الإستثمارات العمومية الكبرى بالمغرب: دراسة قانونية سوسيو-إقتصادية

ملخص:

بتاريخ 25 فبراير 2021، تمت مناقشة أطروحة دكتوراه في القانون العام برحاب كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية – أكدال – جامعة محمد الخامس بالرباط. من إنجاز الباحث  جمال قاسمي تحت عنوان: ” الإستثمارات العمومية الكبرى بالمغرب : دراسة قانونية سوسيو إقتصادية “.  و بعد المناقشة و المداولة قررت لجنة المناقشة منح الباحث ميزة مشرف جدا.

      تناولت الأطروحة بالبحث و التحليل موضوع الإستثمارات العمومية الكبرى بالمغرب وذلك من خلال  محاولة تفكيك عناصرها الفاعلة،  سواء على المستوى القانوني والتشريعي الناظم لهذه الإستثمارات العمومية الكبرى، وأيضا إنجاز مقاربة تحليلية لسؤال الفاعلين والمتدخلين في رسم السياسة العمومية الإستثمارية بالمغرب، أو على مستوى دراسة وتحليل تلك العلاقات المترابطة بين مخرجات هذه السياسة العامة بالمغرب وشراكاته الإقليمية والدولية خصوصا في شقها الاقتصادي والمالي. بحيث يبدو نجاح هذه السياسة العامة الإستثمارية له إمتدادات لدينامية العلاقات الدولية للمغرب الديبلوماسية و الاقتصادية. كما تبرز الدراسة ما مدى تأثير هذه السياسة العامة للدولة في مجال الإستثمار على وظائف الدولة ومنجزاتها وأيضا مخرجاتها السوسيو إقتصادية.

Abstract:

         The thesis dealt with research and analysis on the issue of major public investments in Morocco, by trying to dismantle its active elements, both at the legal and legislative level regulating these major public investments, and also to achieve an analytical approach to the question of the actors and those involved in the formulation of public investment policy in Morocco, or at the level of Study and analysis of those interrelated relations between the outcomes of this public policy in Morocco and its regional and international partnerships, especially in its economic and financial aspect. So that the success of this public investment policy seems to have extensions of the dynamism of Morocco’s international diplomatic and economic relations. The study also highlights the extent of the impact of this general policy of the state in the field of investment on the functions of the state and its achievements, as well as its socio-economic outcomes.

  1. لمحة عامة عن الموضوع

        يشكل الاقتصاد القوة الدينامية لأي نظام سياسي، فمن خلاله يستطيع النظام السياسي و الجهاز المؤسساتي للدولة التعبير عن وظائفه وتوجهاته و أيضا سياساته الداخلية والخارجية، وفق منظور يحتكم الى مستويات القوة التي يتملكها هذا النظام السياسي من خلال بنيته الاقتصادية و مقوماته التنافسية. وفي  إطار هذا التوجه الجديد للأبحاث والدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية الحديثة، يمكن القول أن موضوع هذه الأطروحة يتموقع في صلب معادلة السياسي والاقتصادي في بنية النظام السياسي المغربي الحديث. ومحاولة التتبع والمسك على الخيط الناظم بين السياسة والاقتصاد في وظيفة جهاز الدولة بالمغرب، ضمن إطار  زمني أدق  يركز على مغرب العقدين الماضيين وهي الفترة التي يشملها البحث بالدراسة والتحليل.

       وعلى ضوء ذلك الترابط الرفيع بين المحدد الاقتصادي والرؤية السياسية للفاعل السياسي لهذا المحدد، يمكن القول أن التركيز على الإستثمارات العمومية الكبرى بالمغرب، هو كونه توجه استراتيجي ورهان مستقبلي على التموقع بفعالية في الجيوبوليتيك الجديدة و في الخريطة الاقتصادية العالمية الجديدة التي تعتبر في أوج إعادة تشكلها حاليا.  إن المغرب بإختياراته السياسية والاقتصادية المبنية على تبني سياسة الإستثمارات العمومية الكبرى في قطاعات حيوية وإسترتيجية على المدى البعيد. وأيضا التوظيف الأمثل للمزايا المقارنة التي يتوفر عليها وأهمها الثقة التي يحظى بها من قبل الشركاء والمؤسسات المالية الدولية. وأيضا تموقعه في قلب الجغرافية الاقتصادية العالمية وتحكمه في محاور التجارة العالمية.  كل هذه المؤهلات والميزات إضافة إلى العديد من المعطيات الأخرى، مكنته من تثبيت مقومات الاستقرار السياسي والإقلاع الاقتصادي في ظرفية شديدة الصعوبة تزامنت مع الأزمة الاقتصادية والربيع العربي والركود الاقتصادي العالمي نتيجة ارتفاع الأسعارفي أسواق المواد الأولية  لتنضاف إلى لائحة الأزمات جائحة كوفيد 19 مؤخرا.

         غير أن كل هذه المؤشرات السلبية لم تؤثر على التوجه الإستراتيجي للدولة في المجال الاقتصادي وبقيت وفية لسياساتها العمومية في المجال الاقتصادي والإستثماري طيلة العقدين الماضيين وكذا المضي قدما في العديد من الإستراتيجيات كالبنى التحتية والطاقة والفلاحة وأيضا في القطاعات الصناعية والخدماتية الكبرى . وقد تعززت هذه الدينامية في السنوات الأربع الأخير ببداية ظهور ثمار هذا التوجه السياسي المبني على السياسة الإستثمارية في القطاعات الأكثر تنافسية وجاذبية، وتم الإنتقال الى المرحلة الثانية من هذه الإستثمارات العمومية الكبرى وإطلاق الجيل الثاني لبعضها الأخر ( برنامج الإقلاع الصناعي، اللوجيستيك والمغرب الأخضر الجيل الثاني ..). وهو ما أعطى للنظام السياسي المغربي تصنيفات محترمة على صعيد المؤسسات الدولية ووقوف المغرب على أبواب لائحة البلدان الصاعدة ناهيك عن كونه أصبح بفضل نجاح هذا النموذج السياسي والاقتصادي في جعله قوة إقليمية و ديبلوماسية في محيطه الإقليمي والقاري و الدولي.

          وفي مقاربة موضوعية ووفق منهج تحليلي وظيفي فقد تم التركيز على بعض النماذج الرائدة من هذه الإستثمارات العمومية الكبرى، والتي من شأنها  إعطاء القدر الكافي من الوضوح لصورة تجلي هذه الإستثمارات، سواء على مستوى الفاعلين والمؤسسات التي تتولى التخطيط لهذه السياسة العامة في مجال الإستثمارات العمومية الكبرى من جهة، أو من حيث سؤال الجدوى من جهة ثانية، أو من حيث الأثر السياسي والاقتصادي والاجتماعي لهذه الإستثمارات وإنعكاس ذلك على وظيفة النظام السياسي للدولة بالمغرب من جهة ثالثة.

             فالنماذج المختارة للتحليل والدراسة تم إختيارها بناءا على حلقات ترابط عضوي تمت ملامسته في ثنايا الإستراتيجيات الوطنية والتقارير المؤسساتية الوطنية والدراسات المعتمدة لبلورتها كمشاريع استثمارية عمومية كبرى. حيث تبين أن رهان التنمية كتحدي يؤرق جل الأنظمة السياسية في العالم و في المغرب . فإن التفكير فيه ينطلق من توفير البنى التحتية اللازمة لأي إقلاع إقتصادي منشود، وهذه الإستثمارات في البنى التحتية تستلزم تأمين مصادر الطاقة. وعليه كان التركيز على الإستثمارات العمومية الكبرى في مجال البنى التحتية نموذج طنجة ميد و في مجال الطاقات المتجددة نموذج نور  ورزازات. وهي مشاريع مهيكلة وقاطرة لمشاريع إستثمارية كبرى متنوعة في مجال الصناعة والفلاحة والصيد البحري والسياحة والخدمات …. وهذه كلها تستلزم بالضروة توفير وتأمين مصادر كافية للطاقة ومسارات للتسويق و اللوجيستيك. وهو الأمر الذي يوفرانه المشروعين النموذجيين في الدراسة على مستوى البنى التحتية والطاقة اللازمة .

  • 2-     منهجية المقاربة   

         لقد تم الإعتماد في تحليل الإشكالية المركزية للبحث والمتمثلة في كون الإستثمارات العمومية الكبرى آلية إقتصادية معززة للوظيفة السياسية للدولة بالمغرب . على المنهج التحليلي الوظيفي، المرتكز على تحليل البنية الوظيفية للنظام السياسي المغربي بناء على وظائفه ومخرجاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية .وذلك  على ضوء السياسات العمومية المعتمدة على المستوى الاقتصادي. وما مدى توظيفها لتلبية الطلب الاجتماعي  و بالنتيجة إنعكاساتها على تحسين مؤشرات التنمية كأفق منشود لأي سياسة عمومية .

  • الأفكار الأساسية للبحث / الفرضيات

     بناء على الأرضية الإشكالية المشار إليها أعلاه . يمكن القول  أن الإستثمارات العمومية الكبرى بالمغرب، هي سياسة عمومية مفكر فيها. تروم إعادة بناء النسق الوظيفي للدولة ، وهي  شكل من أشكال التجديد لمقارباتها و تعاطيها مع التحديات المطروحة.  و ذلك من خلال:

  • بناء أقطاب جديدة للتنمية الجغرافية و تثمين المزايا المقارنة؛
  • تخفيف الضغط على بعض الجهات من خلال إعادة توطين النشاط الاقتصادي و إعادة تشكيل الجغرافية الاقتصادية للدولة؛
  • ترجمة للرؤية السياسية الإستراتيجية للدولة في مجال التدبير السياسي والاقتصادي لموارد وإمكانيات الدولة؛
  • تفعيل المنهج التوقعي والإستشرافي ودمجه في الإستراتيجيات الوطنية للسياسات العمومية للدولة في مجال الإستثمارات العمومية الكبرى؛
  • الإستباقية في التوجه إلى تأمين القدرات والمزايا التنافسية للدولة ضمن الجغرافية الاقتصادية العالمية؛
  • إعتبار الإستثمارات العمومية الكبرى هي شكل من أشكال الإستجابة للطلب الاجتماعي . من خلال ما تمثله من دينامية إقتصادية و تنشيط للدورة الاقتصادية؛
  • كون الإستثمارات العمومية تمثل  رهانا للدولة من أجل تسريع وثيرة التحديث السياسي و الاقتصادي والاجتماعي من خلال أثارها على النسيج المجتمعي بالمناطق التي توطن فيها. ومن هناك إلى التوسع لتشمل باقي الجهات الوطنية ؛
  • أن سياسة الإستثمارات العمومية الكبرى تعتبر بالنسبة للدولة قوة دافعة إلى الحكامة والتدبير العقلاني لتدخلات الدولة وحسن توظيف مواردها من خلال تعزيز أليات التقييم والرقابة وفق المقاربات الدولية  الرائد في هذا المجال؛
  • إعتبار هذه السياسة العمومية في مجال الإستثمارات العمومية الكبرى، نهج تحديثي يروم الدفع بالديناميات الوطنية والمحلية نحو الإقلاع الاقتصادي وبالنتيجة التأهيل السياسي للنخب؛
  • توظيف منجزات هذه السياسة العمومية في مجال الإستثمارات العمومية الكبرى كقوة ناعمة في العلاقات الخارجية و الدبلوماسية للدولة.
  • تصميم بناء البحث

ولمقاربة وتحليل الإشكالية المركزية للبحث والفرضيات المؤسسة لها فقد تم إعتماد تصميم للبحث ينقسم إلى بابين:

الباب الأول:

        تم خلاله تناول الاستثمارات العمومية الكبرى بالمغرب عبر تحليل سؤال البنيات القانونية والترسانة التشريعية الناظمة لهذه الاستثمارات وعلاقتها بالسياسة العامة للدولة في المجال الاقتصادي والتشريعي. حيث تم التوقف عند كل ما له علاقة بالإستثمارات العمومية الكبرى والإجراءات والتدابير والمؤسسات الفاعلة في مجال التنظير لهذه الاستثمارات و التخطيط لها، وهو ما تناوله التحليل  في القسم الأول. بينما في القسم الثاني تم تمحيص وتفكيك سؤال الفاعلين في السياسات العامة الاستثمارية على مستوى التخطيط والتنزيل والتقييم، وتحليل أشكال العلاقات بين المتدخلين سواء على المستوى الوطني أو في علاقة الفاعل السياسي والاقتصادي الوطني مع شركائه في الخارج من خلال دراسة الإتفاقيات و الشراكات التي تجمع المغرب مع شركائه الدوليين في مجال الاستثمار عموما و الاستثمارات العمومية الكبرى تحديدا.

الباب الثاني:

     بينما في الباب الثاني  تم العاطي فيه مع  الاستثمارات العمومية الكبرى من زاوية الدراسة السوسيو-إقتصادية للأثار المترتبة عن هذه الإستثمارات العمومية الكبرى، و ذلك من خلال قسمين: القسم الأول: تم فيه تحليل مسالك تمويل هذه الاستثمارات والأشكال القانونية والمؤسساتية التي يتخذها هذا التمويل و كذا صيغه التنفيذية، وذلك عبر تحليل نماذج رائدة من الاستثمارات العمومية الكبرى. وفي القسم الثاني: تمت مقاربة دور هذه الاستثمارات العمومية الكبرى في الإجابة على سؤال متطلبات التنمية الجهوية، وآثارها كسياسة عمومية على الحياة السياسية والاقتصادية العامة بالمغرب. وما مدى إستجابتها للطلب الاجتماعي المعبر عنه للنهوض بالمعيش اليومي للمواطن المغربي.

  • خلاصات البحث

           اليوم وفي قراءة موضوعية وبمسافة محايدة يتضح أن ما كان منذ عقدين من الزمن مجرد دراسات و تقارير وإستراتيجية عامة، أصبح في واقع الحال نتائج ملموسة وعلى أرض الواقع وبمؤشرات عالية للمردودية. فالإستثمار العمومي في مجال البنى التحتية والموانئ بوأ المغرب مكانة رائدة في خريطة النقل الدولي البحري والمبادلات التجارية الدولية، وشكل قيمة مضافة للميزان التجاري المغربي. وأيضا النتائج المحققة على مستوى الطاقات المتجددة بدأت ثمارها في الظهور وهي تعد بالكثير في المستقبل حيث سيصبح المغرب من البلدان الرائدة في هذا المجال، كما يتوجب القول أن السياسية الإستثمارية للدولة المتبعة في المجال الفلاحي مكنت المغرب من التموقع كبلد فلاحي يتموقع بصمت في لائحة البلدان المصدرة للمنتوجات الفلاحية وقبل ذلك تحقيق أمنه الغذائي. ونفس الأمر ينطبق على المجال الصناعي و الخدمات ….  كل هذه المؤشرات إستطاع المغرب إنجازها إنطلاقا من عنصر المزايا المقارنة وهي:  الموقع الجغرافي، الاستقرار السياسي، تحسين الجاذبية التنافسية، و الأستغلال الأمثل للموارد الطبيعية المتجددة ..

          إن المغرب وإعتبارا للنجاحات المحققة على مستوى الإستثمارات العمومية الكبرى، وجعلها قاطرات للتنمية الاقتصادية و الاجتماعية. فهي بذلك تقدم نموذجا للنظام السياسي الفاعل و القادر على حسن إستغلال الموارد المتاحة و رفع تحدي التنافس الاقتصادي. كما تصب هذه الاستثمارات العمومية في منحى تعزيز مشروعية النظام السياسي و بنيته الاقتصادية ( مشروعية الإنجاز و التعمير و الإشعاع .)

  • أفاق الموضوع / البحث

          وفي الختم لا يسع إلا التأكيد على أن خلاصات هذا البحث هي في حد ذاتها مقدمات لأبحاث متفرعة و متجددة  في المستقبل القريب. بحيث يمكن القول أن هذه الإستثمارات العمومية الكبرى هي اليوم في أوج عطائها و نتائجها، كما أن بعضها وفي إطار التقييم المصاحب ستعرف إنعطافات عميقة نحو المزيد من النجاح وعلى سبيل المثال نذكر هنا القطاع الفلاحي والصناعات التكنولوجية والطاقات المتجددة خصوصا في جهة أكادير التي ستصبح قاطرة للإقلاع الاقتصادي سيمتد لا محالة إلى الجنوب المغربي وهو ما سيعزز أكثر وظيفة الإنجاز والقدرة على الفعل للدولة المغربية.  كما أنها ستعمل على تقوية التموقع السياسي والاقتصادي للمغرب في الجيوبوليتيك الناشئ في غرب إفريقيا على وجه التحديد وعلى المستوى القاري الإفريقي بشكل عام. وهو الأمر الذي يتعزز يوما بعد يوم على ضوء الشراكات الإستراتيجية للمغرب مع الأقطاب الدولية الفاعلة وحضوره الوازن في التقاطبات والتوازنات الدولية قيد التشكل.

     كما تشكل التطورات و المعطيات الأخيرة و تفاعل المغرب معها بشكل إستباقي و إستشرافي ، إحدى أبرز مظاهر صوابية و رجاحة التوجهات الاستراتيجية للدولة . وتدل أيضا على الفهم و الإستيعاب الإستشرافي لهذه المتغيرات الجيوسياسية بالمنطقة و العالم ككل.