جاك شوفاليي
Jacques Chevallier
ترجمة نبيل عواد، باحث في القانون العام
مراجعة: الأستاذ ادريس جردان، أستاذ باحث في القانون العام
والأستاذة مليكة الزخنيني، أستاذة باحث في القانون العام
المقال الأصلي: LE CONSEIL D’ÉTAT, AU CŒUR DE L’ÉTAT
صادر بــ: https://www.cairn.info/revue-pouvoirs-2007-4-page-5.htm
يعد الحديث عن مجلس الدولة أمرا غاية في الصعوبة، وإن كان الأمر ظاهريا يبدو بسيطا. فمن جهة، يعتبر المجلس بمثابة قاض يتربع على قمة هرم النظام القضائي الإداري، ومن جهة ثانية، يعتبر مستشارا للحكومة مما يجعله يتمتع بصلاحيات استشارية. غير أن الجانبين معا لا يجسدان ما يميز المجلس حقيقة؛ إذ من المؤكد أنه لا توجد دائما تشريعات خاصة بالمحاكم العادية للبت في المنازعات الإدارية، إلا أن هذه الصيغة غير منتشرة في كل الدول خاصة الأوربية منها؛ كما أن الاختصاصات الإدارية تعبأ في كل البقاع لتوضيح العمل السياسي. وإذا كان الجمع بين هذه الاختصاصات غير معتاد إلا أنه لا يشكل استثناء. وبذلك، يبدو مجلس الدولة، للوهلة الأولى، كمجرد “طبعة” من نموذج تطبيقي عام جدا، حيث يبين التركيز على النماذج الأجنبية بمناسبة الذكرى المائتين للمجلس عزمه، هو نفسه، على الانخراط في حركة شاملة.
يبقى هذا التقديم سطحيا، ذلك أن المقارنة في هذا الصدد خادعة، لأن مجلس الدولة الذي تمتد جذوره بعمق في التاريخ الوطني، يفرض نفسه كنموذج قل نظيره في مكان آخر، خصوصا أن صلاحيات المجلس المنصوص عليها غير كافية لتحديد المكانة الفريدة التي يحتلها في قلب الدولة ومن ثمة في المجتمع الفرنسي. فمجلس الدولة، بمقتضى القواعد البروتوكولية، يأتي على رأس قائمة المؤسسات الإدارية، بعد الهيآت السياسية، مما يجعل نائب رئيسه يحظى بتقديم تهاني الهيئات الشرعية سنويا لرئيس الجمهورية، وهو ما يؤشر على وضع المجلس الخاص داخل الدولة.
بشكل أعمق، لا يشكل مجلس الدولة مؤسسة فحسب بل “هيئة عظمى” تخول لأعضائها سلطات واسعة مستندة على الموارد الناتجة عن انتمائهم المشترك، ولابد، لتقييم تأثير المجلس على الاختيارات الجماعية، من الأخذ بعين الاعتبار هذا التداخل بين البعدين المؤسساتي والفئوية المهنية إذ تنعكس هيبة المجلس على أعضائه فتخول لهم ممارسة مهام تجعل من المجلس، بالمقابل، نقطة تقاطع والتقاء لشبكات متعددة.
وهكذا، يبدو مجلس الدولة في فرنسا، باعتباره الضامن لهويتها، ذا مكانة مركزية في الدولة مما يقوده إلى تدبير مسلسل التحولات التي أصبحت تواجهها. وتدل هذه المكانة المحورية للمجلس على التوازن المعقد الذي تقيمه فرنسا بين بناء دولتي يشكل المجلس حجر الزاوية فيه، ومنطق سياسي ناتج عن لعبة الآليات الديمقراطية.
مجلس الدولة ضامن هوية الدولة
رابطة قوية جدا بل جوهرية تلك التي توحد، في فرنسا، مجلس الدولة والدولة. فالمجلس الذي رأى النور مع تشكل الدولة الحديثة، وتمكن من النجاة من مختلف الهزات التي طبعت التاريخ السياسي الفرنسي، أصبح رمزا لاستمرارية الدولة؛ علاوة على هذه الحظوة الرمزية، ساهم المجلس في سك نموذج للدولة تجذر تدريجيا ليصبح أحد عناصر الهوية الوطنية.
تجسيد الدولة Incarnation de l’Etat[1]
لا يمكن الفصل بين مؤسسة مجلس الدولة وسيرورة بناء الدولة إذ يشكل عنصرا أساسيا منها، فقد أدى بروز الدولة ذات السيادة وتركيز كل السلط بين يدي الملك، كمنعطف حاسم خلال القرن السادس عشر، إلى إنشاء “مجلس الملك” الذي كانت مهمته مساعدة الملك في ممارسة ما أصبح من صلاحياته (سن القوانين وتحقيق العدالة واستخلاص الضرائب وتسيير شؤون المملكة)؛ كان المجلس يبدو كحجر الزاوية للتنظيم الجديد للمملكة، وأداة للملكية المطلقة، مجسدا القوة العظمى للدولة. لا شك أن الملك كان خلال المرحلة الفيودالية محاطا أيضا بمجلس، غير أن هذا المجمع الملكي Curia regis، المشكل من كبار الخدم vassaux وأعيان الكنيسة، كان من صميم النظام الإقطاعي. إن منطق مجلس الملك مغاير تماما، فهو، من خلال وحدته التي تجسد القوة الأعلى للدولة، يضم سلسلة تشكيلات متخصصة تعكس تعدد المهام الملقاة على عاتقه؛ كما يمثل وجود عنصر بشري مؤهل في هذه التشكيلات (مستشارو الدولة، المقررون maîtres des requêtes) إلى جانب أبرز شخصيات المملكة عامل استقلالية يميزه عن البنيات الموروثة عن الفيودالية. ففي الوقت الذي يجسد فيه شخص الملك الدولة، يساهم مجلس الملك، رغم ارتباطه بشخص الملك، في مأسسة الدولة عبر تفعيل سلطتها وجعلها دائمة.
وسيشكل إلغاء مجلس الملك سنة 1791 قطيعة أكدت إرادة الثوار في إعادة بناء الدولة على ركائز جديدة جذريا، غير أن إعادة إحداث “مجلس الدولة” في العام الثامن، ما كانت إلا لتكتسي منذئذ دلالة عميقة، فقد أشرت على نهاية المرحلة الثورية واستدعاء المبادئ التي حكمت بناء الدولة في ظل النظام القديم. ورغم أن مجلس الدولة الجديد يختلف كثيرا عن مجلس الملك السابق إلا أن هناك منطقا مشتركا يجمع بين المؤسستين، إذ صمم مجلس الدولة، على غرار مجلس الملك، كأداة لخدمة السلطة التنفيذية مع تمتعه بصلاحيات واسعة تمتد من إنتاج القوانين إلى مراقبة الإدارة. وهذا التطابق مع الدولة هو الذي سيمكن المجلس من تجاوز تغيرات النظام والأزمات السياسية. غير أن استمراريته لم تحصل بسهولة، فطيلة القرن التاسع عشر عرضته تبعيته السياسية لهزات قوية بفعل تغيرات النظام؛ وسيصبح بقاؤه مرتبطا بإجراء تعديلات حساسة على مستوى مهامه وشروط ممارستها ووضعية أعضائه. وسيعرف المجلس، في القرن العشرين، توترات كبيرة مع السلطة السياسية بسبب الانخراط الفعال لبعض أعضائه بجانب نظام “فيتشي” vichy، ثم بعد ذلك بسبب تداعيات حرب الجزائر – مع قضية جاكومي Jacomet سنة 1960 وقرارCanal لسنة 1962. وإذا كان المجلس قد تمكن من تجاوز هذه الصعوبات في نهاية المطاف، فذلك يثبت دلالة مسلسل تجسيد الدولة من طرف المجلس، بحيث تكون كل استهداف للمجلس رديفا للتشكيك في إرث دولتي بأكمله.
التطابق مع الدولة سيقود المجلس، إلى التموضع كضامن لاستمرارية الدولة، عبر السعي لتحجيم تأثير التغيرات السياسية. وستتمظهر هذه المقاومة للتغيير بداية في مباشرة عملية تأويل رامت تفكيك خطر تقويض مبادئ تنظيم الدولة، إذ مكن اللجوء لهذه التقنيات المجلس من تخفيف مدى التحديثات المذهلة التي جاء بها دستور 1958. وبالإضافة إلى ذلك، لن يتردد المجلس في رسم بعض الحدود للسلطة السياسية حيث يبدو بناء نظرية “المبادئ العامة للقانون” كضمانة تروم منع بعض التجاوزات السياسية. غير أن هذه القدرة على المقاومة تصطدم ببعض الحدود التي تعود، في الآن ذاته، لوضع المجلس الذي يمنع كل استراتيجية مواجهة مباشرة مع السلطة وللسياق السياسي؛ فقد أثار موقف المجلس خلال نظام فيتشي الكثير من الجدل، فالمساهمة في تنزيل قوانين فيتشي خدشت سمعة “المجلس الضامن للمبادئ الجمهورية”.
يشكل هذا التطابق بين المجلس والدولة، عامل التماسك الذي يوحد بين الأعضاء ويمكن من ترابط المجموعة. وإذا كانت روح الفريق تترجم الشعور بالانتماء وتواجد تضامنات ملموسة، كما هو الشأن في أماكن أخرى، فإنها اكتست بعدا فريدا من نوعه في هذه الحالة حيث يصعب التمييز بين الفريق والمؤسسة؛ فبالدفاع عن الفريق، كان أعضاء المجلس يدافعون عن المؤسسة. غير أنه يفترض في هذه المؤسسة ذاتها أن تجسد الدولة وتضمن استمراريتها التاريخية. وبذلك يوحد رابط جوهري الفريق والمؤسسة والدولة حيث يحدد الفريق هويته داخل العلاقة التي تربطه بالدولة عبر المؤسسة ومن خلالها، وتصبح، منذئذ، تمثلات الفريق والقيم التي يتقاسمها مجموع أعضائه هي الموجهة للشرعية الدولتية، إذ إن الانتماء للفريق يعني امتلاك “حس الدولة”؛ أي الاهتمام بالصالح العام والانشغال بالمصلحة العامة وثقافة المرفق العام؛ فتقاسم هذه القيم، التي يمتلكها الفريق، يمنح شعورا بالفخر والتفوق الأخلاقي، ليس فقط، بالنسبة لباقي أجهزة الوظيفة العمومية بل بالنسبة للمجتمع بأسره. لأن هذه التمثلات والقيم تتوارث جيلا عن جيل وتترسخ منذ ولوج المؤسسة، فإنها تتجدد بفعل الزمالة في العمل بالمجلس والعلاقات الشخصية التي تنسج بين أعضائه.
باني الدولة
لا ينحصر دور المجلس في تجسيد الدولة باستمراريتها التاريخية، فقد ساهم أيضا في رسم معالمها وتشكيل هندستها؛ لقد كان تأثيره حاسما في ظهور تصور لدولة متمايزة بقوة عن بقية المجتمع الذي ساد بفرنسا.
وقد ترجم هذا الإسهام، بالدرجة الأولى، بتطبيق قواعد قانونية استثنائية عن القوانين العادية على الدولة. وبالفعل، يستند وجود القانون الإداري على فكرة مفادها خصوصية الدولة، غير القابلة للاختزال، مقارنة مع باقي الظواهر الاجتماعية، وبالتالي خصوصية علاقتها بالقانون حيث لن يعرف الجهاز المكلف بتنفيذ مهام الدولة الخضوع لنفس القوانين ولا لنفس القضاة كالخواص. تحددت هذه الرؤية منذ القرن السادس عشر (مرسوم Saint- Germain 1641)؛ وهي تبرر إقامة “مجلس الدولة والمالية “في إطار المجلس الخاص، المكلف بالنظر في النزاعات الإدارية والضريبية؛ وستصمد هذه الصيغة في وجه الهزات الثورية لتتعزز سنة 1799 مع إقامة مجلس الدولة . غير أن إنشاء هذا المجلس، على وجه التحديد، هو الذي سيمكن من بناء مضمون القواعد الخاصة التي كانت معالمها قد وضعت في ظل النظام القديم عن طريق التقاضي بالدرجة الأولى، إذ في غياب نصوص عامة، فالمجلس هو من سيصنع المبادئ الكبرى التي سينبني عليها القانون الإداري؛ يتعلق الأمر بعمل تأسيسي ساهم في إرساء استقلالية الدولة. وإذا كان القانون الإداري في البداية قانونا تفضيليا، فإن مجهودات الليبرالية السياسية والمثالية الجمهورية أدت لإعادة التأسيس الحقيقية: منحت إعادة التأسيس للدولة – بعيدا عن التشكيك في الاستقلالية القانونية للدولة- أسسا جديدة باسم دولة القانون حيث نصب المجلس نفسه كمدافع عنها.
وسيقدم مجلس الدولة، عبر القانون الإداري، مساهمة أساسية لبناء نظام القيم الذي يرتكز عليه صرح الدولة بفرنسا. يتم الفصل بشكل واضح بين القيم التي تتبناها الدولة والقيم السائدة بين الخواص حيث ينظر للدولة كحامل لـ “مصلحة عامة” غير قابلة للانتقاص أمام المصالح الخاصة وفي مأمن من ضغوطها. وتبرر هذه المصلحة العامة انفراد الدولة بامتلاك وسائل عمل تستعملها لمصلحة الكل: سيمكن إنشاء القانون الإداري على دعامتين، هما “القوة” و”الخدمة”، المجلس من نسج جهاز مفاهيمي منسجم جدا، سيصمد في وجه التحولات التي أثرت على مكانة الدولة في المجتمع. وسيكون هذا الاستقرار، في نفس الوقت، ضمانا لاستمرارية التمثلات التي تبني عليها الدولة مشروعيتها.
في النهاية، ظل بناء جهاز الدولة بشكل كبير منتوجا فرعيا لعمل المجلس، إذ كانت إحدى المهام الأساسية للمجلس الجديد، في عامه الثامن، السهر بدقة على حسن سير الإدارة وفق قواعد مستوحاة من التنظيم العسكري (الانضباط، التراتبية، المركزية)؛ ليفرز عمل المجلس إرساء جهاز إداري منسجم ومهيكل يباشره محترفون. بمبادرة من المجلس، تم تدريجيا إرساء نظام حقيقي للوظيفة العمومية يؤمن للمعنيين مسيرة مهنية ويمنحهم ضمانات ضد التجاوزات السياسية. وسيتم الاحتفاظ بوحدة الهياكل الإدارية – بالرغم من حركات اللاتمركز واللامركزية – بإرساء علاقات عضوية تمر عبر قناة القانون (التراتبية، الوصاية).
غير أن هذا النموذج للدولة لن يبق ثابتا، حيث ستؤدي إقامة الدولة الليبرالية، ثم مجيء دولة الرفاه إلى تحولات سينخرط فيها المجلس بفعالية كما يدل على ذلك تطور اجتهاده القضائي؛ إلا أن هذه التكيفات بقيت متوافقة مع نموذج صمدت ركائزه في وجه الزمن.
ولا يمكن عزل التأثير الذي يمارسه المجلس بهذا الشكل عن شغل أعضائه لمجموعة من المواقع الاستراتيجية.
وضعية مركزية في الدولة
يرتبط وزن مجلس الدولة بشكل وثيق بطبيعة الموارد التي يتحكم فيها، فالدولة مؤطرة بالقانون الذي يرسي النسيج الصلب لتشكيلها، ويحدد مبادئ التنظيم فيها، ويشكل الوسيلة المتميزة لتعاملها مع المجتمع. إن ضبط هذا الإنتاج القانوني هو ما يتيح للمجلس احتلال مكانة هامة وسط هياكل الدولة. ويتوفر أعضاء المجلس، بالموازاة مع ذلك، بحكم وضعهم ك”محاميي الدولة” على إمكانية استثمار مجموعة من مواقع السلطة، مع ادعاء احتكار المعرفة حول الدولة.
التحكم في إنتاج النصوص القانونية
يتحكم مجلس الدولة في كل حلقات إنتاج التشريع من الأعلى إلى الأسفل، ومن الصياغة إلى التطبيق؛ ولا يقتصر تدخله على الدقة الشكلية أو الانسجام البسيط للإطار، بل يمتد إلى المضامين ذاتها.
ويعتبر مجلس الدولة شريكا في إعداد مشاريع قوانين الحكومة، بصفته مستشارا قانونيا لها، سواء كانت استشارته منصوصا عليها دستوريا (خصوصا بالنسبة لمشاريع القوانين والمراسيم) أو بواسطة قوانين (مراسيم “في مجلس الدولة”) أو بناء على طلب من الحكومة. كما تُعرض على المجلس مشاريع قرارات فردية أو أوامر، إضافة إلى مقترحات الجماعات المتضمنة لمقتضيات ذات طبيعة تشريعية. ويمكن للوزير الأول أن يستشير المجلس بشأن صعوبات تطبيق بعض النصوص. وتتعلق المهمة الأكثر أهمية بدراسة مشاريع القوانين التي استعادها سنة 1945 بعد مدة انقطاع طويلة، إضافة إلى دراسة المراسيم. غير أن المجلس، وهو ينظر في هذه المشاريع، لا يكتفي بالسهر على أن تكون هذه النصوص محررة بشكل صحيح ومتطابقة مع القانون الجاري به العمل، إذ يجري تقييما للملاءمة، بالتدقيق في أهمية المشروع والتبريرات المقدمة ومدى تناسبهامع المشكل المطروح؛ لا يتعلق الأمر طبعا بالنظر في طبيعة الاختيارات السياسية للحكومة بل بمساءلة آليات تنزيلها. وبذلك، يكون المجلس طرفا في مسلسل صياغة القانون، فآراؤه، وإن لم يؤخذ بها دائما، تشكل في كل الأحوال آلية فعالة في توجيه إنتاج النصوص القانونية على الأقل فيما يتعلق باعتبارات الملاءمة.
إن تواجد أعضاء المجلس في مواقع تتحكم في إنتاج النصوص القانونية على مستوى الآلة الحكومية والإدارة المركزية يؤصل لهذا التدخل. فعلى مستوى الأمانة العامة للحكومة التي تشكل جهازا أساسيا للإحالة، يشرف عضو من المجلس، تقليديا، على إدارة هذا الجهاز ويمارس مهامه في علاقة وطيدة ومستمرة مع المجلس. كما تضمن مزاولة المجلس لمهام الاستشارة القانونية لدى بعض الوزارات، وكذا شغل أغلب أعضائه لمناصب الإدارة القانونية فيها، مهمة التحكم ليس فقط على مستوى تطبيق النصوص، بل أيضا منذ إعداد المشاريع.
وسيضمن تعيين عضو من المجلس، بناء على طلب الحكومة، كـمُعِدٍ للمشاريع تواجده على مستوى المنبع الأول للتشريع. ولا يمكن لتواجده في الأمانة العامة للمجلس الدستوري وفي الهيئات القضائية الأوربية إلا أن يزيد وزن آراء المجلس قوة. من المؤكد إذن أن التحكم في إنتاج النصوص ليس كليا، فقد انفلتت من المجلس بعض المناصب كمنصب الأمين العام للشؤون الأوروبية والمدير العام للوظيفة العمومية، ولا بد من ضغط مستمر للحفاظ على المواقع المكتسبة؛ ولا ينتقص ذلك من مكانته بالرغم من كل ما سبق.
في الجانب الآخر من السلسلة، لا تخول الاختصاصات القضائية للمجلس لهذا الأخير مجرد إمكانية الإشراف على احترام المصالح الإدارية للشرعية، بل تخول له أيضا المشاركة في بلورة القواعد. وتأخذ هذه السلطة المعيارية ثلاثة أشكال أساسية: تأويل القوانين الذي قد يصل إلى حد التناقض مع حرفية مقتضياتها، وإنشاء قواعد فقهية في غياب النصوص المكتوبة؛ ثم تكريس مبادئ على درجة كبيرة من العمومية. وتمكن مزاوجة المجلس بين الوظيفة الاستشارية والوظيفة القضائية من الإمساك بطرفي سلسلة إنتاج القانون وتطبيقه. لكن إشعاعه يتجاوز الساحة القانونية.
استثمار الدولة L’investissement de l’État
على الرغم من العدد المحدود لأعضائه، يحتل المجلس مواقع رئيسة في الدولة. ويتم هذا الاستثمار تحت غطاء الأنشطة التكميلية للأنشطة المزاولة في المجلس، حيث إن أعضاء المجلس مطالبون بالمساهمة في العديد من الهيئات الاستشارية، والمحاكم المتخصصة، ومجموعات العمل، والهيآت المستقلة، ولجان الحكماء؛ ورئاستها في غالب الأحوال. وبحكم آدائهم لمهام استشارية لصالح الإدارات والهيئات العمومية بشكل متكرر، يتطلع أعضاء المجلس لشغل منصب أستاذ شريك في الجامعات. وبهذا لا تنقطع صلة مجلس الدولة عن بقية الإدارة بأية طريقة، علاوة على أن الخدمة الجليلة التي يقدمها تخول له استقطاب مختلف الكفاءات التي يحتاجها.
علاوة على أنشطته التكميلية، يمكن للأعضاء مغادرة المجلس مؤقتا لشغل بعض مواقع السلطة، كوضعهم رهن الإشارة بمكاتب وزارية وغالبا رئاستها؛ إلحاقهم من أجل تحمل مهام الإدارة على مستوى الوزارات أو الهيئات أو المقاولات العمومية أو المنظمات الدولية بل حتى الجماعات الترابية، أو المرور للمجال السياسي عبر ممارسة ولاية برلمانية أو مسؤوليات حكومية. وهكذا نقف مجددا على الدور الذي طالما لعبه المجلس كمشتل للإدارة العليا، حيث كان الأعضاء، سابقا في ظل النظام القديم، يُختارون من بين المقررين، وهو التقليد الذي تم الاحتفاظ به؛ كما سلط التواجد في المجال السياسي، الذي كانت تعترضه عوائق قانونية، الضوء على المجلس بشكل جديد. وإذا كانت هذه المسارات تحدث تجديدا متواصلا، وتقود إلى التمييز بين المسيرات المهنية في المجلس، فإنها تمثل بالنسبة له عامل إشعاع داخل الدولة.
تولد حالات الجاهزية لشغل مهام في المجال الصناعي أو البنكي آثارا ملتبسة، فإذا كانت توسع من دائرة تأثير المجلس، فإنها بالمقابل تسائل التطابق مع الدولة الذي يستمد منه المجلس مشروعيته؛ حيث غالبا ما تشكل غرفة انتظار للأعضاء قبل مغادرتهم النهائية التي تمثل انفصالا حقيقيا.
ذكاء الدولة
يجد مجلس الدولة، بتطابقه مع الدولة، نفسه مطالبا باحتكار المعرفة المتعلقة بها: فوحده من يستطيع استيعاب المنطق الذي يحكم تأسيسها، وفهم دواليب عملها، وتحديد اتجاه الإصلاحات التي تجب مباشرتها؛ فالموارد القانونية التي يتملكها المجلس ليست سوى وسيلة للوصول إلى معرفة عميقة بالدولة، وبالتالي بالمجتمع. ويفسر ذكاء الدولة هذا، والذي يرى المجلس أنه يمتلكه، السيطرة التي أحكمها منذ البداية على علم إداري تم تصوره كتخصص نفعي يهدف إلى تجويد تنظيم إدارة الدولة وسير عملها، فقد كان مجلس الدولة حاضرا بقوة في المؤتمرات العالمية الأولى للعلوم الإدارية، وساهم في إحداث المعهد الدولي سنة 1930 وأصبح Guy Braibant العضو البارز أمينا عاما (1979-1981) ثم رئيسا (1992-1995)؛ ويشغل منصب الأمين العام للمعهد الدولي للعلوم الإدارية مستشار دولة، فيما يرأسه نائب رئيس مجلس الدولة.
اتخذت المكانة المحورية للمجلس في منتديات التفكير حول الدولة بعدا جديدا مع إنشاء لجنة التقرير سنة 1963 التي ارتقت إلى مصاف الشعبة سنة 1985. بينما كانت أنشطة اللجنة في البداية تقتصر على صياغة تقرير سنوي لا يعدو كونه حصيلة لأنشطة المجلس، أصبحت اللجنة تقوم بدراسات حقيقية خلال السبعينيات، وأصبح التقرير السنوي منذ سنة 1990 يضم تعليقات عامة حول مواضيع أوسع. وستكتسي مهمة القيام بالدراسات التي ترسخت سنة 1975 أهمية جديدة، إذ أن مواضيع هذه الدراسات، التي تكون بناء على طلب من الوزير الأول أو بمبادرة من المجلس، بمشاركة شخصيات خارجية، كانت متنوعة جدا، امتدت من سير الإدارة والعدالة إلى مشاكل المجتمع، كما أن السلطات العمومية تعمل، غالبا، بمقترحات الإصلاحات الملموسة التي تخرج بها هذه الدراسات، التي عبرها لا ينتصب المجلس فقط ك “محامي الدولة” بل كـ” مثقف جمعي” يتكلف بالتفكير باسم الدولة وتوجيه الاختيارات المشتركة.
وتمر هذه الوظيفة عبر قنوات غير رسمية كالمشاركة في أشغال اللجان المحدثة من أجل إعداد الإصلاحات؛ والحضور في مجموعات العمل أو دوائر البحث؛ ونشر مؤلفات ترتبط بمواضيع متنوعة. وهكذا تمكن بعض أعضاء المجلس من ولوج الدوائر المغلقة “للمفكرين الكبار” القادرين على صنع أفكار وتمثلات جديدة.
شكلت التحولات التي كانت تعرفها مؤسسة الدولة محكا لذكاء الدولة هذا..
مجلس الدولة في مواجهة تحولات الدولة
كان لتطابق مجلس الدولة مع الدولة تأثيرا مزدوجا، تقوية صرح الدولة وترسيخ تأثير المجلس وهيبته: فبينما كان المجلس يؤمن بعمله متانة واستمرارية مبادئ تنظيم الدولة، ما كانت ظلال الهالة المحيطة بالدولة إلا لتكون مفيدة له. لقد أحدثت دينامية التطور التي تعرفها الدولة حاليا، بسبب الضغوط الداخلية والخارجية، وضعية جديدة، فهي تفرض على المجلس بذل مجهود للتكيف حفاظا على هوية مهددة لدولة ومواقع ضعيفة.
الاهتزاز/ Ébranlement/ الهشاشة
يهدد اضمحلال السيادة، التي تشكل أساس تكوين الدولة الحديثة، هوية الدولة، ففي خضم تشكيلة معقدة من التفاعلات، لم تعد الدولة تتوفر على تلك القوة العليا، وتلك السلطة الحصرية، اللتين يفترض أنهما لها ؛ ووجدت نفسها منذئذ منخرطة في آليات dispositifs واسعة للتعاون تحد من حريتها في اتخاذ القرار.
يقلب البناء الأوربي بشكل كبير التصور الفرنسي للدولة، الذي صنع بطريقة تدريجية منذ الملكية المطلقة، والذي صمد في وجه التغيرات السياسية: إذا كان المجلس يمثل دائما الدولة، فإنه لم يعد يمثل نفس الدولة، بل دولة أصبح نشاطها مؤطرا بواسطة مؤسسات فوق-وطنية تضعها أمام إكراهات كثيرة.
وبالمقابل، ينحو نموذج الدولة الذي ساهم المجلس في بنائه نحو الانهيار. لم تعد ضرورة خضوع الدولة للقواعد القانونية الاستثنائية الشريعة العامة droit commun تفرض نفسها بنفس البداهة كما في السابق حيث أن جدوى تصور ثنائية القانون الذي تنبني عليه أصبحت موضع مساءلة؛ وبذلك نلاحظ تقليصا لمجال تطبيق القانون الإداري، وتخفيفا للطابع الاستثنائي للقواعد المطبقة، إضافة إلى خصوصيات في وضعية القضاء الإداري.لم تعد منظومة القيم، التي كان يفترض أن الدولة ترتكز عليها، تعمل بنفس الفعالية؛ فلم يعد الاحتجاج بالمصلحة العامة وحده كافيا للقول بشرعية التدابير العمومية؛ ومال القانون الإداري نحو التمركز حول فكرة السلطة العامة على حساب الجدلية التي كانت قد تأسست عليها، خصوصا تحت ضغط الاتحاد الأوربيLa pression communautaire، وفي الأخير، أفسحت الوحدة العضوية للدولة المجال لحركة انشطار يعكسها التنوع المتنامي للهياكل الإدارية، وتوسع استقلاليتها، وترهل الروابط التي تحفظ تماسك الكل. يحدث كل هذا وكأن العمل الذي نسجه المجلس بصبر على مر الزمان أصبح عرضة لانشطارات عميقة.
لقد أصبحت مكانة المجلس. فمن المؤكد أنه سيحتفظ بالتحكم في إنتاج القوانين على الصعيد الداخلي؛ لكن القانون الداخلي أصبح مشروطا بالقواعد التي يفرضها المستوى الاتحادي، والتي لا يملك المجلس سلطة عليها. وكقضاء إداري أعلى، يجد مجلس الدولة، الذي كان قد خسر سنة 1958 احتكاره للقانون العام الفرنسي، بعد إنشاء المجلس الدستوري، نفسه في منافسة متزايدة مع محكمتي ستراسبورغ و ليكسومبورغ: وبذلك فقد السيطرة التي كانت له على تطبيق القواعد القانونية. وتبين الموجة الجديدة لهجرة كبار الموظفين نحو القطاع الخاص، بشكل قوي، أن هيبة المجلس لم تعد كافية لمعادلة جاذبية القطاع الخاص. ومن ثمة أصبح المجلس مجبرا على بذل مجهود أكبر للتكيف مع السياق الجديد.
التكيف
استوعب مجلس الدولة تدريجيا السياق الجديد الذي يتم فيه عمل الدولة وخصوصا تداعيات البناء الأوربي، فبعيدا عن تبني سلوك حذر، أصبح المجلس ينادي باستراتيجية هجومية إزاء أوربا، خصوصا في تقرير 2007. وبملاحظته أن الإدارة الفرنسية لم تتأقلم بما يكفي لتنزل بثقلها على نظام اتخاذ القرار الأوربي، صاغ المجلس مجموعة من الاقتراحات الهادفة لغرس “ثقافة أوربية” في المرافق. وآخذا بعين الاعتبار سقوط التصور التقليدي للسيادة، يعتزم المجلس استخلاص كل نتائج اندماج الدولة في مجموعات أوسع.
أصبح نموذج الدولة المتوارث تاريخيا، في نظر المجلس، مدعوا لإجراء عدد من التعديلات. وتدل الاجتهادات القضائية الحديثة أن تصور قانون إداري مختلف عن القانون العادي جذريا لازال حيا، إذ في عدد من المجالات كالمنازعات المتعلقة بالمسؤولية، تميل خصوصيات الحلول المتخذة من طرف القاضي الإداري إلى التلاشي؛ وإذا كان تقليص خصوصيات القضاء الإداري ناجما عن ضغوط محكمة ستراسبورغ بشكل أساسي، فإن مجلس الدولة كان وراء تبني المسطرة الاستعجالية الجديدة. وعلى المستوى القيمي، كان المجلس يقبل من 1999 أن مفهوم المصلحة العامة في حاجة “لإعادة صياغة”. وكان يجب على تصور الدولة “التي تنظم المجتمع المدني من الخارج” أن يترك مكانه ل “الدولة الحَكَم بين المصالح”؛ أما فيما يتعلق بأسطورة المرفق العام، فلن تكون قادرة على منع تقييم جودة الأداء العمومي. وفي الأخير، أدرك المجلس حركة تفتت الهياكل الإدارية التي يعكسها تطور السلطات الإدارية المستقلة وإصلاحات اللامركزية، لكن مع دعوته لإقامة ضوابط مع التمسك بالمحافظة على بعض أجهزة الرقابة خاصة القضائية منها.
وفيما يتعلق بموقع مجلس الدولة في المشهد القانوني المجدَد جذريا، التزم المجلس عام 1989، بعد مماطلة طويلة، بأن يأخذ بعين الاعتبار إعادة تشكيل النظام القانوني لما بعد البناء الأوربي، حيث بقبوله الرقابة على مطابقة القوانين للتشريع المخالف dérivé، يصادق المجلس على مبدأ سمو القانون الاتحادي على القانون الوطني، الذي أكدته منذ زمن طويل محكمة العدل الاتحادية (الأوروبية)؛ وسيستمر انخراط المجلس في هذه الحركة حيث قرر المجلس مؤخرا أن يحيل على محكمة لوكسومبورغ بحث الصعوبات الجادة في نظر القانون الاتحادي في ما يتعلق بالمراسيم بنقل التوجيهات les décrets de transposition des directives، مع الاحتفاظ بإمكانية الرقابة على دستوريتها ( شركة Arcelor، 2007 ). وبذلك، التزم مجلس الدولة، بحزم أكثر مما كان عليه في الماضي، بمسار حوار وتعاون مع القضاة الأوربيين مما يجعله يتموقع داخل فضاء قانوني موسع، يجد ترجمته في استراتيجية استثمار مختلف الولايات القضائية الموجودة إن على المستوى العالمي أو في الإطار الأوربي.
وبناء عليه، لم يبق مجلس الدولة سلبيا إزاء التحديات التي أصبحت تواجهها الدولة التي ساهم في بنائها، والذي يجسد استمراريتها التاريخية. وبتجسيده للدولة، أكثر من أي وقت مضى، يسعى المجلس لضمان بقائه بتعديل مبادئ تنظيمه وقواعد سيره تكيفا مع العالم المعاصر. وفي سعيه هذا، يبقى المجلس وفيا للمنطق الذي كان وراء إنشائه.
[1] يقصد بهذه العبارة أنه هناك خلط بين مجلس الدولة والدولة، ويمكن ترجمتها بـ “تجسيد الدولة” أو تمثيلها أو مطابقتها
نبيل عواد
باحث في القانون العام.
Researcher in public law.