الزمان الوبائي: دراسات في الدين والفلسفة والفكر

طالما كانت الأوبئة أحد العوامل الرئيسة في تشكيل عالم الإنسان وحياته، سواء من حيث ملازمة وجوده الفردي، أو من حيث التأثير على حياته الاجتماعية:

            فمن حيث ملازمة الوجود الفردي للإنسان، فإن الدراسات الجينية الحديثة أثبتت أن الفيروسات تسللت إلى داخل الجسم البشري منذ زمن سحيق، وأصبحت تشكل جزءا من خريطته الجينية، حيث إنها تشكل ما بين 8 إلى 10 في المائة من مجموع موروثنا الجيني، بل إن هذه الدراسات الدقيقة أثبتت كذلك أن عدد البكتريا والفيروسات يفوق بكثير عدد الخلايا البشرية داخل الجسم الإنساني، وقد عبّر عن ذلك عالم الأحياء جون هريك John Herrick بدهشة عندما قال بأننا “نمثل أقلية في داخل أجسامنا”[1].

            ومن حيث تشكيل مصير الإنسان الاجتماعي،لم ينفك مجتمع في تاريخ البشرية من ملازمة الوباء له ملازمة دورية يتقلب فيها، فالمؤرخون يذكرون عن المغرب مثلا أنه كانت تتعاقب عليه موجات وبائية بالتناوب مع المجاعات بصفة دورية. وكان لهذه الموجات المتتالية أثرها العميق على بنية المجتمع الديمغرافية التي يتم إضعافها دائما، الشيء الذي كان يؤثر بشكل واضح على البنيتين الاجتماعية والاقتصادية. بل إن استمرار موجات الوباء في العالمين العربي والإسلامي وانقطاعها نسبيا عن أوروبا بعد الوباء الكبير يعتبر أحد المحددات المفسرة للفجوة التي حدثت بين العالمين على مر القرون الأخيرة[2]، فقد أدى انقطاع الوباءات وخفتها في أوروبا إلى وجود نمو ديمغرافي وتراكم اقتصادي ساهما في تحقيق الازدهار والتقدم، هذا إلى جانب وجود عوامل أخرى بطبيعة الحال.

            ولقد خُيّل للإنسان في العقود القليلة الماضية بسبب ما أحرزه من التقدم الطبي، والفتوحات العلمية أنه قطع بشكل كبير مع الأزمنة التي كانت فيه الوباءات تشكل تاريخ الإنسان، وتخط مساره، لكن الانتشار الكبير لوباء كورونا الأخير Covid19، أعاد التشكيك في هذه المسلمة، وأظهر أنها مجرد وهم. فالتفشي الواسع للوباء، وإجراءات الاحتراز الضخمة التي رافقته على مستوى العالم أعادت للوباء رهبته وسلطانه من جديد على الإنسان: جسدا وروحا.

            ومنذ إعلان منظمة الصحة العالمية فيروس كورونا المستجد وباء عالميا سارعت مختلف الدول لاتخاذ إجراءات غير مسبوقة حفاظا على صحة الإنسان، وتمثلت هذه الإجراءات أساسا في إقرار حالة الطوارئ الصحية، وحظر التجول والتنقل والسفر، وإقفال المدارس والجامعات والأماكن العامة، وإغلاق أماكن العبادات والصلوات، وتعطيل الأنشطة الاقتصادية باستثناء الضروري منها فقط… إلخ.

            إن الطريقة والسرعة التي انتشر بها الفيروس، وكذا الطريقة التي تعاملت بها الصين والدول الكبرى مع الانتشار الهائل للوباء عند بدايته، وأيضا الإجراءات المتخذة من طرف الدول لمواجهة الوباء، ثم الآثار التي خلفتها هذه الإجراءات على المستويات النفسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والبيئية… قد أثارت الكثير من النقاشات، وولّدت العديد من الأسئلة والمشكلات، ونبهت إلى الدروس والعبر التي يجب أن تُستخلص.

            لكن ليس كل هذه الأسئلة والنقاشات التي أُثيرت كُتب لها أن تتحول إلى مكتوب مقروء، ولا كل ما أصبح مكتوبا مقروء كتب له التداول والحفظ، فلعله من بين فواجع الإنسانية في الأحداث الكبرى أن تُرزأ في أفكار وتأملات مثقفيها لعدم تمكنّها من توثيقها إضافة إلى أرزائها الأخرى، ولهذا السبب كان من بين واجبات الوقت أن ينتهض البعض لمهمة حفظ وتوثيق ما قيل وكُتب في هذه الفترة الحرجة إلى جانب الواجبات الوقتية الأخرى التي انتهض لها آخرون، مثل: القيام على حفظ الصحة العامة، أو السهر على حفظ الأمن العام، أو المشاركة في التوعية وحملات التحسيس… وغيرها.

            ونظرا لجلالة هذا الواجب وقداسته لارتباطه بالكلمة والفكر فإن مركز تكامل للدراسات والأبحاث ندب نفسه للقيام بهذا الواجب الوقتي، فمنذ الأيام والأسابيع الأولى لانتشار الوباء تبين بأن الحدث كبير، وأن تداعياته ستكون مفصلية على حياة الإنسان وتاريخه، فتفتقت فكرة ضرورة توثيق أحداث المرحلة، وما قيل حولها من أفكار أو كتب من تحليلات وتأملات. وقد تمخضت النقاشات والاستشارات بين أعضاء المركز عن مشروع متكامل يروم محاولة توثيق أهم وأغلب ما قيل وكتب في هذه الفترة من تاريخ الإنسانية في جل المجالات الفكرية والحقول المعرفية.             

            والقصد من هذا المشروع مزدوج: فهو يروم من ناحية أولى محاولة توثيق ما جرى، وكيف جرى، لتتمكن الأجيال القادمة من معرفة ذلك من خلال إحاطتها بأكبر قدر ممكن من التفاصيل والأحداث، ولتتمكن من خلال ذلك من استخلاص الدروس لتجنب الكارثة مستقبلا، أو لتحسين الأداء اتجاهها على الأقل، ويهدف من ناحية ثانية إلى تقديم طيف واسع من الآراء والمناقشات والتأملات التي تمس حقولا معرفية متنوعة ومختلفة، بحيث تمكن المطلع من مقاربة المشهد من زوايا متعددة، ومداخل معرفية متنوعة، وهو ما يتقاطع مع أحد أسس التصور الرئيسة للمركز، والمتمثل في مقاربة الظواهر الإنسانية من منطلق تكامل المعارف والتخصصات العلمية.

               ولتحقيق الهدفين معا فإن المركز لم يكتف بإصدار مؤَلف واحد حول الجائحة يجمع فيه شتات ما قيل  وكتب، بل حاول قدر الإمكان أن يُصدر عدة كتب ومؤلفات، يختص كل واحد منها بمحاولة مقاربة الموضوع من داخل حقل معرفي محدد، أو تخصص علمي مضبوط، أو على الأقل عبر حقول علمية متقاربة، فآل الأمر إلى وجود سلسلة مؤلفات تصدر بعنوان: سلسة توثيق أعمال كتبت في زمن “كورونا فيروس”[3].

            وهذا الأمر لا يتناقض مع ما سبقت الإشارة إليه من المقاربة التكاملية التي يهدف المركز إلى تحقيقها، من حيث أن مقاربة الموضوع داخل حقل بحثي محدد لا يمنع من الانفتاح على حقول بحثية أخرى، بل يكون هذا الانفتاح هو المطلوب أحيانا، وكذلك من حيث أن تعدد المقاربات والحقول المعرفية يتيح للقارئ نوعا من الإحاطة التكاملية بالموضوع.

               وفي إطار هذه السلسلة يأتي هذا الكتاب الجماعي الذي تمحورت الدراسات فيه حول مجالات الدين والفلسفة والفكر، وذلك بعد أن صدرت كتب أخرى قاربت الموضوع من خلال حقوق معرفية مختلفة مثل القانون والاقتصاد والتاريخ والاجتماع… وغيرها. وشارك في هذا الكتاب نخبة من الأساتذة والمفكرين بموضوعات متعددة لامست الموضوع من زوايا متعددة، منها: محاولة تقديم إجابات عن مشكلات طرحتها الوضعية الوبائية، أو قراءة في إحدى الظواهر والتمثلات التي أفرزها الوباء، أو معالجة وتحليل لأحد المفاهيم التي أبرزتها الجائحة بقوة، أو تأملات وملاحظات فلسفية عميقة من وحي الوباء… وغيرها.

            واخترنا لهذه الدراسات مجتمعة عنوانا هو “الزمان الوبائي: دراسات في الدين والفلسفة والفكر”، ويشير العنوان إلى مسألتين: الأولى هي الحقول المعرفية التي صدرت عنها الدراسات، وهي تحديدا الدين والفلسفة والفكر، بحيث يجد القارئ المقالات في هذا الكتاب تتوزعها الحقول المعرفية الثلاثة، والثانية هي كون زمان إنتاج هذه الدراسات هو زمان الانتشار الوبائي الذي عرفه العالم خصوصا بعد أن أصبحت الجائحة وباء عالميا، وهذا يشير إلى كون هذه الدراسات كتبت من وحي الحدث وتحت تأثيراته العظيمة.

            وتشير كلمة الزمان في العنوان إلى فترة الوباء، لإعلام القارئ والمهتم بأن الدراسات التي يشتمل عليها الكتاب كتبت زمان الوباء، وأن موضوعاتها تقتصر حصرا على معالجة وتحليل ما جرى في هذه الفترة الزمانية من التاريخ البشري، وكلمة الزمان في اللغة العربية مثلها مثل كلمة الزمن تطلق على جميع الدهر وبعضه، وعلى قليل الوقت وكثيره، كما أنها تقع كذلك على فترة محددة من الزمان الكلي/الدهر، فتطلق على الفصل من فصول السنة فيقال زمان الحر وزمان البرد، وتطلق على مدة ولاية الرجل وما أشبهه[4]، وعلى المعنى الثاني تحمل الكلمة في العنوان، لأنها تأريخ لفترة محددة، ودراسة وتحليل لظواهرها، وإجابة على حاجاتها وتساؤلاتها.

            وفي آخر هذه الكلمة لا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر لكل الأساتذة الفضلاء الذين تكرموا بالمساهمة ببحوثهم الجادة في هذا الكتاب، وفي تحقيق أحد المشاريع الهامة لمركز تكامل، وكذا اللجنة العلمية على مجهوداتها ومتابعتها العلمية لهذا العمل، وإن كان لي أن أنوه بمجهودات أحد ممن كان لهم الفضل في بروز هذا العمل على ما هو عليه، فإني أتوجه بعميق الامتنان للأساتذة الفضلاء عبد الرحيم العلام ومصطفى فاتيحي ومفضل أخماش وسعيد حجي وربيع أوطال وعبد الخالق الطلال على مجهوداتهم المشكورة.

Abstract:

Pandemic Times: Studies in Religion, Philosophy and Thought

This book is an assemblage of religious, philosophical and intellectual studies related to some prominent events at the time of the pandemic. The specificity of these studies is that they were written during the period of the spread of the Coronavirus disease. They are on the one hand documenting what happened at this unprecedented time, and on the other hand they provide a wide range of thoughts which allow the reader to approach the epidemiological problem from several angles, using a multidisciplinary approach.


[1] -للتوسع في هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى:

 فابري، استريد. الإنسان والفيروسات: هل من علاقة دائمة؟، ترجمة، عبد الهادي الإدريسي، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة “مشروع كلمة”، الطبعة الأولى 2012.

توير، راشل. لو اختفت كل الفيروسات من عالمنا “سنموت بعد يوم ونصف”، موقع: bbc arabic.

[2] -البزاز، محمد الأمين. تاريخ الأوبة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مطبوعات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، طبعة 1992. ص22.

[3] -صدر من هذه السلسلة قبل أو بالتزامن مع هذا الكتاب المؤلفات الجماعية التالية:

-حالة الطوارئ الصحية: التدابير القانونية والاقتصادية والسياسية وأبعادها.

-أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟

-كورونا وقيم العيش المشترك.

[4] -ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم. لسان العرب، دار صادر، بيروت، د.ت، 13/199.