and shall refrain from improper behaviour. They shall not display banners.” Rule 10, Paragraph 3, Standards of conduct, 9th parliamentary term – 2019-2024, July 2024.

[9] تتعلق القضية بخصوص قيام بعض أعضاء البرلمان الأوروبي برفع أعلام بلدانهم على المنصات أثناء الجلسات، وهو ما اعتبره رئيس البرلمان الأوروبي مخالفًا للقاعدة 10(3) من النظام الداخلي التي تمنع عرض أي لافتات أو رموز بصرية خلال الجلسات دون ترخيص.

عدد من النواب طعنوا في هذا الإجراء أمام محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي (الغرفة الثالثة)، معتبرين أن هذا الحظر يقيّد حقهم في التعبير.

القرار الصادر بتاريخ 14 ديسمبر 2023 خلص إلى أن التدبير الشفوي لرئيس البرلمان الأوروبي لا يُعد “عملًا قابلاً للطعن” بالمعنى المقصود في المادة 263 من معاهدة عمل الاتحاد الأوروبي (TFEU)، وبالتالي رفضت المحكمة الطعن.
أنظر:

-Court of Justice of the European Union, Third Chamber, Judgment of 14 December 2023, Case C-657/22 P.