أزمنة النهضة العربية وأزماتها: هل تتكرر أم تتراكم؟

I – مقدمة:

       لا بد لدارس المسار التاريخي الذي مرت به المشاريع الفكرية التي توخّت إحداث تغييرٍ في واقع الحال. واقع المجتمع العربي، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى الآن، من أن يلاحظ أن مشاهد وسيناريوهات عديدة شهدها هذا المسار سواء على مستوى التغيير الذي حصل في الهياكل والمؤسسات والعمران، أو على مستوى التغيير الذي حصل في العقليات والذهنيات ومناهج التغيير.

       وفي رأيي، يمكن أن نلاحظ بيسر مدى التغيير الذي حصل في المستوى الأول، خلال قرن أو أكثر من التطورات والتحولات في الأنظمة السياسية والأحزاب والدول والاقتصاد وأنماط العيش. وهذا ما لاحظته جملة كبيرة من الدراسات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية الميدانية التي تناولت تطورات المجتمع العربي مُجتمعاً، أو في كل قطر.

       هذا في حين أننا نلاحظ بصعوبة، أو نكاد لا نلمس بشكل ملحوظ، مدى التغيير الذي حصل في الذهنيات والعقليات والمناهج، أو في محطات الفكر السياسي العربي الذي حمل مشروع التغيير أو واكبه كدعوة أو دراسة. ولعل السبب أن التغيير على المستوى المادي والمؤسسي والحدثي ممكن للمراقبة والملاحظة على المدى القصير في التاريخ. أما التغيير الذهني في الأفكار فلا يلاحظ إلا على المدى الطويل. ولعل هذا الفارق بين المستويين هو الذي أكّد عليه المؤرخ فرناند بروديل عندما اقترح على المؤرخ الذي يطمح إلى دراسة تطور الأفكار والتحولات الحضارية، دراسة “الفترات الطويلة” في أزمنة حضارة معينة أو منطقة ذات بعد جيو-حضاري معين، كالمتوسط الذي اتخذه بروديل موضوع دراسة شاملة فبحث في حضاراته وبشره وأفكاره وتحولاته خلال القرن السادس عشر الميلادي، زمن التحولات العالمية للعصر العالمي “الحديث”، حيث اعتبره قرناً طويلاً يفترض جزءاً من الخامس عشر ويتعدى على جزءٍ من السابع عشر. ولعل هذا هو حالنا، نحن العرب مع القرن العشرين الطويل الذي يقترض جزءاً من القرن التاسع عشر ويتعدى على جزء لا بأس به من القرن الواحد والعشرين.

       ولا شك في أن الحركة التاريخية العربية تفتقر إلى هذا النوع من الدراسات التي تبرز مشاهد التغيير في “بانوراما” شاملة للمنطقة العربية خلال القرنين الحاسمين الأخيرين من تاريخ العرب الحديث (التاسع عشر والعشرين). ونشدد على هذين القرنين كمدى زمني طويل لدراسة أحوال التغيير التي أصابت البنى العربية كدول محدثة (حادثة) ومؤسسات جديدة واقتصاد حديث وعمران جديد وأنماط عيش وأفكار، لأنهما في رأيي ورأي العديد من الدارسين – على ما أظن – يمثلان المدى الزمني الذي يمكن ملاحظة أوجه التغيير فيه لا على المستوى المادي والمؤسسي والاقتصادي فحسب، بل على مستوى الأفكار أيضاً، الأفكار كنتاج للتغيير وكدعوات لإحداث التغيير. فالأفكار في حركتها الجدلية هي نتيجة وسبب في وقت واحد، وهي في مجموعها ومسارها حركة نهضة مستمرة، لم تنقطع حتى اليوم. لكن عدم انقطاعها بل معايشتها في التاريخ الراهن كثنائيات صراعية: كعلمانية ودين، وشريعة ومدنية، ومجتمع أهلي ومجتمع مدني، يطرح علينا، سؤالاً أجدى بالبحث: هل تتكرر أزمنة هذه الأفكار أم تتراكم (وأعني بالتكرار أن الأزمنة وأفكارها تعيد نفسها كدورات، على نمط النموذج الخلدوني لمصائر الدول وعصبياتها المتشابهة) أو أنها تتراكم كماً لتولّد تغيراً نوعياً في الأنظمة والأفكار وأنماط العيش ومجتمع المواطنية، أي نقلةً من معطيات الاجتماع السلطاني – العصباني إلى شروط الاجتماع الوطني المدني. لا شك أن تراكماً وتغيراتٍ نوعية حدثت خلال أزمنة النهضة، لا أحداً يجادل في أمر تحققها، لكن ظاهرةً لافتةً هي ظاهرة “النفي السلبي” ما بين مراحل النهضة العربية ومشاريعها، وغياب الاستيعاب النقدي الإيجابي للخبرات والتجارب العربية وغير العربية.