حقيقة الشعر والإلهام الإلهي في أيون أفلاطون

لبيترو ديل صولدا Pietro Del Soldà

ترجمة: زينب سعيد


اكفرون Ekphron، هو الشاعر فاقد الصواب: أبياته نابعة من حرمان العقل { النوص}، من حرمان قدراته العقلية، لذا فهو “خارج ذاته” لأنه مسكون بالإله  entheos: الذي يغزوه، يمتلكه،katechei  ، ويدفعه خارج حدود الأنا الواعية. غزو الإله يدمر تلك الذاتية التي، من أجل الفن  techne والمعرفة الانسانية لابسمتية}espisteme   تعرف الواقع وتعمل عليه. ليس من أجل الفن ولا من أجل الابسمتية، إذن، يؤلف الشعراء قصائدهم، ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن الراوي  الذي يلقيها على الجمهور: هناك قدرة إلهية، theia dynamis، غير متوقعة ولا متناهية تقتحمه كأنها المؤلفة الوحيدة لتلك الأبيات. الإله هو الفنان الحقيقي الذي يستخدم الشاعر والراوي كأدوات انسانية: فالإله يستفيد منهما، كترجمين متحمسين ولاواعيين، وكائنين”خفيفين مقدسين ومجنحين”  يشبهان النحل الذي يمتص كلمات الإله، العسل الالهي والفاتن، من غابة ربات الشعر، ويحلق بعدها من زهرة إلى أخرى مُحَليا النفس الإغريقية.

يؤكد الجزء الكبير من التقاليد التفسيرية، في هذا الوصف الشهير لطبيعة الشعراء والرواة، المقدم من قبل سقراط في ايون افلاطون، الانشطار الحاصل بين لاعقلانية الشعر و فنون الايماءة، من جهة، ومن جهة ثانية، عقلانية العلوم والتقنيات التي تشغل الانسان في المدينة.[1] يكون ايون مقبولا، في معظم الأحوال، كبيان لعقلانية أفلاطون ونقده اللاذع للشعرالتقليدي، وبالتالي للسلطة التربوية الرئيسة في عصره.[2] نقد شديد لم يتم تطويره بشكل كامل، هو الذي يخص ايون، حسب أغلبية التفسيرات، حيث أن موقف أفلاطون من الشعراء وجد صياغة مفاهيمه النهائية في الجمهورية من خلال تحليل فنون الإيماءة.

يحتوي ايون، إذن، على أول إعلان ثوري لمنظور جديد يمكن للانسان الإغريقي أن ينظر من منطلقه إلى العالم وثقافته: ليس الرواة وحدهم، الذين كانوا في تلك الحقبة يتجولون بمدن هيلاس Ellade  ساردين أبيات الشعراء معززين بذلك التراث الشفهي الذي كان يشكل جوهرالهوية الاغريقية آنذاك، من أصبحت صورتهم مهددة جدا، بل حتى صورة الشعراء العظماء، حراس التراث الموثقين، يبدو أنهم خرجوا راسبين من امتحان سقراط العسير.

 فإبداعاتهم تبدو أنها نتاج هذيان، وفقدان الصواب الذي يمنع أخذهم على محمل الجد.[3] حكم أفلاطون على أباء الثقافة الإغريقية  يثير القلق والحيرة، أولا لتأثير هكذا موقف على المستوى الأخلاقي والسياسي: فقد كان  قساوسة وكهان اغريقيون يقتبسون لقرون، في علاقتهم  بالالهة، الأساطير التي تحكي عن شعراء الماضي معتبرينها وصفا للحقيقة الالهية غير القابلة للجدل.[4] 

لكن إلى جانب الصورة الأفلاطونية المعادية للاعقلانية الشعراء والفنانين فقراءة  ايون تقدم ، في نظرنا، إمكانية النظر أيضا إلى علاقة أفلاطون بالشعر ومن منظور آخر: هناك عدة قرائن، مخبأة ضمنيا خارج حدود المستوى الخطابي الخطي للنص الأفلاطوني، تجعلها تأخذ منحى أخر مغايرا،. قرائن تبدو أنها قادرة أولا وقبل كل شيء على وضع ذلك الانشطار الصارم بين لاعقلانية الشاعر وعقلانية العلوم موضع نقاش: بالإضافة إلى ذلك هناك تصدع، لا يمكن انكاره،  يجتاح المستوى الأكثر وضوحا للنص، حيث يبدو القارئ مدفوعا من قبل أفلاطون ليلاحظ رمز شيء مختلف تماما حتى، في الصورة المكتوبة للنقص في المعرفة، والخلل التأسيسي، للسلبية التي تميز الشعراء والرواة. شيء تسمح له صورة الخروج عن الذات بالاقتراب للمسكون بالإله: يتعلق الأمر بمفهوم  مبهم، تعمل الايقونة المكتوبة، المشكلة من جنون الشعراء والرواة، على إرجاع قارئ أفلاطون إليه.[5]

أطروحة هذا العمل، إذن، هي أن نص ايون يحث القارئ على التفكير في غيرية راديكالية سواء على المستوى الصريح للكتابة، أو المنظور الذي يعتبر الفن tecnhe والابسمتية الشكلين الوحيدين الأصيلين للمعرفة: حيث أن ما يظهر أنه رمز للخروج عن الذات للشعراء، بعيد كل البعد عن كونه إنكارا صريحا للمعرفة،  هو في الحقيقة  تشابه مع مفهوم سقراط غير المحدد “معرفة اللامعرفة”، مع الحب والحوار dialegesthai المبهم اللذين يميزان صورته في حوارات أفلاطون.

يبدو أن خروج الشاعر والراوي  عن ذواتهما الموصوف في ايون  يحيل إلى شيء غير قابل للتمثيل و لا يمكن سياقته بأي حال من الأحوال  داخل حدود الكتابة، أو بالاحرى، داخل حدود كل ما يظهره كمحتوى موضوعي مشابه للكتابة لدى الكل كالماء الذي، كما يقول سقراط في الندوة Simposio، يتدفق على طول خيط صوف من كوب ممتلئ إلى كوب فارغ. بالاضافة إلى ذلك، فإن نتائج هذا التألق لمعرفة مبهمة عبر الصورة المكتوبة للجهل الجوهري للشعراء والرواة، لها تأثير على المشهد السياسي: الشعراء والرواة، بأوهامهم الهذيانية، يغوون الجماهير وفناني المسرح، إلى درجة الايمان، كسقراط في مبدأ فيدرو Fedro الذي اعتبر أن الكيميرا la Chimera {الكائن الخرافي} وباقي كائنات الأسطورة “حقيقية”. هذا “الانجذاب” المشترك في الوهم يسمح بفرضية تكافؤ السياسية وخروج الشاعر والراوي عن ذواتيهما: “القوة الإلهية ” تجعل الكل يعتقد أن مخلوقات االشاعر الخرافية حقيقية،  قد يبدو الأمر محصورا، في الوهلة الأولى، في أجواء مرح الخيال الشعري، جو منفصل تماما عن الجدية المطلوبة من  حكومة المدينة  polis. حسن، وراء  مزحه، هذا الهذيان لكنه وهم الهي مشترك بين الجميع،  حسبه يكون الخيال الشعري”حقيقية”، قد تتم قراءته كصورة مكتوبة بطريقة أخرى لفهم الفضاء السياسي.  


[1] “من المحتمل-يكتب هانس كادامير Hans-Georg Gadamer، من بين مفسري القرن العشرين الأكثر توضيحا لأفلاطون، في كتابه أفلاطون والشعراء– لم يكن هناك فيلسوف آخر أنكر هكذا جذريا أهمية الفن وعارض بشكل مطلق الادعاء، هذا واضح بالنسبة لنا، بكونه وحيا لحقيقة عميقة  وسرية”. بالإضافة إلى ذلك فإن كدامير Gadamer يؤكد كذلك، مبرزا، كما سنرى، والأهم في ذلك، طبيعة هذا الهجوم المتناقضة “على الكنه الحامل للجوهر الإغريقي وإرثه التاريخي”: هكذا هجوم، ليس، في واقع الأمر، عملا “نابعا من انسان عقلاني مجرد من الحس الفني، بل هو عمل يتغذى بطاقات شعرية، ويستدعي السحر الشعري، الفاتن هكذا للالاف السنين”

[2] يتكلم ايريك الفريد هافيلوك Eric Alfred Havelock بوضوح عن “احتكار” ممارس  من طرف الملحمة الهوميرية للغة الثقافية الإغريقية، و، في المقام الأول، على تربية وتكوين المواطنين: ظرفيه تعيق بجلاء أية مقارنة مع الدور  الذي يلعبه الشعر، المحاصر في المجال “الجزئي” للفنون. حسب مجالية معرفة  غريبة عن العالم القديم. ظرفية  ستمارس من أجل الحداثة الغربية. هكذا يشرح هافلوك Havelock أيضا صلابة وأهمية الهجوم المحمول على القصيدة الهوميرية من أفلاطون،خاصة في الجمهورية.

Cfr. Eric Alfred Havelock, Cultura orale e civiltà della scrittura da Omero a Platone, Laterza, Roma-Bari, 1983. في تعليمه المتعثر تكوين الرجل اليوناني La formazione dell’uomo greco يؤكد ويرنير ييجر Werner Jaeger، بالإضافة إلى ذلك ، أن أفلاطون اندمج في تقليد عريق لمراقبة الشعر: كما كان هيرقليطس Eraclito و كزينوفنيس Senofane على سبيل المثال، ينتقدان بشكل لاذع، نفس الشيء سيفعله افلاطون في الجمهورية، المظاهر الاكثر انسانية للالهة الهوميرية . لكن، رغم السير على نفس المنهج وممارسة الحياد في تناول الأسطورة، فافلاطون، كما يقول ييجر  Jaeger ، “يذهب أبعد من ذلك”. “أفلاطون ليس فقط مراقبا عرضيا للتأثير السيء لأفكار  الشعراء على تفكير الشعب، لكنه يرى في قرارة نفسه أنه المجدد لكل نظام التربية والتكوين الإغريقين”.

Werner Jaeger, Paideia. La formazione dell’uomo greco. Volume secondo, La Nuova Italia, Firenze, 1978, cfr. soprattutto pp.363-395.

[3]  جوفاني ريالي Giovanni Reale، في كتابه، من أجل قراءة ثانية وتفسير صحيح لحوار “ايون“، الذي قدم ترجمته بالايطالية، يؤكد أن ما قاله هافيلوك Havelock بخصوص الجمهورية ينطبق أيضا على ايون، إعلان حقيقي للـ”كفاح الذي أعلنه افلاطون” يهدف إلى “الاطاحة بتلك الطريقة الشعرية المحاكاة في التفكير وفي الكلام. وإن لم يفهم هذا-بضيف ريال Reale- بشكل محتوم في تفسير ايون سيتم الابتعاد حتما عن الموضوع”. من بين أمثلة المفسرين المشهورين الذين انزاحوا عن هذا النموذج التفسيري، يذكر ريال Reale المفسركورت هيلديبراند Kurt Hildebrand،  الذي يكشف في أفلاطونه. كفاح الروح من أجل السلطة، Einaudi, Torino, 1947، يقرأ في ايون هجوم شن فقط على الراوي ،الذي يعتبر، حسب أفلاطون، مواجها للشاعر الحقيقي.” لكن كل نصوص افلاطون –يكتب ريال Reale- ضد هذه التفسيرات”.

Cfr. Giovanni Reale, Per una rilettura e corretta interpretazione del dialogo «Ione» saggio introduttivo a Platone, Ione

[4] كان من المعتاد الاعتماد على مجمل معرفة هوميروس، يضيف كدامير Gadamer، في كل المجالات {تماما كما كان الكتاب المسيحيون يأخذون كل شيء، فيما بعد، من الكتاب المقدس}. وهذا ما يؤكده  أيضا ييجر Jaeger، مسلطا الضوء على القيمة “التنظيمية” للكلمة الشعرية: “كبار الخطباء عادة ما يذكرون في المحكمة قوانين الدولة قبل وجود حكم مضبوط للقانون المكتوب؛ لكن إلى جانب هذه القوانين، وبشكل طبيعي، كانوا يذكرون حتى أقوال الشعراء”. نفسه بريكليس Pericle، في مدحه للديمقراطية الاثينية” يمجد القانون”غير المكتوب” المقولن في الشعر. حتى في المحكمة، إذن “فكلمة الشاعر قانون”. 

Cfr. Werner Jaeger, ivi, cit., p. 368.

[5]من أجل التعمق في الفرضية التفسيرية المعتمدة هنا على معرفة أخرى، التي من شأنها أن تنمو خارج الازدواجية المتناقضة روح-جسد عقلاني-لاعقلاني التي تعمل الكتابة الافلاطونية على إرجاع القارئ اتجاهها، كاشفة بذلك طبيعته التكوينية والسياسية.

Pietro Del Soldà, Il demone della politica. Rileggendo Platone: dialogo, felicità, giustizia, Apogeo Editore, Milano, 2007.