يبدو أن المحكمة الدستورية المغربية، لم تجد حلا آخر بخصوص “مقترح قانون تصفية معاشات أعضاء مجلس النواب”، غير توسيع الفصل 71 وتمطيطه لكي يشمل ما أراد نواب مجلسي البرلمان تمريره، من منطلق توازي الأشكال “وتيسير حياة المواطنين”.
والراجح أيضا أن تصويت مجلس النواب على رفض مقترح قانون تصفية معاشات مجلس المستشارين، قد شكل واقعة لا سابق لها، في ظل البياضات التي يعرفها القانون، وغياب اجتهاد سابق في الموضوع يمكن القياس عليه، ولا يكون القياس إلا في غياب أدنى فارق.
كان ذلك هو التمهيد، وما ستتلوه هي الحيثيات:
توصلت المحكمة الدستورية ﻓﻲ 15 ﻓﺒﺮاﻳﺮ 2021، برسلة إحالة، بموجبها طالب 87 ﻋﻀﻮا ﺑﻤﺠﻠﺲ اﻟﻨﻮاب ﻣﻦ اﻟﻤﺤﻜﻤﺔ اﻟﺪﺳﺘﻮرﻳﺔ، اﻟﺘﺼﺮﻳﺢ بلا دستورية ﻣﻘﺘﻀﻴﺎت اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﻤﺼﺎدق ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺘﺎرﻳﺦ 9 ﻓﺒﺮاﻳﺮ2021، اﻟﻤﺘﻌﻠﻖ ﺑﺈﻟﻐﺎء وﺗﺼﻔﻴﺔ ﻧﻈﺎم اﻟﻤﻌﺎﺷﺎت اﻟﻤﺤﺪث ﻟﻔﺎﺋﺪة أﻋﻀﺎء ﻣﺠﻠﺲ اﻟﻨﻮاب ﺑﻤﻮﺟﺐ اﻟﻘﺎﻧﻮن رﻗﻢ 24.92.
ولئن تضمنت رسالة الإحالة العديد من المقتضيات التي رأى أصحابها أنها تتضمن مخالفة للدستور، وقد تناولها قرار المحكمة رقم 115/21، الصادر في 10 مارس 2021، مؤكدا على دستوريتها، ومبينا تهافت الأسس التي استند إليها أصحاب الإحالة، فإن الذي يهم هذا المقال المقتضب، هو الفقرة الرابعة المتعلقة “ﺑﻌﺪم اﻧﺪراج اﻟﻘﺎﻧﻮن، ﻣﻮﺿﻮع اﻹﺣﺎﻟﺔ، ﺿﻤﻦ ﻣﺠﺎل اﻟﻘﺎﻧﻮن واﻟﻤﺠﺎل اﻟﺘﻨﻈﻴﻤﻲ”. وذلك على الرغم من أن هناك ملاحظات على باقي التأسيسات الأخرى التي أسست بها المحكمة لقرارها، لا سيما فيما يتصل بتحويل نفقات خصصت لأوجه صرفها، وإعفاء أعضاء البرلمان لأنفسهم من أداء الضريبة على مسترجعاتهم وأيضا على مساهمات الدولة، وقد كان في مكن المحكمة الدستورية مناقشة ذلك من منطلق تنازع المصالح وليس الدفع بكون البرلمان “سيد نفسه” في تشريع الضرائب.
وبالعودة إلى مسألة اندراج قانون تصفية معاش البرلمانيين (نقول البرلمانيون لأن نفس الأمر سايره مجلس المستشارين فيما بعد) ضمن مجال القانون من عدمه، فإن قرار المحكمة استند على ضرورة سلك القراءة الكلية للدستور وليس القراء المركزة على الفصل 71 منه. ولأن المحكمة نهجت هذه القراءة، فإنها جمعت بين الفصل المذكور الذي ينص على: “ﻳﺨﺘﺺ اﻟﻘﺎﻧﻮن، …ﺑﺎﻟﺘﺸﺮﻳﻊ ﻓﻲ … –اﻟﺤﻘﻮق…اﻟﻤﻨﺼﻮص ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻲ …ﻓﺼﻮل أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺪﺳﺘﻮر؛”، وبين الفصل اﻟﻔﺼﻞ 31 القاضي بأن “ﺗﻌﻤﻞ اﻟﺪوﻟﺔ…، ﻋﻠﻰ ﺗﻌﺒﺌﺔ ﻛﻞ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﻤﺘﺎﺣﺔ، ﻟﺘﻴﺴﻴﺮ أﺳﺒﺎب اﺳﺘﻔﺎدة اﻟﻤﻮاﻃﻨﺎت واﻟﻤﻮاﻃﻨﻴﻦ، ﻋﻠﻰ ﻗﺪم اﻟﻤﺴﺎواة، ﻣﻦ اﻟﺤﻖ ﻓﻲ: -…اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ”. وبهذه القراءة التكاملية لنصوص الدستور، التي رامت من خلالها المحكمة فهم “الغاية التي ابتغاها المشرع الدستوري”، ومن ضمنها “تحقيق الحماية الاجتماعية للمواطنين على قدم المساواة”، سواء من خلال البنود المباشرة التي تنص على ذلك، أو عبر النصوص المتضمنة لما يفيد تحقيق هذه الغاية.
وبما أن المحكمة توصلت إلى قناعة بكون الفصل 71 لا يتضمن ما يفيد “حصر اﻟﺘﺸﺮﻳﻊ ﻓﻲ ﻣﺠﺎل إﺣﺪاث أو ﺗﻌﺪﻳﻞ أو ﺗﺼﻔﻴﺔ أﻧﻈﻤﺔ اﻟﻤﻌﺎﺷﺎت، ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ إﺣﺪى أﻧﻤﺎط اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻮﻇﻔﻴﻦ اﻟﻤﺪﻧﻴﻴﻦ واﻟﻌﺴﻜﺮﻳﻴﻦ وﻋﻠﻰ اﻟﻤﺴﺘﺨﺪﻣﻴﻦ دون ﻏﻴﺮﻫﻢ ﻣﻦ اﻷﺷﺨﺎص، إذ ﻳﻌﻮد ﻟﻠﻤﺸﺮع ﻓﻲ ﻧﻄﺎق اﻻﺧﺘﺼﺎص (…)، واﺳﺘﺮﺷﺎدا ﺑﻤﺒﺎدئ اﻟﺘﻀﺎﻣﻦ واﻟﻜﺮاﻣﺔ واﻟﻤﺴﺎواة وﺗﻜﺎﻓﺆ اﻟﻔﺮص واﻟﻌﺪاﻟﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﻤﻨﺼﻮص ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻲ اﻟﻔﻘﺮة اﻷوﻟﻰ ﻣﻦ ﺗﺼﺪﻳﺮ اﻟﺪﺳﺘﻮر، ﻣﺪ ﻧﻄﺎق أﻧﻈﻤﺔ اﻟﻤﻌﺎﺷﺎت وﺑﺎﻗﻲ أﻧﻤﺎط اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ إﻟﻰ أوﺳﻊ ﻣﺎ أﻣﻜﻨﺘﻪ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﻤﺘﺎﺣﺔ، ﻣﻦ ﻓﺌﺎت اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ، ﺗﺤﻘﻴﻘﺎ ﻟﻬﺪف ﺷﻤﻮﻟﻴﺔ اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ”، فإن النتيجة التي خلص إليها قرار المحكمة هي منح أعضاء البرلمان، السلطة اﻟﺘﻘﺪﻳﺮﻳﺔ في أن يحدثوا لأنفسهم بموجب ﻘﺎﻧﻮن ﻧﻈﺎﻣﺎ ﻟﻠﻤﻌﺎﺷﺎت، ﺑﺼﻔﺘﻬﻢ ﻣﻤﺜﻠﻴﻦ ﻟﻸﻣﺔ، وﻟﻴﺲ ﺑﺄي ﺻﻔﺔ أﺧﺮى، ﻟﻀﺮورات اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ يرتؤونها.
بناء على هذه الحيثيات وغيرها الواردة في القرار، استنتجت المحكمة الدستورية أن اﻟﻘﺎﻧﻮن ﺑﺸﺄن إﻟﻐﺎء وﺗﺼﻔﻴﺔ ﻧﻈﺎم اﻟﻤﻌﺎﺷﺎت اﻟﻤﺤﺪث ﻟﻔﺎﺋﺪة أﻋﻀﺎء ﻣﺠﻠﺲ اﻟﻨﻮاب، يندرج، ﻓﻲ ﺷﻜﻠﻪ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻲ اﻟﺨﺎرﺟﻲ وﻓﻲ ﻣﻮﺿﻮﻋﻪ، ﺿﻤﻦ اﻟﻤﻴﺎدﻳﻦ اﻟﺘﻲ ﻳﺨﺘﺺ اﻟﻘﺎﻧﻮن ﺑﺎﻟﺘﺸﺮﻳﻊ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻤﻘﺘﻀﻰ أﺣﻜﺎم اﻟﻔﻘﺮة اﻷوﻟﻰ ﻣﻦ اﻟﻔﺼﻞ 71 ﻣﻦ اﻟﺪﺳﺘﻮر.
تلك كانت حيثيات الرسالة ومضامين قرار المحكمة الدستورية، وأما الملاحظات فيمكن إجمالها على النحو التالي:
أولا- إن استناد قرار المحكمة على القراءة التوحيدية التكاملية لفصول الدستور، لا يؤدي بالضرورة إلى الاستنتاج بأن البرلمان سيد نفسه في تجواز ما جعله الدستور حصريا، ما دام لا يوجد في الدستور ما يمنح البرلمان حق تأويل “الحماية الاجتماعية للفئات، وتيسير حياة المواطنين” بأن يدخل أعضاء البرلمان أنفسهم ضمن هذه الفئات التي يراد تحسين ظروف عيشها. وذلك لأن الدستور عندما لا ينص صراحة على مجال معين للقانون، فإنه لا حق للبرلمان أو المحكمة الدستورية في أي إضافة جديدة إلى اللائحة الحصرية الورادة في الدستور. وأما عبارة “ما من شأنه” أو بالتعبير الدستوري الوارد في الفصل 31 ” ﺗﻌﻤﻞ اﻟﺪوﻟﺔ…، ﻋﻠﻰ ﺗﻌﺒﺌﺔ ﻛﻞ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﻤﺘﺎﺣﺔ، ﻟﺘﻴﺴﻴﺮ أﺳﺒﺎب اﺳﺘﻔﺎدة اﻟﻤﻮاﻃﻨﺎت واﻟﻤﻮاﻃﻨﻴﻦ…”، فإن عبارة “تعمل الدولة” لا يمكن أن تختزل الدولة في البرلمان، كما لا يمكن تجيير استفادة المواطنين لكي تصب في استفادة أعضاء البرلمان أنفسهم من قانون يريد أن يمنحهم امتيازات مادية وإعفاءات ضريبية؛
ثانيا: إذا حُقّ للبرلمان توسيع مجال القانون، من خلال تمطيط العبارات وسحبها على أمور غير ورادة في الفصل 71، فإن الأمر لا يمكن أن يقف عند أي حد، وإنما يمكن للبرلمان أن يقترح مستقبلا معاشات جديدة لأعضائه، وأن يُخصّص لأعضائه وموظفيه تعويضات من دون حسيب ولا رقيب، ودائما في سياق العبارة الشهيرة التي كان يرددها فتحي سرور في عهد حسني مبارك: “البرلمان سيد نفسه”، لا سيما وأن قرار المحكمة تضمن عبارة حاسمة، أورد فيها: ” إذ ﻻ ﻳﺘﺼﻮر ﻓﻲ ﻧﻄﺎق اﻟﺪﺳﺘﻮر اﻟﺤﺎﻟﻲ (…) ﻓﻀﻼ ﻋﻤﺎ ﺗﻢ ﺑﻴﺎﻧﻪ أﻋﻼه، أن ﻳﺴﻨﺪ إﻟﻰ اﻟﻤﺠﺎل اﻟﺘﻨﻈﻴﻤﻲ ﺗﺤﺪﻳﺪ اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺈﺣﺪاث وﺗﺼﻔﻴﺔ ﻣﻌﺎﺷﺎت أﻋﻀﺎء ﻣﺠﻠﺲ اﻟﻨﻮاب، اﻟﺬي ﻳﺴﺘﻤﺪ أﻋﻀﺎؤه ﻧﻴﺎﺑﺘﻬﻢ ﻣﻦ اﻷﻣﺔ (…) ﺗﺤﺖ ﻃﺎﺋﻠﺔ اﻟﻤﺲ ﺑﻤﺒﺪإ ﻓﺼﻞ اﻟﺴﻠﻂ…”. بمعنى أن البرلمان، وبما أنه يمثل الأمة، فإنه لا ضير في أن يرصد لنفسه الامتيازات التي يشتهي، وأن يشرّع لنفسه القوانين التي تروق لـ”ممثلي الأمة”؛
ثالثا: يمكن النظر لقرار المحكمة الدستورية، على أنه تعديل، غير مباشر، للفصل 71 من الدستور، بموجبه (التعديل) يمكن للبرلمان أن يشرع كل ما من شأنه أن يساهم في تيسير حياة المواطنين، وفي هذه الحالة ينبغي على المحكمة الدستورية أن تعيد النظر، مثلا، في مقترح القانون المتعلق بالنظام الأساسي للدكاترة الموظفين بالإدارات العمومية، حيث جاء في القرار 953/15 (يتاريخ 24 فبراير 2015)، أن المقترح الذي تقدم به أعضاء مجلس النواب، لا يدخل في مجال القانون، لأن “الدستور، بصرف النظر عن النظام الأساسي للقضاة، لم يدرج بموجب فصل الـ 71 في مجال القانون، سوى النظام الأساسي للوظيفة العمومية…” وأن الفصل 72، ينص على أن المجال التنظيمي يختص بالمواد التي لا يشملها اختصاص القانون”. نعم إنه لا مقارنة مع وجود الفارق، ولكن الفارق في نازلة الحال، هو أنه عندما يشرع البرلمان لنفسه خارج الفصل 71، يكون سيدا لنفسه ولا يمكن للحكومة أن تتدخل فيه احتراما لفصل السلط، وأما عندما يريد أن يشرع لصالح فئة من الأمة، من أجل تيسير ظروفها حسب الفصل 31 من الدستور، هنا يكون البرلمان متجاوزا لمجال السلطة التنظيمية. ليس مبتغى القول هنا، أن قرار المجلس الدستوري كان خاطئا، وإنما هدفنا إلى القول بأن قرار المحكمة الدستورية موضوع المقال قد جانب الصواب؛
رابعا: إذا كان معاش البرلمانيين غير مصنّف ضمن أي من الأنظمة المتوفرة، وأن هناك مشكلة في تدبير تصفيته، فإن هذا لا يجيز معالجة المشكلة بـ “تعديل” الفصل 71 من الدستور، وتفصيله على مقاس أعضاء البرلمان، وإنما ينبغي البحث عن سبل أخرى لتجاوز المشكل، بما في ذلك انتظار تعديل الدستور بالطرق التي ينص عليها. وسيكون ذلك أهون من اجتراح تفسير يغير الدستور ضدا على رغبة صاحب الحق الذي هو الشعب. وأما التوسل بمبدأ “توازي الأشكل”، للقول بأن معاش البرلمانيين أُحدث بموجب قانون، ولا يمكن تغييره إلا بقانون، فهو أيضا دفع غير مقبول، بما أن المقتضيات الدستورية التي كانت سنة 1993، ليست هي التي ينص عليها دستور 2011، حيث الفرز الواضح بين مجل القانون ومجال السلطة التنظيمية. فضلا على أن المشرع الدستوري لم يكن عابثا لما نص على إمكانية “تغيير النصوص التشريعية من حيث الشكل بمرسوم، بعد موافقة المحكمة الدستورية، إذا كان مضمونها يدخل في مجال من المجالات التي تمارس فيها السلطة التنظيمية اختصاصها”، وطبعا المحكمة الدستورية لا يدخل في تفكيرها هذا الإمكان، ما دامت قد حسمت منذ البداية أنه لا مجال للسلطة التنظيمية فيما يخص معاش البرلمانيين.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، ولأن مسألة تصفية معاش البرلمانيين، قد انطلقت منذ بدايتها في غير توافق مع الدستور، بالنسبة لكاتب المقال على الأقل، فإنها ما زالت تسُوق معها الإعوجاج حيثما استقرت، وكان آخر فصولها، الأزمة التي أحدثها تعديل مجلس النواب مقترح القانون الذي قدم إليه من مجلس المستشارين بداية، والتصويت عليه بالرفض تاليا، مما خلّف أزمة قانونية غير مسبوقة، ما دام الدستور لا يتضمن أية إشارة للموضوع، كما لا تساعد الأنظمة الداخلية للبرلمان في تلمّس الحل. وهكذا يبقى الباب مواربا عل كل احتمال؛ فلو رفض رئيس مجلس النواب إحالة المقترح مرة أخرى على مجلس النواب، لما وُجد في القانون، على الأقل، ما يجبره على ذلك. ولو رغب مجلس المستشارين في أن يتمسك بحقه في الاطلاع على النسخة النهائية من المقترح، لما وُجد في القانون ما يسمح له بذلك، لأن عبارى التداول الواردة في الفصل 84 من الدستور، لا تسعفنا في تحديد مضمون هذا “التداول” وعدد مراته، بحيث يمكن اعتبار تحويله إلى مجلس النواب تداولا، ويمكن التمسك بإعادته لمجلس النواب تداولا أيضا، لا سيما وأن فقرات الفصل 84 تسمي مناقشة أعضاء كل مجلس لمشاريع ومقتراحات القوانين تداولا، وإذا كات مناقشة المقترحات تداولا، فكيف لا يصح أن تكون إحالة مقترح القانون من مجلس المستشارين إلى مجلس النواب تداولا؟!
وتتعمق المكشلة أو الورطة أكثر فيما أشرنا إليه سلفا، لمّا تَحوز حتى القراءة التي ترى أن مجلس النواب واجب عليه إعادة النص الذي صوت عليه بالرفض إلى مجلس المستشارين، (تحوز) جانبا من الصواب، لأنه قد ورد في الفصل 84 ما يلي: “… ويتداول كل مجلس في النص الذي صوت عليه المجلس الآخر في الصيغة التي أحيل بها عليه”، وهو ما قد يُفهم منه أنه من غير المعقول حرمان مجلس المستشارين من التداول مرة أخرى في النص الذي عدّله ورفضه مجلس النواب، وإن كانت المعظلة هنا، أن مجلس النواب لم يكتف بالتعديل وإنما عدّل ورفض المقترح، ما يفيد أن المجلس قد أنهى مسار مقترح القانون، ومنع مجلس المستشارين من تشريع قانون لتصفية معاشته، وهو الأمر الذي ربما يفضله أعضاء هذا المجلس، لأن صندوق تقاعدهم ليس في وضعية إفلاس كما هو الحال بالنسبة لمجلس النواب بسبب إفراغ صندق تقاعده نتيجة لتجديد أعضائه المتواصل، خاصة بوجود اللائحة الوطنية للنساء والشباب.
وبالتالي نكون أمام احتمال من ثلاثة: أن يحيل رئيس مجلس النواب المقترح المرفوض، على مجلس المستشارين وأن يتم التداول فيه مرة أخرى داخل هذا المجلس، ويدخل التعديلات المطلوبة أو يتسمك بنفس المضمون، ثم يعيده إلى مجلس النواب لكي يحسم فيه، وإما يصوت عليه قبولا وهذا سيخلق أزمة سياسية، إذا ما تمسك مجلس المستشارين بنفس النص، وإما يرفضه، ويبقى الوضع كما هو عليه؛ أو ينتهي مسار المقترح بالرفض ويستمر مجلس المستشارين من دون قانون تصفية لمعاشات أعضائه، وتتوقف الدولة عن ضخّ مساهمتها (رغم أنه لا أساس قانوني لهذا التوقف)، إلى أن يتم إفراغ الصندوق نهائيا سنة 2023 ( في الواقع لو فكرت المحكمة الدستورية في هذه الإمكانية لكفاها ذلك “تعديل” الفصل 71)؛ بينما يتمحور الخَيار الثالث حول إمكانية أن يقترح مجلس المستشارين نصا جديدا ويحوله إلى مجلس النواب مرة أخرى؟
إنها مشكلات وأزمات، قد تبدو ثانوية لعموم المواطنين، لأن الذي يهمهم هو النجاعة وانعكاس التشريع على حياتهم اليومية، ولكنها بالنسبة للمشتغلين بحقل القانون، لا يمكن أن تمر دون إبداء الرأي، من أجل إحداث التناظر المطلوب بين الممارسين والقضاء الدستوري والحقل الأكاديمي. الشيء الذي من شأنه الإسهام في تطوير المنظومة القانونية، لأنه لو حدث هذا التداول بين الأطرف، ولو استمعت الأطراف لبعضها البعض لما حدثت هذه الهفوات والأخطاء، فمثلا ما الذي كان يمنع التنصيص على الحالة التي يكون فيها التصويت بالرفض من قِبل مجلس النواب على مقترح قادم من مجلس النواب، كما هو منصوص عليه في القانون التنظيمي للمالية الذي نصت مادته الـ 52 على أنه: “…إذا وقع رفض المشروع من قبل مجلس المستشارين، تُحال إلى مجلس النواب، في إطار القراءة الثانية، الصيغة التي صوت عليها مجلس المستشارين بالرفض، للبث فيها”.
وفي ذات السياق، ألم يحن بعد أن يتم توحيد القانون الداخلي لمجلسي البرلمان، حتى لا يبقى كل مجلس سيد لنفسه، يشرع لنفسه ما يشاء، مما يزيد من تأزيم وضعية البرلمان؟ ولأن المناسبة شرط، فإن ما يحدث اليوم من تأخير في التشريع، وضعف في الأداء البرلماني، يدعو إلى التفكير جليا في الاستماع إلى الأصوات المرفوعة منذ عقود، من أجل القطع مع الإزدواجية المجلسية، لأن المغرب دولة موحدة، ولا حاجة لغرفة ثانية من أجل تمثيل المقاطعات والولايات كما هو حال ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية أو تمثيل العرقيات والأديان كما هو الحال في سويسرا…إلخ. وبما أن العملية التشريعية تؤول في نهايتها إلى مجلس النواب، فإن الإبقاء على غرفة مجلس المستشارين ـ وليس فقط معاش أعضائها – لن يزيد مؤسسة البرلمان إلا تأزما، ولن يضيف لنظرة المواطنين للبرلمان إلا ارتيابا، فضلا عن استنزاف أموال دافعي الضرائب وتحويلها إلى تعويضات وأجور ضخمة لفائدة المستشارين والموظفين على حد سواء، ناهيك عن تعريض العملية التشريعية للبطء والإضرار بمصالح المواطنين.
وعندما نتحدث عن كون الإزدواجية المجلسية تؤثر على جودة التشرع وسرعته – وليس نقص المال والتقنية كما ذهب إلى ذلك تقرير لجنة النموذج التنموي – فإن ذلك لا يعني أن هذا القول من دون شواهد، وإلا فإن الأمول التي صرفت في إنشاء بناية هذا المجلس كانت أولى بها المرافق الصحية والتعليمية، وأما الأموال التي تصرف شهريا وسنويا من أجل الإنفاق على غرفة لا فائدة ترجى منها، فهي تشكل أكبر استنزاف لمالية المواطن، وأما بالنسبة لعرقلة التشريع وتبطيئه، فإن إطلالة خاطفة على الموقع الإلكروني لمجلس المستشارين، تمنحنا فكرة عن عدد مشاريع ومقترحات القوانين التي يحتجزها مجلس النواب منذ أكثر من 5 سنوات، ومنها مشاريع حوية للمواطنين، وتتوقف عليها وضعيتهم المادية، وظروف آبائهم الصحية، وهذه بعض الأمثلة: مشروع قانون بمثابة مدونة التعاضد؛ مشروع قانون بمثابة التغطية الصحية الأساسية الذي ينتظره آلاف المواطنين من أجل استفادة آبائهم من التغطية الصحية؛ مشروع قانون بتنظيم عمليات جمع التبرعات من العموم وتوزيع المساعدات لأغراض خيرية، الذي يعول عليه المجتمع المدني لكي يتجنوا المشاكل المرتبطة بالتبرع الخيري، بل إن هذا المجلس ما زال يحتجز حتى مشروع القناة البرلمانية الذي من شأن تنفيذه أن يسهم في التعريف بعمل البرلمان نفسه، ويساعد على التعريف بما يقوم به البرلمان.
ولئن لم يعد في مقدور مجلس اللوردات، وهو الأقدم والأضخم، في بريطانيا، إلا تأخير صدور قانون المالية لمدة سنة واحدة، فإن مجلس المستشارين، الذي هو الغرفة الثانية، والأصغر حجما، والأقل تأثيرا في الحياة السياسية، يستغل غياب التنصيص على آجال البث في المشاريع المحال عليه من قِبل مجلس النواب، لكي يؤدي دور المُعرقل للعملية التشريعية بطريقة مفرطة في تجيير الفراغ القانوني من أجل التأثير سلبا على العملية التشريعية، وحرمان المواطنين من تشريعات تيسر حياتهم.
يقول الفقيه الدستوري “والتر بيجهوت”، إن “الشاي الساخن عادة ما يفقد سخونته إذا ما سُكب من فنجان إلى آخر”، ونفس الأمر يحدث مع مشاريع القوانين عندما تنتقل من مجلس إلى آخر، فهي تضعف وتبرد، بل، وفي الحالة المغربية، يتم تجميدها إلى أجل غير مسمى.
د.عبد الرحيم العلام
أستاذ القانون الدستوري والفكر السياسي، جامعة القاضي عياض، صدرت له مجموعة من الكتب، ونسّق عدة مؤلفات جماعية؛ نشر العديد من الدراسات العلمية في مجلات محكمة دولية ووطنية؛ كاتب رأي في الجرائد المغربية؛ عضو مؤسس بمركز تكامل للدراسات والأبحاث.
Dr. Abderrahim Elaalam, is a professor of Constitutional Law and Political Thought at Al Cadi Ayad University, Marrakech. He has released a plethora books and coordinated the issuance of many books. He has published many scientific studies in International and National indexed scientific journals. He is an opinion piece writer in Moroccan newspapers and a founding member of the Takamul Center for Studies and Research.