“مؤسسة قاضي التنفيذ” بين إدارة الدعوى وإدارة التنفيذ في ضوء مبدأ فصل السلط

شكل صدور دستور 2011 حدثا بارزا من الناحية السياسية والحقوقية، داخليا وإقليميا ودوليا، وذلك بالنظر للسياقات والظروف التي كانت تمر منها العديد من الدول العربية، ومن ضمنها المغرب، وكذلك بالنظر إلى حجم الرهانات والتطلعات والآمال التي عقدت على إقرار هذا الدستور، ذو البعد الحقوقي والقيمي والإنساني، سواء في تكريسه لدولة الحق والقانون، أو التنصيص على مبدأ فصل السلط، أو في ربطه للمسؤولية بالمحاسبة والحكامة الجيدة …إلخ.

 وقد كان من بين مستجداته القوية، إقراره بشكل لا لبس فيه لمبدأ استقلال السلطة القضائية مؤسساتيا ووظيفيا بحيث لم تعد تابعة للسلطة التنفيذية، ونظرا لهذا التحول القضائي الذي يفرضه إقرار المبدأ، فقد واكب تنزيله نقاشا مستفيضا حول مفهوم هذا المبدأ، وحدود امتداداته، والتي لا تزال بعض جوانبه تثار إلى يومنا هذا.

ولئن كان أمر هذا النقاش وحجمه وحدّته -في بعض الأحيان- يبدو أمرا عاديا بحكم حداثة تكريس مبدأ استقلالية السلطة القضائية دستوريا، إلا أنه جدير بالتذكير إلى أن كثيرا من مسائل التفكير في المفاهيم والمصطلحات، وأحوال التقعيد لاستعمالاتها، لا تستقيم إلا بالاحتكام فيها لأساليب ومناهج صناعة التشريع الحديثة بمختلف مظاهرها، المرتكزة على صياغة الرؤى والأهداف المتوخاة من هذا التشريع عند التأسيس له، باعتبارها موجهات استراتيجية تم التوافق بشأنها بشكل مسبق بين جميع الفاعلين، عوض ترك أمر صياغتها وتأويلها وتفسيرها عرضة للانطباعات الشخصية والنزعات الفردية أو الفئوية، وذلك تجنبا لخطر المجازفة في الحكم وخطأ المبالغة في التقدير، فتحيد بذلك غايات التشريع عن منوالها وأهدافها النبيلة، المتمثلة في الحق والمساواة والتجرد.

فما هي انعكاسات إقرار مبدأ استقلال السلطة القضائية على توجهات المشرع في صياغة بعض المقتضيات التشريعية من قبيل قانون التنظيم القضائي أو مشروع قانون المسطرة المدنية، خاصة في بعض الاختصاصات الموكولة لهيئة كتابة الضبط على مستوى إدارة التنفيذ؟ وهل يمكن أن يمس ذلك بمبدأ أشمل هو مبدأ فصل السلط؟

أولا- مؤسسة قاضي التنفيذ في مشروع قانون المسطرة المدنية 02.23

إن حسم مشروع القانون 02.23 في اختصاصات قاضي التنفيذ، وجعلها تهيمن على جميع إجراءات التنفيذ بدءا وانتهاء، يجعلنا نتساءل عن الغايات والخلفيات التي أطرت وتحكمت في هذا الموقف وهو يؤسس لهذه الاختصاصات على النحو الذي جاء في المشروع؟ بحيث أصبحت مؤسسة قاضي التنفيذ، كما يراد لها أن تكون، تجمع ما بين اختصاصين مختلفين:

-اختصاص قضائي هو بيد رئيس المحكمة باعتباره قاضيا للتنفيذ، والذي يكون له حق البت في صعوبات التنفيذ، ومنح الآجال الاسترحامية… إلخ؛

-واختصاص إداري هو بيد رئيس كتابة الضبط باعتباره الجهة التي يقدم لها طلب التنفيذ والجهة المكلفة بالتنفيذ.

فإذا كان الأمر يبدو منطقيا بالنسبة للاختصاص الأول المرتبط بمنح قاضي التنفيذ في المشروع، اختصاصات تعود لرئيس المحكمة التي كانت له في النزاعات الناشئة عن التنفيذ، تخفيفا عنه من الأعباء المترتبة عن ذلك، حتى يطلع بمهامه كرئيس للمحكمة، وكذلك لتبعيتهما لنفس السلطة وهي السلطة القضائية، وبالتالي فإن الأمر لا يخرج عن كونه إعادة لتوزيع في الأدوار والمهام القضائية بين نفس المكونات؛

 فإن الأمر مختلف فيما يخص الاختصاص الثاني، وذلك بتفويت جزء من اختصاصات رئيس كتابة الضبط لقاضي التنفيذ، لاختلافهما من حيث الاختصاص، بجعل طلب التنفيذ يوجه لقاضي التنفيذ عوض رئيس كتابة الضبط، ولاختلاف السلط التي ينتميان إليها، وهي السلطة القضائية بالنسبة لقاضي التنفيذ والسلطة التنفيذي بالنسبة لرئيس كتابة الضبط.

كما أن المتمعن في مقتضيات المادة 476 من المشروع:” يختص قاضي التنفيذ بإصدار الأوامر المتعلقة بالتنفيذ، ويتولى الإشراف عليه ومراقبة سير إجراءاته. يتم التنفيذ بواسطة كتابة الضبط أو بواسطة المفوضين القضائيين، ويجوز لصاحب المصلحة عرض الأمر على قاضي التنفيذ في حالة امتناع المكلف بالتنفيذ عن القيام بأي إجراء من إجراءات التنفيذ”.

ومقتضيات المادة 478:” يختص بالبت في صعوبات التنفيذ الوقتية المثارة بشأن التنفيذ التي تم القيام بها، قاضي التنفيذ بالمحكمة المصدرة للحكم حيث يجري التنفيذ، أو قاضي التنفيذ بالمحكمة التي يوجد بدائرة نفوذها المنفذ ضده، أو قاضي التنفيذ بالمحكمة التي توجد بدائرة نفوذها أموال المنفذ ضده، حسب الحالة”.

يلحظ مدى الخلط الذي يكتنف مقتضيات المادتين ما بين ممارسة إدارة الدعوى القضائية وممارسة إدارة إجراءات التنفيذ؛ فكما هو معلوم فإن للمحكمة الحق في رسم السياسة العامة التي تتبعها في إدارتها للدعوى، وهو جوهر استقلال السلطة القضائية المنصوص على عدم المساس به دستوريا[1]،  فهي من يملك الحق في تسيير الدعوى بشكل يضمن لها أفضل السبل في تحقيق الهدف منها، فهي لا تلزم بإتباع اجراءات صارمة وثابتة بشكل ثابت ودائم، وإنما تتولى إتباع سبل مختلفة بهدف تحقيق الغاية من الدعوى؛ فتطبق من الإجراءات ما تراه مناسبا؛ أي طبقا لاجتهادها بعد أن تقوم بدراسة القضية وموضوعها وأطرافها وأهميتها.

وعليه، يمكن تعريف إدارة الدعوى بأنها: نظام شامل لإدارة الوقت والأحداث والاجراءات التي تتم في قضية ما منذ بداية تسجيلها بالمحكمة حتى نهايتها وإغلاق ملفها بصدور مقرر قضائي.

وحتى تكون هناك إدارة للدعوى، يشترط أن تكون  هناك دعوى بالأساس، التي هي الوسيلة أو الأداة التي يستخدمها الافراد بشكل قانوني للدفاع عن حقوقهم أو اقرارها، حيث ينظر إلى الجانب الشكلي أو الاجرائي للدعوى، أي إلى تحديد وجه السير بالدعوى وتنظيمها القانوني باعتبارها مجموعة من الاجراءات التي يقوم بها القاضي/المحكمة طوال فترة التقاضي، ويتم من خلالها التأكد من صحة تمثيل الخصوم وحصر البينة وتحديد جوهر النزاع، بهدف السيطرة المبكرة على ملف الدعوى فور وروده وتسجيله في سجلات المحكمة، لمراقبة صحة الاجراءات اللازمة قبل بدء المحاكمة؛ بما في ذلك اجراءات تبليغ الخصوم وتبادل اللوائح والبينة، وإتاحة الفرصة للأطراف لتبادل وجهات النظر والمذكرات تحت إشراف قضائي لتحديد نقاط الاتفاق والخلاف بينهم قبل السير بإجراءات التقاضي بهدف تضييق فجوة الخلاف بين الاطراف وتحديد جوهر النزاع والأدلة المنتجة المتعلقة به، واستبعاد البينة غير المنتجة، لتسهيل إجراءات التقاضي وسرعة البت في الدعوى من قبل القاضي، لذلك يشترط في رفعها أن تكون موجهة إلى رئيس المحكمة لطبيعتها القضائية المتمثلة في البت في النزاع.

في حين أن إجراءات إدارة التنفيذ هي الإجراءات التي يقوم بها المكلف بالتنفيذ عند تكليفه بالملف التنفيذي المتضمن لطلب التنفيذ والذي تحدد فيه جهة التنفيذ المختصة مرفوقا بالسند التنفيذي موضوع التنفيذ، أي بعد صدور الحكم ونهاية الدعوى وصيرورة الحكم حائزا لقوة الشيء المقضي فيه، والذي تتحمل فيه الجهة المكلفة بالتنفيذ كامل المسؤولية في مدى التزامها بمطابقة ما نصت عليه حيثيات منطوق المقرر القضائي في السند التنفيذي لا غير، مع الواقع المادي محل موضوع التنفيذ، ومنح أطراف التنفيذ ضمانات اللجوء إلى القضاء لإيقاف التنفيذ أو إثارة الصعوبات الوقتية والواقعية والقانونية، أو طلب المهل الاسترحامية، عبر رفع دعوى قضائية للجهة المختصة للبت في ذلك، وحتى بعد انتهاء إجراءات التنفيذ يحق لهم التوجه إلى محاكم الموضوع لإبطال محاضر التنفيذ في حالة ما إذا شابها عيب أثناء التنفيذ، أو التوجه إلى المحاكم الإدارية للمطالبة بالتعويض إذا ما كان هناك تجاوز في السلطة أو تعسف في استعمال الحق، باعتبار إجراءات التنفيذ إجراءات إدارية تقوم بها جهة إدارية، وليست قضائية، والتي تكون دائما في مواجهة رئيس كتابة الضبط باعتباره الجهة المكلفة بالتنفيذ ولطبيعته الإدارية التي يختص بها في هذا المجال.

وبالتالي فإنه أثناء مباشرة إجراءات التنفيذ لا نكون أمام دعوى قضائية مرفوعة حتى يحق للقضاء النظر فيها، بل نكون أمام تنفيذ لمقتضيات منطوق مقرر قضائي حائز لقوة الشيء المقضي فيه.

إن تنصيص المشرع على جعل طلب التنفيذ يقدم إلى قاضي التنفيذ عوض رئيس كتابة الضبط (المادة 481 من مشروع القانون: يقدم طلب التنفيذ إلى قاضي التنفيذ…)، بخلاف ما هو منصوص عليه في الفصل 429 من قانون المسطرة المدنية الساري المفعول، على أنه يتم التنفيذ بواسطة كتابة ضبط المحكمة التي أصدرت الحكم طبقا لمقتضيات الفصلين 433 و 433 من ق م م؛  يجعلنا نتساءل عن مدى احترام هذا المقتضى لمبادئ فصل السلط، وربط المسؤولية بالمحاسبة والحكامة الجيدة، وعدم تناقضه مع مقتضيات الفصل 89 من الدستور الذي نص على أن الإدارة موضوعة رهن تصرف الحكومة، ومدى ملائمته مع مقتضيات التنظيم القضائي 38.15 ذات الصلة باختصاصات كتابة الضبط، الذي جعل من بين المهام المسندة إليه المهام الإدارية والمالية.

كما أن تقديم طلب التنفيذ إلى قاضي التنفيذ قد تترتب عنه بعض الاشكالات من قبيل:

-تعارض هذا المقتضى مع مقتضيات المادة 476 من المشروع التي تؤكد على أن التنفيذ يتم بواسطة كتابة الضبط أو بواسطة المفوضين القضائيين.

– معلوم أن كتابة الضبط لا تباشر مهامها إلا بناء على طلب، فكيف لها أن تباشر مهام التنفيذ مع أن الطلب موجه إلى قاضي التنفيذ وليس لرئيس كتابة الضبط لكي يقوم بتعيين مكلف بالتنفيذ من بين المكلفين بالتنفيذ الذين يمارسون مهامهم تحت سلطته؟ وهل سيقوم قاضي التنفيذ بتعيين مكلف بالتنفيذ بناء على أمر قضائي يصدره؟ أم سيوجه الملف إلى رئيس كتابة الضبط ليقوم بتعيين مكلف بالتنفيذ باعتبار أن هذا الأخير يوجد تحت سلطته الرئاسية؟ وماذا لو تشبث قاضي التنفيذ بموظف مكلف بالتنفيذ وعينه ليقوم بإجراءات التنفيذ، وعارض فيه رئيس كتابة الضبط باعتبار هذا الأخير هو المختص بوضع جدول توزيع الاشغال بين الموظفين؟

-ألا يحق لرئيس كتابة الضبط الدفع بعدم الاختصاص والامتناع عن القيام بالتنفيذ لكون طلب التنفيذ غير موجه له؟

-تعارض مقتضيات المادة المذكورة أعلاه كذلك، مع المقتضيات الموضوعية المنصوص عليها في قوانين الموضوع التي تنص على إمكانية الطعن بالبطلان في محاضر التنفيذ، فهل ستتم هذه الدعوى في مواجهة قاضي التنفيذ على اعتبار أن طلب التنفيذ سيكون موجها له، أم ستقام الدعوى في مواجهة رئيس كتابة الضبط كما هو معمول به حاليا؟

-في حالة وجود ضرر مترتب عن التنفيذ وتم إبطال محضر التنفيذ من طرف محكمة الموضوع، ولجوء المتضرر إلى القضاء الإداري، فمن ستكون الجهة المسؤولة عن التنفيذ والتي ستكون في مواجهتها الدعوى؟ قاضي التنفيذ أم رئيس كتابة الضبط؟

-توجيه طلب التنفيذ إلى قاضي التنفيذ يوسع من مجال ضبابية موقف المشرع من ربط المسؤولية بالمحاسبة في التنفيذ، ويجعل الاختصاصات تتداخل بين ما هو قضائي عائد للسلطة القضائية، وبين ما هو عائد لاختصاصات كتابة الضبط.

1- قاضي التنفيذ في الأنظمة المقارنة

اختلفت الأنظمة المقارنة في أمر الجهة التي يمكن أن تسند إليها إدارة التنفيذ، بين من تجعل ذلك اختصاصا كليا للسلطة القضائية كإيطاليا ولبنان، وبين من تجعل ذلك اختصاصا لإدارة التنفيذ التابعة لهيئة كتابة الضبط باعتبار أن إجراءات التنفيذ مندرجة من حيث الطبيعة لأعمال الإدارة، مع تمكين الأطراف من إمكانية حق اللجوء إلى القضاء للبت في النزاعات المترتبة عن التنفيذ كما هو الشأن بالنسبة لمصر والعراق.

وفي فرنسا فإن صلب النقاش لم يكن منصبا حول سلب اختصاصات المكلفين بالتنفيذ وتمكين السلطة القضائية من الهيمنة والاشراف على التنفيذ، وإنما كان منصبا حول إحداث قاضي التنفيذ Juge d’exécution في إطار توجه تشريعي جديد يرمي إلى إرجاع القضاء الفردي إلى المحكمة الابتدائية بفرنسا، وتمكينه من اختصاصات نوعية في اتخاذ الإجراءات التحفظية والبت في نزاعات التنفيذ، كما جعل أوامر قاضي التنفيذ قابلة للاستئناف طبقا للقواعد العامة المعمول بها. وبالتالي يظهر أن الاختصاص المنوط بقاضي التنفيذ في النظام الفرنسي هو اختصاص قضائي أكثر منه إداري.

وإذا كان لكل اختيار من هذه الأنظمة المقارنة إيجابياته وسلبياته، فإن أمر إقرار الحسم في تكريس نظام تنفيذي بالنسبة لنظامنا القضائي، تتحكم فيه مجموعة من المحددات والمبادئ الأساسية التي جاء بها دستور 2011، من قبيل مبدأ فصل السلط، ومبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، والحكامة الجيدة للمرفق القضائي، وجعل الإدارة تحت تصرف الحكومة (الفصل 89 من الدستور)، وكذلك مقتضيات قانون التنظيم القضائي 38.15، والتي حسمت بشكل لا لبس فيه بين الاختصاص المالي والإداري والاختصاص ذو الطبيعة القضائية لكتابة الضبط، وذلك من حيث الجهات التي يمكن أن تكون تابعة لها في كلتا الحالتين، وهو ما يجعل إجراءات المكلفين بالتنفيذ، تكون تحت إشراف السلطة الرئاسية التي يتبعون لها، والمتمثلة في المسؤول الإداري وليس القضائي، على اعتبار أن إجراءات التنفيذ هي أعمال مندرجة من حيث طبيعتها للسلطة الإدارية وليست للسلطة القضائية.

2: التنفيذ الجبري من أعمال الإدارة

تنص القاعدة العامة على أن القضاء لا يختص بمباشرة إجراءات التنفيذ، وإنما يشرف على أعمال التنفيذ، ويفصل في كل نزاع ينشأ بين أصحاب الشأن يتعلق بجواز التنفيذ أو صحته[2].

فمن المعلوم أن الحق في التنفيذ الجبري ينشأ بناء على تحقق وقائع قانونية قبل البدء في التنفيذ القضائي، وهي وقائع سابقة على التنفيذ، لا تدخل في تكوينه ولا تعد جزء منه، ومع ذلك فإنها لازمة قانونا لمباشرة التنفيذ وصحته، وهي ما يعرف بمقدمات التنفيذ.

وهي كلها إجراءات تدخل في صميم عمل كتابة الضبط، من بينها أهم عنصر هو الحصول على السند التنفيذي، وإلا كان التنفيذ باطلا، باعتباره السبب المنشئ للحق في التنفيذ[3]، وهو بهذا سند التنفيذ وأساسه.

فالحق في التنفيذ عبارة عن سلطة أو مكنة إجرائية تخول للمكلف بالتنفيذ[4] القيام بالإجراءات التي نص عليها القانون، فلا يمكن له أن يقوم بأي إجراء من إجراءات التنفيذ من غير أن يكون بيده أولا وقبل كل شيء سند تنفيذي يؤكد الحق الموضوعي والشكلي الثابتين لصاحبه، على اعتبار أن السند التنفيذي هو الواقعة القانونية المنشئة لهذا الحق.

وهو ما يعني على أن القانون يمنح السند التنفيذي –في ذاته- قوة تنفيذية، فيبدأ التنفيذ عليه، بصرف النظر عن الوجود الحقيقي للحق في الموضوع[5]، ومن هنا يبدئ الدور المنشئ للسند التنفيذي، فهو ينشئ حقا في التنفيذ متميزا ومستقلا عن الحق الموضوعي.

وإذا أراد المنفذ عليه أن ينازع في وجود الحق الموضوعي، فإن هذا لا يحول دون البدء في التنفيذ والاستمرار فيه على نحو صحيح. وإنما يقع عليه عبء اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، ولا يزول أثر السند التنفيذي بالنسبة للتنفيذ، إلا إذا نجح في إثبات ما يدعيه، وحصل على حكم قضائي نافذ بهذا.

ويتمظهر السند التنفيذي في شكل وثيقة أو مستند كتابي تؤشر عليها كتابة الضبط بصيغة معينة (الصيغة التنفيذية) وتسمى النسخة التنفيذية، والتي هي ليست إلا شكلا خارجيا للسند التنفيذي. أما مضمون هذا السند فهو ما تعبر عنه الكتابة الواردة فيه، وهو عبارة عن حكم أو أمر أو تصرف قانوني …إلخ.

إن السند التنفيذي مكون من عنصرين: المضمون أي العمل القانوني، والشكل وهو النسخة التنفيذية.

وقد جاء في المادة 457 من المشروع على أنه: ” لا يجوز التنفيذ، في غير الأحوال المستثناة بنص في القانون، إلا بموجب نسخة تحمل صيغة التنفيذ التالية: ” وبناء على ذلك يأمر جلالة الملك جميع المكلفين بالتنفيذ أن ينفذوا هذا السند، كما يأمر الوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك لدى مختلف المحاكم أن يمدوا يد المعونة لجميع قواد وضباط القوة العمومية وأن يشدوا أزرهم عندما يطلب منهم ذلك قانونا”.

فالأمر الملكي موجه بشكل أساس إلى المكلفين بالتنفيذ من أجل تنفيذ السند التنفيذي،  وبالتالي يتوجب أن يكون طلب التنفيذ موجها للسلطة الرئاسية التي يتبعون لها، وليس لقاضي التنفيذ الذي يجب أن ينحصر اختصاصه في البت في النزاعات والصعوبات المترتبة عن عملية التنفيذ، وليس التأكد من قابلية السند للتنفيذ كما جاء في المادة 485 من المشروع، على اعتبار أن الذي يختص بمراقبة شكليات انعقاد السند التنفيذي هي الجهة المصدرة له وهي كتابة الضبط، وليس السلطة القضائية، وفي حالة النزاع آنذاك يتم اللجوء إلى هذه الأخيرة للحسم في الموضوع بأمر قضائي.

ثانيا- قانون التنظيم القضائي 38.15 “قانون إطار محدد للمفاهيم والاختصاصات”

  1. قانون التنظيم القضائي 38.15 ومشروع قانون المسطرة المدنية 02.23

معلوم أن قانون التنظيم القضائي ذو طبيعة مهيكلة للشأن القضائي، وقانونا إطارا، يستوجب مراعات مقتضياته في جميع القوانين المنظمة للعملية القضائية خاصة القوانين المسطرية.

ولعل الشروع في تعديل قانون المسطرة المدنية رقم:02.23، وعرضه على المسطرة التشريعية، بعد إقرار قانون التنظيم القضائي 38.15، لم يكن اعتباطيا، بل مقصودا، وذلك حتى تكون هناك ملائمة بين مقتضيات هذا الأخير مع مشروع قانون المسطرة المدنية المزمع المصادقة عليه.

إلا أن من بين أكبر الإشكالات التي تواجه مشروع هذا القانون المسطري المهم، والذي يتوجب عليه الإجابة عنها، هو كيفية مراعاته وملائمته لهذا الحسم الذي تضمنته مقتضيات قانون التنظيم القضائي 38.15، فيما يتعلق بالاختصاصات الإدارية والمالية لكتابة الضبط، والتي لا تكون فيها خاضعة إلا للسلطة المكلفة بالعدل.

لذلك، وتأسيسا على ما سبق، يمكننا أن نتساءل عن حدود اختصاصات مؤِسسة قاضي التنفيذ في مشروع قانون المسطرة المدنية 02.23، وما مدى وملاءمتها لمقتضيات قانون التنظيم القضائي 38.15، باعتباره قانونا إطارا، يحمل بين ثنايا مقتضياته قواعد دستورية أقرتها المحكمة الدستورية، خصت هيئة كتابة الضبط لأول مرة في التاريخ المغربي باختصاصات إدارية ومالية للمحاكم؟

بعبارة أخرى ألا تشكل المقتضيات القانونية المنظمة لمؤسسة قاضي التنفيذ في مشروع قانون المسطرة المدنية، مسا بمبدأ فصل السلط المنصوص عليه في دستور 2011؟ على اعتبار أنه سحب اختصاص الجهة التي يمكن توجيه طلبات التنفيذ إليها؛ من رؤساء كتابة الضبط إلى هذه المؤسسة، وجعل الإشراف على عمل المكلفين بالتنفيذ من اختصاصه، على الرغم من تبعيتهم للسلطة الرئاسية للمسؤول الإداري بصريح المادة 23 من قانون التنظيم القضائي، وعلى الرغم من الطبيعة التنفيذية والإدارية لهذه الإجراءات، والتي لا تكتنفها لا من بعيد أو من قريب بت قضائي في النزاع أو فصل في الخصومة؟

 ثم ألا يشكّل جمع مؤسسة قاضي التنفيذ من حيث الاختصاصات في مشروع هذا القانون، بين كونها جهة موكول لها البت في النزاعات والصعوبات المترتبة عن أعمال وإجراءات التنفيذ، وهذا هو دورها الطبيعي والدستوري، وفي نفس الوقت اضطلاعها بتنفيذ هذه الأحكام القضائية، مما يجعلها تجمع بين صفتي الحكم والخصم؟ وهو ما من شأنه أن يمس بأصول عدالتها وتحيزها وتجردها، ويضعف أحكامها؟

لقد كانت مناقشة قانون التنظيم القضائي رقم 38.15 بالبرلمان، تمرينا تشريعيا نموذجيا لتبيان مدى اختلاف الرؤى بين مختلف المتدخلين في العملية القضائية، مما اضطر رئيس الحكومة إحالته على المحكمة الدستورية للبت في دستوريته، وما خلفته هذه الإحالة في حد ذاتها من تساؤلات، على اعتبار أنه مشروع قانون –يندرج ضمن القوانين العادية- التي تعده الحكومة بواسطة السلطة المكلفة بالعدل، فكيف لها أن تعد مشروع قانون وتتبناه، وفي نفس الوقت تعد مذكرة الإحالة، تكاد تكون بمثابة مذكرة طعن على المحكمة الدستورية للبت في دستوريته؟

 لتصدر فيه المحكمة الدستورية قرارها الشهير عدد: 19/89، بتاريخ: 07/02/2019، والذي حاول رسم الحدود الفاصلة بين اختصاصات السلطة القضائية والسلطة المكلفة بالعدل خاصة على مستوى الإدارة القضائية.

وقد كان من جملة ما أقرته المحكمة الدستورية وتم ترتيب أثرها تشريعيا في قانون التنظيم القضائي رقم: 38.15، خاصة المواد: 19-21-و23، إقرار اختصاصات أصيلة تميز هيئة كتابة الضبط بالمحاكم على المستوى الإداري والمالي، حيث تكون فيها خاضعة للسلطة المكلفة بالعدل، واختصاصات ذات طبيعة قضائية تكون فيها خاضعة للسلطة القضائية.

2- بدايات التأسيس وانزياح المفاهيم

 لقد خلقت بدايات التأسيس لمبدأ استقلال السلطة القضائية -كما أسلفنا- تعددا في المفاهيم واختلافا في زوايا النظر حول المقصود منه، ومدى حدود هذه السلطة، وطبيعة مكوناتها المشكلة لها[6]، وطرحت تساؤلات عن الأنسب من بين الأنظمة القضائية المقارنة التي يمكن الاقتداء بها في هذا الشأن، على الرغم من أن المرجعيات الأساسية التي يمتح منها نظامنا القانوني والقضائي هو المدرسة اللاتينية وبشكل أخص المدرسة الفرنسية.

كما طرحت أسئلة بشأن طبيعة العلاقة التي يتوجب أن تربط هذه السلطة القضائية بباقي السلط، خاصة السلطة التنفيذية وبشكل أخص السلطة المكلفة بالعدل، على اعتبار أن مكونا أساسيا، والذي يعتبر القلب النابض للعملية القضائية داخل المرفق القضائي والمحرك الأساسي له، ينتمي إلى وزارة العدل والمتمثل في هيئة كتابة الضبط.

كذلك الالتباس الذي يكتنف مفاهيم الإشراف والسلطة الرئاسية، والسلطة كوظيفة من وظائف الدولة، والفرق بينهما أي السلطة بمعنى: Pouvoir، والتي يكون فيها الاختصاص غير مستند في ممارسته على جهة معينة بل بشكل مستقل، وهي المعنية بمبدأ فصل السلط، والسلطة بمعنى: Autorité، والتي يكون الاختصاص في ممارستها مستند على مؤسسة رئاسية عليا، يؤطرها بالقانون.

ناهيك عن الاختلاف في تحديد طبيعة العمل ذو الطبيعة القضائية الذي تقوم به كتابة الضبط، والتي تكون فيه خاضعة للسلطة القضائية، وحدود الأعمال الإدارية التي قد تقوم بها هذه الأخيرة، والجهة التي ستتبعها، إن جاز التعبير، وهي تقوم بذلك، هل السلطة القضائية أم السلطة المكلفة بالعدل؟

 إن حاجة مؤسسة ما إلى خدمات مؤسسة أخرى في عملها لا يتأسس عليه خضوعها لها، إلا بمقتضى دستوري ينص على ذلك -كما هو الشأن بالنسبة للضابطة القضائية التي جعلها الدستور تحت سلطة النيابة العامة- خاصة إذا كانت المؤسستين تنتميان إلى سلطتين مختلفتين-السلطة القضائية والسلطة التنفيذية- لكل منهما اختصاصاتها المتفردة عن الأخرى، والتي يمنع المس بها، وإنما يتوجب أن تطبع علاقاتهما مبادئ التعاون والتشاور والمساعدة، وليس الهيمنة والخضوع.

ولعل مناقشتنا لموقع كتابة الضبط في إدارة التنفيذ في علاقته ببدايات التأسيس لمؤسسة قاضي التنفيذ في مشروع قانون المسطرة المدنية، هو نموذج مقتضب لمجموعة من الإشكالات التي تطرح عند صياغة النصوص القانونية ذات الصلة بالعملية القضائية، والتي ستبقى -في نظرنا- دائمة الحضور، مالم يتم الحسم في المفاهيم والمصطلحات بشكل دقيق في هذه النصوص القانونية، يسمح بتولد اختصاصات واضحة، بعيدا عن رمادية المواقف التي تؤدي إلى الركون والبقاء في العتمة والارتباك ( demeurer dans l’obscurité et la confusion)[7].

وفي هذا الإطار، نورد نموذجا آخر على هذا الارتباك، يتجسد في المادة 111 من المشروع التي جاء فيها:

 “يبلغ كاتب الضبط فورا الحكم، الذي صدر حضوريا، إلى الأطراف أو وكلائهم الحاضرين بالجلسة، ويسلم لهم نسخة من الحكم، ويشار في آخره إلى أن التبليغ والتسليم قد وقعا. ويشعر الرئيس، علاوة على ذلك، إذا كان الحكم قابلا للاستئناف، الأطراف أو وكلائهم بأن لهم الحق في الطعن فيه بالاستئناف داخل الأجل المحدد في المادة 204 من هذا القانون ابتداء من تاريخ صدوره، ويضمن هذا الاشعار في محضر الجلسة من طرف كاتب الضبط بعد التبليغ”.

حيث يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

-كيف يمكن لكاتب الجلسة أن يتولى مهام المكلف بالتبليغ أثناء انعقاد الجلسات؟ وكيف سيحصل على نسخة من الحكم؟ هل سيتم رفع الجلسة إلى حين القيام بنسخ الحكم الأصلي؟ أم سيحضر معه آلة النسخ إلى الجلسة؟ كما أن الحكم قبل تسليم نسخة منه يجب أن يحمل رقما تسلسليا، فكيف له أن يحصل عليه وهو لا يزال بالجلسة؟

-التبليغ في المادة المدنية يكون بناء على طلب إلا ما استثني بنص خاص؟

-يؤشر على نسخة من الحكم المراد تبليغها بخاتم للمحكمة يحمل عبارة: نسخة تبليغية.

-طلب التبليغ يكون بعد تأدية الرسوم القضائية، حيث يفتح له ملف يسمى ملف التبليغ ويعطى له رقم، ويضمن في السجلات المعدة لذلك، يتولاه مكتب خاص بالمحكمة يسمى مكتب التبليغ.

-تتم عملية التبليغ بإعداد طي التبليغ وفق النموذج المعد لذلك، يحمل رقم ملف التبليغ ومراجع الحكم المراد تبليغه، مرفقا بنسخة تبليغية من الحكم.

– يعد طي التبليغ الوثيقة الأساسية والحاسمة في احتساب أجل الطعن، كما تكون هذه الوثيقة في حد ذاتها موضوع للطعن بالبطلان في حالة وجود اختلالات في البيانات الأساسية المتطلبة في إنجازها.

إلى غير ذلك من الملاحظات المتعددة التي يمكن أن تستشف من مقتضيات هذه المادة، والتي تعكس عينة مرجعية حول مدى تأثير عدم استحضار مجال اشتغال هيئة كتابة الضبط واختصاصاتها ومهامها أثناء صياغة النصوص القانونية خاصة مشروع قانون المسطرة المدنية. 

ختاما، فإنه كان حريا بمشروع قانون المسطرة المدنية رقم: 02.23، أن يستحضر هذه الرؤية الموجهة في صياغته، والتي كانت نماذج قدمت على سبيل المثال لا الحصر وبشكل مقتضب، وأن يقوم بملائمتها مع مقتضيات قانون التنظيم القضائي 38.15، حتى تسند الاختصاصات لمن هو أهل لها، ويتم بعد ذلك ربط المسؤوليات بالمحاسبة، وتكريس مبدأ فصل السلط بشكل لا لبس فيه، عوض تشتيت الاختصاصات.


[1] -إذا كان دستور المملكة قد نص على أن السلطة التنفيذية تمارس بواسطة الحكومة، وتمارس السلطة التشريعية بواسطة البرلمان، فإنه بالنسبة للسلطة القضائية يكون من الطبيعي أن تمارس بواسطة المحاكم كما هو معمول به في مجموعة من التشريعات العربية والغربية باعتبارها مكان الاختصاص القضائي لعرض النزاعات والقضايا للبت فيها.

[2] -أحمد أبو الوفا، إجراءات التنفيذ في المواد المدنية والتجارية، طبعة 2015، مكتبة الوفاء القانونية-الإسكندرية، ص:25.

[3] -وجدي راغب، النظرية العامة للتنفيذ القضائي في قانون المرافعات المدنية والتجارية، دار الفكر العربي، ص:33.

[4] – الطيب برادة، التنفيذ الجبري في التشريع المغربي بين النظرية والتطبيق، المعهد الوطني للدراسات القضائية، 1988، ص:73.

[5] -فتحي والي، التنفيذ الجبري، دار النهضة العربية، القاهرة، 1991، ص: 22.

[6] -وقذ برز ذلك بشكل جلي إبان مناقشة موقع النيابة العامة من هذه الاستقلالية ووضعها الإداري والوظيفي من وزارة العدل.

[7] -عبدالمجيد الزروقي، المنهجية أو البلاغة القانونية: التعبير عن التفكير، ط2، تونس، 2013، ص:56.