في الحاجة إلى السياسة المقارنة

⁎ مصدر الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي

       تثير مسألة السياسة المقارنة (la politique comparée) لدى الكثير من الباحثين في مجال العلوم السياسية قدرا غير يسير من الالتباس بخصوص مضمونها الحقيقي وما به تختص باعتبارها جزءا من علم السياسة العام. هذا الالتباس نابع من كوننا قليلا ما نعثر على كتابات رصينة تهتم وتأصل لهذه المسألة. في الكتابات الفرنسية لم يبدأ الاهتمام الجدي بها إلا أواخر القرن الماضي وبداية القرن الجاري، وخير مثال:(Badie Bertrand et Guy Hermet: La politique comparée ;2001)  بينما عرف اهتماما أكبر بكثير في الجامعات الأمريكية والبريطانية، حيث عرفت ب: السياسات المقارنة (comparative politics) أو الحكم المقارن ( comparative Government).

     هذا المبحث العلمي لم يكن معروفا ولا منتشرا مثلما عرف: علم السياسة أو الفكر السياسي أو السوسيولوجيا أو الاقتصاد السياسي. إذ على مستوى آليات الاشتغال مثلا، نجدها توظف تقنيات التحليل الكمي وأنواع الحساب الإحصائي المطبقة بشكل خاص على مختلف أنماط السلوكات السياسية للأفراد و الفئات، مستندة في بلوغ أهدافها على منهجية حساب التغيرات (le calcule des Variations) المتزامنة ضمن الحالات ذات الخصائص المشتركة والقابلة للقياس، أو على العكس من ذلك، تتوخى حساب المتغيرات (le calcule des Variables ) التي تتمايز فيما بينها. لكن، تظل السياسة المقارنة معروفة على المستوى المؤسساتي عبر الشكل المتجدد لمقارنة أنظمة الحكم،  الذي يراد له تعويض منهجية القانون الدستوري المقارن، أو كل ما ارتبط بأشكال تنظيم وعمل الأحزاب السياسية.

    إن المقارنة في مجال السياسة تقوم مقام كاشف النور الذي يساعد على التعرف على الذات، وعلى معرفة الاخر كما هو في الواقع لا كما تتخيله ذات الباحث المتمركزة على نفسها، والتي غالبا ما تستمد تقييماتها وأحكامها من التفسيرات السوسيولوجية الجاهزة، التي يكون مصدرها الحس المشترك (Le sens commun) متمظهرة في صور مختلفة، حيث يتم التركيز على كل ما هو فولكلوري وغرائبي (Exotique) والترويج لصورة البلد مناط الدراسة من خلاله، أو يتم إقصاءه وعدم الاكتراث له بالمرة. هذا النوع من التعامل يؤدي بالباحث إلى عدم إدراك ما يشكل خصوصية النظام السياسي مناط الدراسة، مادام لم يستطع التوقف عنده ومقارنته بنظام سياسي آخر، لذلك يفوته إبراز جوانبه الخاصة أو الأصيلة دونما إسقاط تاريخي ولا إقصاء ثقافي.

    وتمكن السياسة المقارنة من تقديم تأويل “موضوعي” وإعطاء معنى للسياسي (Le Politique) في مجتمع ما، متحررا من أي تصور مسبق مبني على تفوق عرقي موهوم أو شمولية معرفية تسلطية، قد تعصفان بأي باحث في هذا المجال. وتمكنه من تبني تأويل معين، لأنه مهما كان الموضوع السياسي، فهو لا يقدم نفسه كمعطى من تلقاء نفسه، بل انطلاقا من الدلالات والتصورات التي يسبغها عليه الفاعلون السياسيون المعنيون. فطبيعة النظام السياسي والبرلمان والأحزاب وشكل التواصل السياسي المتبع في دولة ما، لا يمكن دراستها والتعامل معها في معزل عن عوامل التاريخ والثقافة اللذين لا محيد عن تأثيرهما، هذا التأثير هو ما يميزها عن المؤسسات الموجودة في دول أخرى.

     كما يؤدي ذلك بالباحث إلى تبني تصور نسبي للظاهرة السياسية وما يرتبط بها من مؤسسات وفاعلين، وفك الارتباط – إلى حد ما –  بما يحفل به القاموس السياسي من حتميات وكليشيهات. ذلك لأنه مهما بلغت النظريات السياسية من دقة وتجريد في طرحها، فهي تبقى بعيدة عن أن تصبح كونية مهما زعم أصحابها ذلك. إن الدراسات المقارنة تتوخى تفكيك شبكات “المعرفة اليقينية” التي غالبا ما يجنح اليها الباحثون في هذا المجال، عندما يستسلمون للرائج من البراديغمات المطروحة في “سوق الكتابة والنشر”، دون أخذ بعين الاعتبار للحد الأدنى من العلائق والحدود التي يمكن أن ترتسم في طريق البحث بين ماهو خصوصي وما هو كوني.

    هذا التصور النسبي إذا ما تم تبنيه من طرف الباحث في السياسة المقارنة، يمكنه من كشف حدود ما يظهر من تماثل متوهم بين دول ومجتمعات، كثيرا ما يعتقد أنها تندرج تحت يافطة واحدة: “النموذج الديمقراطي الأوربي” أو “الحداثة الغربية”…إلخ. لذلك فالعديد من مفاهيم العلوم السياسية، عند تشريحها نلفي أن بينها اختلافات وأنها تفهم بطرائق متمايزة في العديد من الدول الغربية نفسها. لذلك كان لإعطاء معنى موحدا إلى درجة التطابق لتلك المفاهيم وتعميمها على كل الدول يخفي الكثير من المغالطات المعرفية.

    كما أنه يمكننا القول بأن السياسة المقارنة تتوخى التحرر من أسمال المركزيات الثقافية والقومية، ومن كل توجه توتاليتاري، حيث أنه ببيانها لتجليات الاختلاف والتعدد، تكون قد أفلتت من حبائل الرؤية الأحادية للظاهرة السياسية. بيد أن تحبيذ هذه الرؤية في النظر لا يجب أن يسقط الباحث في فخ التحليلات الثقافوية والعلموية، التي قد تؤدي به إلى نوع آخر من “التوتاليتارية المعرفية”، ذلك أن التحليل الرصين من هذا المنظور ينبغي أن يظهر كيف أن مسالك التطور السياسي على اختلاف النظم السياسية الدولية، لا يعود إلى التباين في الأعراق أو القوميات، كما أنه لا يرجع إلى تباين درجات استفادتهم من مفاعيل التاريخ و قوانينه الكونية، بل يرجع بالأساس لكونهم قاموا باختيارات وتبنوا تصورات وأرسوا تقاليد سياسية وفكرية مغايرة، وكانت لهم ردود فعلهم الخاصة بهم إزاء الأحداث والوقائع التاريخية.

    ومن ناحية طريقة اشتغال السياسة المقارنة، نجد أنها أقرب إلى المنهج النقدي منها إلى المنهج الوضعي، فالباحث بهذا الخصوص ينزع إلى بذر الشك المعرفي وطرح الأسئلة ومقارنة الظواهر، أكثر من نزوعه إلى تشييد صرح معرفي مؤسس على تحاليل جامعة مانعة. ويعيب بعض الباحثين على المنهج المقارن أنه يتسم بميسم التأمل، أكثر من نزوعه التحليلي الأمبريقي، غير أن الواقع يكذب ذلك، حيث أننا غالبا ما نجد الدراسات المقارنة تتظافر فيها المعالجة الأمبريقية للمعطيات من جهة، والاستناد إلى تصور نظري معين من جهة ثانية.