القاضي الإداري وحماية الحقوق المدنية والسياسية

أطروحة دكتوراه تحت إشراف ذ. يحي حلوي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية وجدة، جامعة محمد الأول وجدة 2020.

ملخص:

يرتبط هذا الموضوع بانشغاله بأحد أهم فروع حقوق الإنسان نظرا لخصوصيته وحساسيته في حياة الأفراد والجماعات، فموضوع ” القاضي الإداري وحماية الحقوق المدنية والسياسية” وذلك من خلال دراسته، من جهة أولى، من زاوية النص القانوني سواء الدولي أو الوطني بهدف تعميق البحث والكشف عن الجوانب الجديدة فيه، ومن جهة ثانية، من زاوية اجتهاد القضاء الإداري، نظرا لما يشكله هذا الأخير من كفالة للحقوق والحريات ضد تعسف الإدارة.

وبالنظر لكون الدولة تعتبر ضامن للحقوق المدنية والسياسية، فهي تخضع ذاتها لمضمونها، وتتقيد بها إعمالا لمبدأ الشرعية، وتتولى إسباغ حمايتها عليها بتوقيع الجزاء الرادع على كل من يهدر تلك الحقوق، إذ أن الحقوق المدنية والسياسية كتعبير عن واقع قانوني تجد مجالها داخل الدولة في القوانين التي تتولى تنظيمها وحمايتها، وتعرف أبعادها على المستوى الدولي في أنها تشكل الجيل الأول لحقوق الإنسان، كما أنها تجسد مفهوما معينا لدولة القانون لا يقتصر على الشكل بل يمتد إلى المضمون، هذه الدولة التي تحتل فيها السلطة القضائية والاجتهاد القضائي دورا فعليا.

الكلمات المفتاحية، القاضي الإداري، الحقوق والحريات، الضبط الإداري، الحقوق المدنية، الحقوق السياسية.

Abstract:

This topic is related to his preoccupation with one of the most important branches of human rights due to its specificity and sensitivity in the lives of individuals and groups. The topic of “Administrative Judge and Protection of Civil and Political Rights” is through studying it, on the one hand, from the angle of the legal text, whether international or national, in order to deepen research and uncover new aspects On the other hand, from the standpoint of the jurisprudence of the administrative judiciary, given what the latter constitutes in terms of guaranteeing rights and freedoms against the arbitrariness of the administration.

Given that the state is considered a guarantor of civil and political rights, it submits itself to its content, adheres to it in implementation of the principle of legality, and assumes its protection over it by imposing a deterrent penalty on anyone who wastes these rights, as civil and political rights as an expression of a legal reality find their scope within the state in the laws that It organizes and protects it, and its dimensions are known at the international level in that it constitutes the first generation of human rights. It also embodies a certain concept of the rule of law that is not limited to, form but rather extends to the content, this state in which the judicial authority and judicial jurisprudence occupy an effective role.

Key words, administrative judge, rights and freedoms, administrative control, civil rights, political rights.

تمثلت إشكالية هذه الأطروحة والتي أملتها تلك المعادلة الصعبة بين واضع ومؤسس هذه الحقوق (المشرع) من جهة، وبين المكلف بفرض الحماية لها (القضاء الإداري) من جهة ثانية، وبين الإدارة  التي أوكل إليها المشرع تنفيذ النص القانوني والتي يحكمها عادة هاجس المحافظة على الأمن العام والنظام العام، وما ينتج عن هذا الهاجس من تصادم مع هذه الحقوق، والمتمثلة في التساؤل العريض حول “ما مدى توفق/نجاح المشرع وكذا القاضي الإداري المغربي في فرض الحماية الضرورية للحقوق المدنية والسياسية وذلك عبر التوفيق بين ضرورة تفعيل الحماية لهذه الحقوق وهاجس الحفاظ على النظام العام ؟ أي بعبارة أخرى ما مدى توفيقهم بين ثنائية الحرية والضبط؟”.

هكذا، ساهم طرح هذه الإشكالية في إضفاء أهمية قصوى على موضوع الأطروحة، بالنظر الى ما أضحت تعرفه التدخلات المفرطة للدولة في مختلف مناحي الحريات والحقوق المدنية والسياسية علاوة الى كون حماية هذه الحقوق لم تعد قضية وطنية تنتهي عند حدود الدولة فحسب بل أصبحت محل اهتمام بالغ من لدن المجتمع الدولي بأسره كما أن مسألة رد الاعتبار لهذه الحقوق والتركيز عليها على مستوى البحوث الجامعية أضحت تشكل أهمية قصوى وذلك بغرض ابتكار أساليب جديدة لحمايتها وكشف الثغرات التي تشوب بعض النصوص المنظمة لها.

كما تجلت أهمية هذه الاطروحة أيضا الى المقاربة التركيبية والمدققة المعتمدة لكل حق على حدة مع إيلاء أهمية للبحث في الثغرات التي تحول دون ممارسة هذه الحقوق على الوجه المطلوب، وبالتالي الخروج باقتراحات لتجاوز هذه المعيقات في أفق الوصول إلى حماية متميزة وفريدة لهذه الحقوق سواء على مستوى التشريع أو على مستوى القضاء الإداري.

وقد استعان الباحف لفك مختلف الرموز التي طرحها موضوع البحث إلى اعتماد جملة من المقاربات المنهجية المتكاملة التي تساعد على ضبط وتحليل الموضوع من مختلف جوانبه، أول هذه المناهج هو المنهج التاريخي الذي تم توظيفه للوقوف على التطورات التي مرت بها حماية الحقوق المدنية والسياسية سواء على مستوى النص القانوني أو التطور الحاصل على مستوى اجتهاد القضاء الإداري وتم الاعتماد أيضا على المنهج المقارن كلما استدعت ذلك الضرورة أو تطلبه التحليل للوقوف على اتجاهات التشريعات والاجتهادات القضائية المقارنة في المسائل التي يطرحها موضوع البحث بغية تطوير التحليل في اتجاه تطوير الحماية القانونية والقضائية للحقوق المدنية والسياسية، وبهدف فك مختلف ألغاز العلاقات التي تنسج بين الأجهزة المتعددة التي تتدخل في موضوع تنظيم الحقوق المدنية والسياسية، وأيضا لتحديد وظائف كل منها، تمت الاستعانة كذلك، بالمنهجين الوظيفي والنسقي بافتراض أنساق ومنظومات مترابطة الأدوار والوظائف، وأخيرا تم توظيف المنهج القانوني المرتكز على تحليل واستقراء النصوص القانونية وبسط الاجتهادات القضائية والمساطر المتبعة من أجل إقرار هذه الحماية.

كما أن دقة وتقنية الموضوع محل البحث تطلبت القيام ببحث ميداني لاستجلاء أهم المشاكل التي تعترض موضوع حماية الحقوق المدنية والسياسية والكشف عن أهم الاختلالات المسطرية أو القانونية أو القضائية التي تعترضه وذلك من خلال مقابلات مع قضاة ومهتمين وباحثين وأساتذة.

وفي إطار تحليل ومقاربة الإشكالية المطروحة تم الاستئناس بعدد من الآراء الفقهية سعيا وراء توخي الأمانة العلمية والموضوعية التي تتطلب المزاوجة بين المقتربين القانوني والقضائي.

وبناء على ذلك، وللوقوف على جميع النقط السابقة، وبالتالي الإجابة عن الإشكالية المحورية اهتدى الباحث إلى الاعتماد على تقسيم صلب الموضوع الى قسمين خصص الأول منه لتجليات الحقوق المدنية والسياسية بين الضبط والحماية الذي تناول من خلاله جملة من الحقوق والحقوق والحريات الجماعية والفردية وذلك من زاوية النص القانوني سواء الدولي أو الوطني من جهة، ومن جهة ثانية لدور القضاء الإداري من خلال مقرراته واجتهاداته في مدى فرض حمايته لهاته الحقوق.

وكانت البداية بالحقوق والحريات الجماعية المتمثلة في حرية التجمع وتأسيس الجمعيات محاولين ملامسة مختلف الجوانب المتعلقة بها لاسيما من زاوية حماية القضاء الاداري وهنا تم التركيز على النقاط التالية:

– موقف القضاء الاداري من تجاوز السلطات الإدارية لاختصاصاته في هذا المجال؛

– وموقفه من شرعية الاجتماع خارج مقر الجمعية؛

– موقفه من حجية الرسالة الإخبارية الهادفة لمنع تجمع عمومي؛

– دوره في إقرار المسؤولية الإدارية للدولة عن منع الحق في حرية التجمع؛

– بسطه للرقابة على مدى شرعية أسباب منع ممارسة حرية التجمع؛

 – المفهوم الواسع الذي أعطاه للحق في التجمع.

وعلى نفس النهج حاول الباحث مناقشة موضوع الحق في تأسيس الجمعيات بدءا بالحماية التي يقرها القضاء الاداري قبل اكتساب الجمعية للشخصية المعنوية مرورا بحجية الوصل المؤقت وكذا للحماية التي أصبغها للحق في التأسيس ومحاولاتها في تقييد السلطة التقديرية للإدارة وصولا لتصديه لتجاوز السلطات الإدارية لاختصاصاتها في هذا الإطار.

كما لم يتم إغفال مدى حماية القضاء الإداري لحرية ممارسة أنشطة الجمعيات سواء فيما يتعلق ب:

  • حماية الجمعيات من الاعتداء المادي على أنشطتها؛
  • حماية الجمعيات من تدخل الإدارة؛
  • حماية حق الجمعيات في ممارسة حق التظاهر السلمي؛
  • حماية الجمعيات ضد قرارات اغلاق مقراتها؛
  • حماية حق الجمعيات في تنظيم الندوات.

ليتم الانتقال مباشرة بعدها لمناقشة مبحث لا يقل أهمية عن سابقه ويتعلق الأمر بحماية الحقوق والحريات المرتبطة بالأحزاب والمشاركة السياسية وذلك على نفس النهج الذي تم تخصيصه لحرية التجمع والحق في تأسيس الجمعيات، إذ بعد دراسة الحماية التشريعية المقررة في هذا الشأن تم الانتقال لدور القضاء الإداري وتم التركيز أساسا على موقفه بشأن القرارات الادارية المتعلقة برفض تأسيس حزب سياسي وكذا المرتبطة بإبطال تأسيس حزب سياسي بالإضافة لدوره في حماية الأنشطة المرتبطة بالأحزاب السياسية.

وفي نفس السياق، ونظرا لما لحرية المشاركة السياسية      من أهمية في حياة الأفراد والجماعات فقد عرفت حيزا من الدراسة بحيث حاول الباحث بداية البحث عن الأسس القانونية سواء الدولية أو الوطنية لهذه الحماية لننتقل بعدها لدور القضاء الاداري في ضمان هذه الحماية مع التركيز على أهم مظاهر المشاركة السياسية المتمثلة في الحق في الانتخاب والحق في الترشح.

أم الفصل الثاني من القسم الأول فقد تم تخصيصه لتجليات حماية الحقوق والحريات المدنية والسياسية الفردية، بحيث حاول الباحث في إطاره معالجة جملة من الحقوق والحريات بدء بالحق في المساواة والحق في الدفاع وحرية التنقل والحق في الحصول على المعلومات والحق في الحصول على التعويض بسبب الأخطاء القضائية، هذا الأخير الذي تعرض له بتحليل أكثر بالنظر للتأطير الدستوري المستجد الذي عرفه وبالنظر لبداية الوعي لدى المواطن بأهمية هذا الحق والذي لم يكن القضاء الإداري في السابق مهتما لمثل هذه القضايا، وهنا تمت دراسة موقف القضاء الإداري  بشأن الاختصاص النوعي ثم لموقفه بشأن المسؤولية عن الخطأ في الاعتقال الاحتياطي وبعدها لموقف القاضي الإداري بشأن مسؤولية المؤسسة السجنية باعتبارها مرفقا من مرافق العدالة.

وقد خلص الباحث الى كون أن حماية الحقوق المدنية والسياسية سواء الفردية أو الجماعية، بالرغم من التقدم المسجل على مستوى النص التشريعي سواء الدستور الذي ارتقى بحماية هذه الحقوق والحريات إلى مرتبة دستورية  أو من خلال القوانين العادية التي تميزت في كثير من فصولها بروح متقدمة، إلا أنه تبقى هذه الحقوق والحريات في حاجة للمزيد من المواكبة القانونية التي ستستجيب للمتطلبات الواقعية من جهة، ولتجاوز بعض الاكراهات، والحدود الواقعية التي أبانت عنها ممارسة هذه الحقوق من جهة أخرى.

     كما أن الدور المحوري المنوط بالقاضي الإداري وهو ينظر في القضايا المعروضة عليه، والذي يتطلب منه الوقوف على أي خرق للقانون وأي مس للحقوق والحريات المدنية والسياسية بشكل يراعي الحفاظ على النظام العام، تبين من خلال دراسة المقررات القضائية الصادرة عن مختلف أجهزة القضاء الاداري أنها تذهب في العديد من اجتهاداتها في اتجاه تحصين هذه الحقوق والحريات من أي مساس من طرف السلطات الإدارية، بل في كثير من الأحيان، تستعين بالنصوص الدولية في الحالات التي لم يسعفها النص الوطني، كما حاول القضاء الإداري أن يفسر، في حالات كثيرة، النص التشريعي لصالح حماية الحقوق المدنية والسياسية مع استحضاره لفلسفة المشرع أثناء وضعه لظهائر الحريات العامة، والمسار الديمقراطي الذي يتبناه المغرب، وبذلك فهو يحاول أن يؤسس لحماية فعالة لهذه الحقوق، وأن يضع قيودا للإدارة في تعاملها مع ما يتصل بالحقوق المدنية والسياسية، كما يحاول بذلك أن يرغمها على الالتزام بحرفية النص، وعدم تجاوزه بما يمس من جوهر هذه الحقوق.

      غير أن ما سبق ذكره، لا يمنع من القول بكون بعض المقررات القضائية، لم ترق بعد إلى المستوى المطلوب خاصة في القضايا المتعلقة بالأحزاب السياسية وبعض الجمعيات، وذلك من خلال مسايرتها لبعض التوجهات السياسية، وتجلى ذلك من خلال خلق بعض المبررات الشكلية الثانوية في رفضها للاستجابة لمطالب الأحزاب، علاوة على التضارب في بعض الأحيان في العمل القضائي، وهو ما يفقد المواطن بوصلته، وهو يقتفي أثره في تصفح الاجتهادات الصادرة في هذا الشأن. وهو ما يستدعي من جهة، توحيد الاجتهادات القضائية في هذا الإطار، وإلزام مختلف المحاكم بالتقيد بها من جهة ثانية. كما أن احترام الحقوق المدنية والسياسية في مفهومها الكوني يقتضي من مختلف السلطات الإدارية أن تكون قراراتها وتصرفاتها وفق مبدأ الشرعية، ففي احترام هذه الاتفاقيات الدولية احترام لمبدأ الشرعية، يستوجب بالنتيجة من القاضي الإداري التحلي بروح المسؤولية وهو بصدد تنزيل أحكام الدستور على القضايا المعروضة عليه، ومن المشرع أيضا الإسراع ببلورة المبادئ الدستورية في شكل نصوص قانونية، تواكب التطورات التشريعية الحقوقية الدولية.

وبعد تخصيص القسم الأول لتجليات حماية الحقوق والحريات المدنية والسياسية بين الضبط والحماية، خصص القسم الثاني من الأطروحة للقيود التي تعترض ممارسة هذه الحقوق وسبل تطويرها، والذي تم تناوله في فصلين، خصص الأول منه للتعرف على القيود والعراقيل التي تحول دون ممارسة فعالة للحقوق المدنية والسياسية، وكانت البداية بالقيود القانونية والتي حاولنا من خلالها التطرق  لإشكالية عدم الحسم بين الكونية والخصوصية في مجال حماية الحقوق المدنية والسياسية لا سيما على مستوى الدستور المغربي وما استتبعه من غموض في التوجه حتى بالنسبة للاجتهاد القضائي.

كما أن ما تعرفه بلادنا والعالم بأسره من جائحة كوفيد 19 وما فرضته من إجراءات استثنائية واعلان حالة الطوارئ الصحية والتقييد الذي مس ممارسة مجموعة من الحقوق والحريات والمدنية والسياسية فرض على الباحث تخصيص حيز مهم من هذه الأطروحة لمناقشة هذه الحالة من زاوية القيد الذي فرضته على المواطنين وكيف تعامل القضاء الاداري على بعض القضايا التي أحيلت عليه، والتي كانت في مجملها مسايرة للتوجه الذي فرضته اتخاذ تلك القرارت لاسيما منها ما يتعلق بمنع التنقل إذ اعتبر القضاء الاداري أنه يتعذر مراقبة تلك القرارات لاندراجها ضمن أعمال السيادة، وقد حاول في هذا الاطار العمل على التمييز بين حالة الطوارئ وحالة الاستثناء بالنظر للخلط الذي رافق مجموعة من الباحثين بشأن المفهومين، بالاضافة الى محاولة التطرق باختصار لموضوع أعمال السيادة باعتبارها قيد على ممارسة الحقوق والحريات.

قرينة شرعية القرار الإداري أو امتياز الأولوية التي يحظى بها القرار الاداري بغض النظر عن مدى شرعيته يشكل بدوره قيد على الحقوق المدنية والسياسية، إذ كما هو معروف أن المشرع عمل على تسييج القرار الاداري بمجموعة من العقوبات الجنحية والجزاءات الادارية لضمان تنفيذه بالإضافة للامكانية المتاحة للإدارة في تنفيذ قراراتها بشكل مباشر وباستعمال القوة المادية، هذا بالرغم من وجود بعض الاستثناءات على هذه القاعدة والمتمثلة خصوصا في وقف تنفيذ القرار الاداري كاستثناء لامتياز الأولوية غير أنها بدوره تعرف جملة من العراقيل التي تحول دون تحيقيق الغاية من إقرار هذه الضمانة.

 القيود القضائية والإجرائية كانت بدورها محل الدراسة ضمن هذا الفصل بالنظر لما تشكله من تحدي لممارسة الحقوق المدنية والسياسية، هذه القيود المتمثلة بالأساس في محدودية اجتهاد القضاء الإداري الذي يحد منه  هاجس الأمن القانوني على حساب مبدأ الشرعية وغياب دور محكمة النقض في توحيد وتوجيه الاجتهاد القضائي.

بدورها بعض القواعد الإجرائية للتقاضي أمام المحاكم الإدارية ككلفة الدعوى الإدارية وما يرتبط بها من مصاريف التنقل وأتعاب المحامي بالإضافة لإشكالية غياب مسطرة إدارية خاصة بالدعاوى الإدارية وما نتج عنها من اللجوء لقواعد التقاضي المدنية التي تختلف طبيعتها وأطرافها عن نظيرتها في القضاء الاداري لاسيما ما تعلق بإشكالية عدم تنفيذ المقررات القضائية الصادرة ضد أشخاص القانون العام وما يترتب عنها من معاناة للمتقاضين نتيجة الصعوبات سواء ذات الطبيعة القانونية من جهة أو ذات الطبيعة الواقعية من جهة ثانية، كل ذلك لا زال يشكل قيودا على ممارسة الحقوق والحريات المدنية والسياسية بالشكل والمضمون المنتظر.

أما الفصل الثاني من القسم الثاني فقد خصص لدراسة سبل تطوير حماية فعالة للحقوق المدنية والسياسية، وكان البدء بالمدخل السياسي المتجسد في ضرورة إقرار الديموقراطية وترسيخ الفصل بين السلطات مع إيلاء الأهمية الخاصة لدور ورقابة الرأي العام لما يشكله هذا الأخير من سلطة مضادة ضد أي تعسف من جهة السلطات الإدارية.

وانتقل الباحث مباشرة للمدخل القانوني كسبيل لتدعيم حماية أكثر للحقوق المدنية والسياسية والمتمثل بالأساس في أهمية ترجيح النص الدولي على مستوى التشريع الوطني بالنظر لأهمية الضمانات التي يتيحها من جهة والحيادية التي يمتاز بها جهة ثانية الأمر الذي يستدعي معه إعمال النص الدولي في كل ما يتعلق بالحقوق والحريات سواء في تنزيلها على شكل نصوص قانونية أو تحيين المنظومة الحالية أو من حيث إلزام القضاء بإعطاء الأولوية في التطبيق للنص الدولي كلما تعارض مع النص الوطني.

ومن هنا يأتي دور السلطة التشريعية في تطوير وتعزيز حماية الحقوق المدنية والسياسية وذلك من خلال ضرورة حرصها على تضمين الشروط والضوابط الواجب توافره في التشريع المؤطر لهذه الحقوق.

وبالنظر لكون عدم إمكانية تصور حماية لهذه الحقوق بالمدخلين السياسي والقانوني دون المدخل القضائي سواء الاداري أو الدستوري لما لهذا الأخير من أهمية في كفالة الحقوق والحريات فقد تم الحديث عنه من طرف الباحث في مبحث خاص، وهنا كان الحديث عن أهمية ترجيح القضاء الإداري للنص الدولي محاولا سرد مجموعة من الإمكانية العملية لرد الاعتبار لسمو قاعدة الكونية وذلك من خلال السوابق القضائية وتوجهات بعض المحاكم الوطنية من مبدأ الترجيح وكذا توجهات بعض المحاكم الدولية من هذا المبدأ كموقف كل من محكمة العدل الدولية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ومجلس الدولة الفرنسي.

وأخيرا تطرق الباحث لآليات تجاوز إشكالية عدم تنفيذ المقررات القضائية منها ما يتعلق بالضغط الذي يمارسه المتضرر ومنها ما يتعلق بالضغط الذي يمارسه القاضي كالحجز على الأموال العمومية وفرض الغرامة التهديدية، هذا بالإضافة الى ربط مسألة عدم التنفيذ بمسؤولية الإدارة وكذا توقيع جزاءات على الممتنع عن تنفيذ الأحكام القضائية كالجزاءات التأديبية أو متابعة الموظف الممتنع عن التنفيذ جنائيا وأخيرا لجوء المتضرر إلى مؤسسة الوسيط.

 من خلال ما سلف، وبعد وقوف الباحث على جملة من القيود التي تعترض ممارسة الحقوق والحريات المدنية والسياسية، سواء القانونية أو الإجرائية، أو القيود ذات الصلة بمحدودية اجتهاد القاضي الإداري، اتضح له أنه، بالرغم من بعض نقاط القوة، التي ميزت حماية هذه الحقوق، على مستوى التشريع، وأيضا على مستوى اجتهاد وعمل القضاء الإداري، والتي كانت موضوع الدراسة في القسم الأول من هذه الأطروحة، أنه لا يمكن الحديث عن حماية فعالة، في ظل وجود قيود، من قبيل ما يتميز به القرار الإداري، بغض النظر، عن مدى مشروعيته من أولوية في التنفيذ، وما يلحقه من أضرار على المرتفق، لاسيما في حال تقرر بشأنه عدم شرعيته، الأمر الذي غالبا ما يصعب تداركه، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، تم تسجيل مجموعة من القيود مرتبطة أساسا بالعبء الذي ما يزال يشكله كلفة التقاضي، منها ما يرتبط بمصاريف التنقل الناتجة عن بعد المحاكم الإدارية، بالإضافة لأتعاب المحامين بالنظر لإلزامية المؤازرة بهذا الأخير، علاوة إلى غياب مسطرة إدارية للتقاضي على غرار المسطرة المدنية، تراعي خصوصية الدعوى الإدارية لا من حيث طبيعتها من جهة، ومن حيث أطرافها من جهة ثانية.

 ونتيجة لغياب هذه المسطرة، طرحت مشكلة على مستوى حماية الحقوق المدنية والسياسية، تمثلت في عدم تنفيذ نسبة مهمة من المقررات القضائية الصادرة في مواجهة الإدارة، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في إحجام العديد من المتضررين، من القرارات الإدارية، عن اللجوء لممارسة حق التقاضي، لعلمهم المسبق بعدم تنفيذ المقرر القضائي، الذي سيصدر لصالحهم، وحتى إذا ما تم تنفيذه، فلن يتم ذلك، إلا بعد مماطلة، ستزيد من إثقال كاهل المتقاضي.

ومن خلال ما تم تناوله من طرف الباحث في الفصل الأول من قيود، تم التوصل إلى بعض المداخل، التي يمكن أن تشكل سبيلا لتدعيم حماية أكثر للحقوق المدنية والسياسية، فكانت البداية بالمدخل السياسي، والمرتبط بالإرادة السياسية، المتجلية في إقرار الديمقراطية، وترسيخ الفصل بين السلط، بالشكل، الذي سيعمل على عدم التدخل في عمل القاضي الإداري، بأي شكل كان، وإزالة كل ما من شأنه، أن يمس باستقلاليته، هذا من جهة.

 ومن جهة أخرى، لا بد من إعادة التركيز على أهمية الرأي العام في مفهومه الواسع؛ من جمعيات مدنية، وإعلام، ونخبة مثقفة، وجامعات من القيام، كل حسب دوره، في التأثير على الفاعلين، في مجال حماية الحقوق المدنية والسياسية قصد توفير ضمانات أكبر، وتحصين فعال لهذه الحقوق.

ويشكل المدخل القانوني، محطة جوهرية في الانتقال بالوضع المتذبذب للحقوق المدنية والسياسية، الى الوضع الذي يجب أن تكون عليه، وذلك لن يتأتى إلا بإعمال، وترجيح النص الدولي، على النص الوطني. وذلك، من خلال العمل على مراجعة شاملة للمنظومة التشريعية الوطنية بالشكل الذي، سيزيل معه، أي تعارض مع الحماية الدولية لهذه الحقوق.

 وهذا، ما يدعو إلى التوقف عند أهمية السلطة التشريعية، في هذا المضمار، بالنظر للمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقها، باعتبارها الحجر الزاوية في تمرير، أي نص، قد يوسع دائرة هذه الحقوق، أو قد يعمل على تضييقها.

     كما أن الدور الأساسي  للقضاء الإداري في هذا المجال، والذي يتأتى له من خلال الاستقلالية الدستورية عن السلطة التنفيذية، وبالنظر أيضا، لحرية الاجتهاد، التي ما فتئ يظهر بها، في عدة مقررات قضائية، كل ذلك سيجعل من هذه المؤسسة القضائية باعتبارها الحكم بين المواطن والإدارة، أن تقوم بدور كبير، سواء في مسألة تكييف القضايا، وترجيح النص الدولي في هذا الاطار، أو من خلال اللجوء لبعض الآليات الممكنة، لتجاوز إشكالية عدم تنفيذ الأحكام القضائية، من قبيل؛ فرض الغرامة التهديدية، والحجز على الأموال العمومية، ومتابعة الموظف المسؤول عن عدم التنفيذ جنائيا.

مما لا شك فيه، أن إقرار ما ذكر، سيعمل بشكل كبير على توفير الحماية اللازمة للحقوق المدنية والسياسية، كما أنه سيشكل قفزة نوعية في توفير مساحة مشروعة لهاته الحقوق، التي بدونها لا يتأتى لأي دولة، أن تبلغ مراتب التقدم والازدهار، إذ لا يمكن تصور شخص، أو مجتمع، فاعل، ومنتج في ظل إحساس بتضييق مستمر، ممنهج، ومتعمد على حقوقه الأساسية وحقوقه المدنية والسياسية.

ولقد انتهى الباحث في أطروحته إلى التوصل لجملة من التوصيات، التي يمكن أن توفر فعالية أكثر لحماية الحقوق المدنية والسياسية، وتمثلت بالأساس في ما يلي:

أولا ـ على المستوى السياسي

نهج الاختيار الدستوري الواضح؛

إقرار الديمقراطية، وترسيخ الفصل بين السلط؛

إعمال رقابة الرأي العام وتقوية دوره؛

تأطير الفاعلين على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام بالنظر للأدوار التي أضحت تضطلع بها في مجال الرقابة على مدى احترام الحقوق والحريات بصفة عامة.

ثانيا ـ على المستوى التشريعي

تجويد العمل التشريعي المرتبط بالنصوص القانونية المتعلقة بحماية الحقوق المدنية والسياسية بما يستجيب لحماية أكبر لهذه الحقوق، وكذا لسد العديد من الثغرات التي أظهرتها الممارسة؛

إسراع المشرع ببلورة المبادئ الدستورية في شكل نصوص قانونية تواكب التطورات التشريعية الحقوقية الدولية؛

العمل على ملاءمة التشريع الوطني للتشريع الدولي، وذلك من خلال الأخذ، كقاعدة لا جدال فيها، سمو الاتفاقيات الدولية في هذا المجال، ويبقى الاستثناء الوحيد الذي يمكن على أساسه ترجيح الخصوصية الوطنية والقوانين الداخلية هو إذا كانت هاته الأخيرة في صالح حماية الحقوق المدنية والسياسية.

ثالثا ـ على المستوى المؤسساتي

تفعيل دور المجلس الوطني لحقوق الإنسان لصلاحياته المرتبطة ببحث وملاءمة النصوص التشريعية والتنظيمية الوطنية، للمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، بصفة عامة، التي صادقت عليها المملكة أو انضمت إليها؛

تفعيل دور مؤسسة الوسيط في الذود عن كل ما يرتبط بالحقوق المدنية والسياسية الصادرة في هذا الشأن؛

إعمال المحكمة الدستورية لسلطتها أثناء تفحصها لدستورية القوانين في إضفاء المزيد من الحصانة للحقوق المدنية والسياسية؛

تعزيز دور المؤسسات الجامعية في المساهمة في نشر الوعي الحقوقي والقانوني؛

تفعيل دور الجمعيات الحقوقية قصد المساهمة في الحماية الفعالة للحقوق المدنية والسياسية.

رابعا ـ على المستوى الإداري:

سحب صلاحية تسلم التصاريح من السلطات الإدارية، وجعلها في يد القضاء مباشرة مع وضع آجال معقولة في منح الوصل النهائي، وتمكين الجمعيات أو الأحزاب من الاختيار بين التصريح المباشر أمام القضاء، أو من خلال التصريح الإلكتروني، وهو ما سيجنب المرتفقين التصادم مع السلطات، بالإضافة إلى تجنيب المحاكم من عدة قضايا ومنازعات تثقل كاهلها؛

ضرورة حرص مختلف السلطات الإدارية على أن تكون قراراتها، وتصرفاتها، وفق مبدأ الشرعية.

خامسا ـ على مستوى القضاء الإداري:

توحيد الاجتهادات القضائية في هذا الإطار، وإلزام مخلف المحاكم بالتقيد بها؛

إعمال القضاء الإداري لمبدأ ترجيح النص الدولي؛

مواجهة تراكم القضايا الإدارية، وتطور عددها المضطرد، كما وكيفا، عبر نهج سياسة قضائية فعالة؛

تقريب القضاء الإداري من المتقاضين، وذلك من خلال دراسة التقطيع الإداري لدوائر اختصاص القضاء الإداري، وأثره السلبي على توزيع القضايا الإدارية بين المحاكم، وبالتالي على تقريب القضاء الإداري من المتقاضين واعتماد النجاعة القضائية؛

إحداث أقسام متخصصة في البت في القضايا الإدارية لدى المحاكم الابتدائية، ومحاكم الاستئناف؛

تمديد اختصاص الغرفة الإدارية بمحكمة النقض إلى مجال إصدار الفتاوى القانونية للإدارات العمومية؛

تجاوز إشكالية عدم تنفيذ المقررات القضائية، وذلك باللجوء لتوقيع جزاءات على الممتنع عن تنفيذ المقررات القضائية من قبيل؛ متابعة الموظف الممتنع عن التنفيذ جنائيا، ومنح المحكوم له ـ صاحب المصلحة ـ حق تحديد المحكمة المراد التنفيذ بدائرتها القضائية لتفادي سلبيات الإنابة القضائية، التي سيستعاض عنها بمنح مؤسسة المفوضين القضائيين صلاحية التنفيذ في مكان التنفيذ المحدد الموجود بدائرته الأموال موضوع التنفيذ.