التأثير والتأثير المضاد: الاستقطاب السياسي للأفراد داخل المجال الحزبي بالمغرب 1975-2022

نوقشت أطروحة الباحث سفيان جرضان يوم 3 أبريل 2023 برحاب كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية –السويسي- الرباط، ضمن فريق البحث في الأداء السياسي والدستوري، تحت عنوان “التأثير والتأثير المضاد: الاستقطاب السياسي للأفراد داخل المجال الحزبي بالمغرب 1975- 2022″. وقد أشرف على البحث الأستاذ غسان الامراني، وضمت لجنة المناقشة كل من السادة الأساتذة الآتية أسماؤهم:

الأستاذ عبد العزيز قراقي، أستاذ العلوم السياسية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية -السويسي الرباط- بصفته رئيسا للجنة. والأستاذ أحمد بوز، أستاذ القانون الدستوري وعلم السياسة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية -السويسي الرباط- بصفه عضوا ومقررا. والأستاذ عبد الحميد بنخطاب، أستاذ العلوم السياسية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية -أكدال الرباط- بصفته عضوا ومقررا. والأستاذ نور الدين جلال، أستاذ العلوم السياسية بالكلية متعددة التخصصات -تازة – بصفته عضوا ومقررا.

  وبعد المناقشة والتقييم نال البحث ميزة مشرف جدا مع التوصية بنشره.


مقدمة

  يعود التفكير في دراسة موضوع الأحزاب السياسية عبر مدخل الاستقطاب السياسي للأفراد بالأساس للعاملين التاليين:

  أولا: لمعرفة من هم هؤلاء الأفراد المتواجدون داخل الحزب السياسي المغربي وكيف يرون تجربتهم الحزبية. ثم قياس تأثير الأحزاب السياسية على النظام السياسي الذي اعتبر ممكن الأخذ به كعنصر أساسي للاشتغال على هذه الأطروحة، إذ حاولت في البداية أن تنطلق من فكرة مفادها أن التجربة المغربية وقع فيها خلط بين الدولة والسلطة والنظام السياسي، وبالتالي هذا الخلط صعّب على الأحزاب السياسية ممارسة السلطة بشكل اعتيادي كما وقع في التجارب الغربية.

  ثانيا: تبيّن الدراسات السابقة في موضوع الأحزاب السياسية بالمغرب أن الباحثين الأجانب هم من حققوا قصب السبق لمحاولة فهم وتوصيف هذه الظاهرة، وذلك عبر دراسة مرحلة النشأة، والاستثمار في ما أتاحته الأحداث السياسية بعد مرحلة الاستقلال لإنتاج طرح نظري يمكن الرجوع إليه لفهم مسار الأحزاب السياسية بالمغرب. انطلق الباحثون المغاربة في دراستهم عن الأحزاب السياسية من الإرث النظري الذي تركه الباحثون الأجانب، وقد اقتصرت معظم دراساتهم على الدراسات الكيفية باستثناء بعض الدراسات الكمية القليلة التي أنجزت في الآونة الأخيرة. لذلك ندرة الأبحاث الكمية في دراسات موضوع الأحزاب االسياسية حفزت بدورها الباحث على دراسة الحزب السياسي من الداخل بتتبع عينة من أعضائه والمسار الذي يرافقها طيلة مرحلة الانضمام للحزب، وبيان أيضا الكيفية التي يشتغل بها الحزب السياسي المغربي على تقوية نظام العضوية داخل هياكله.

  تبحث الأطروحة في موقع الأحزاب السياسية داخل النظام السياسي المغربي والكيفية التي تشكل بها هذا الأخير، والتأثير الذي يمكن أن تحدثه الأحزاب على هذا النظام، وذلك عبر مؤشر استقطاب الأحزاب السياسية للأفراد، من خلال الانطلاق من سؤال رئيس: إلى أي حد تعطي عملية استقطاب الأفراد داخل المجال الحزبي قوة للتنظيمات الحزبية تمكنها من التأثير على طبيعة النظام السياسي المغربي؟

 سيدفع هذا الإشكال في محاولة البحث عن إجابة له طرح تساؤلات أخرى فرعية، حتى تستكمل الدراسة كامل حلقاتها هي كالآتي:

  ماهي طبيعة النظام السياسي المغربي؟ وما هي محددات العمل الحزبي داخل النسق السياسي؟ كيف برز الحزب السياسي بالمغرب؟ هل مركز الأحزاب السياسية داخل النظام السياسي المغربي رئيسي أم ثانوي؟ ثم على ماذا استقرت وظيفة الأحزاب السياسية بالمغرب؟

  هل للاستقطاب السياسي للأفراد إلى التنظيمات الحزبية أثر إيجابي على الحزب؟ ما هي أنماط الاستقطاب ومداخل انتماء الأفراد إلى الأحزاب السياسية؟ ثم أين تتجلى مظاهر الانتماء الحزبي للأفراد؟ وما هي آثارها؟ كيف تبدو وضعية الفرد المستقطب داخل هياكل الحزب؟ ومن هم هؤلاء الأفراد المستقطبون؟ وماهي واجهات مشاركتهم داخل هياكل الحزب؟ ما هي الصعوبات التي يواجهها الأفراد المستقطبون داخل الحزب؟ هل تعني قوة الاستقطاب قوة الأحزاب السياسية؟

  بناء على الإشكالية الرئيسة للبحث؛ تتبنى الأطروحة فرضيتين أساسيتين هما كالآتي:

• تفترض هذه الدراسة بأن النظام السياسي المغربي لديه نمط متفرد للممارسة السياسية يعكس مسار تشكل الدولة، ويفرض على الفاعلين داخله الانضباط إلى القواعد الأساسية التي تحكم فلسفة اشتغاله، وتقوم هذه الفلسفة على إخضاع التنظيمات السياسية إلى توجهات الدولة ومسايرة خياراتها السياسية بالمشاركة والتنفيذ دون المعارضة. والتخلي عن السلطة لممارستها من قبل الأحزاب السياسية يعد أمرا صعبا إن لم نقل مستحيلا.

• تفترض هذه الدراسة بأن تداعيات الاستقطاب السياسي للأفراد داخل المجال الحزبي تعطي للأحزاب السياسية قوة تمنحها فرصة للتأثير على طبيعة النظام السياسي.

 يتأسس الإطار الموضوعي للبحث، على مقاربة النظام السياسي المغربي من خلال التحولات والتطورات التي عرفها في ظل المحافظة على قواعد اشتغاله، قبل وبعد ظهور الأحزاب السياسية. ثم التوجه نحو تفكيك مسارات الأحزاب السياسية بالتركيز على الكيفية التي تشتغل بها لضم الأفراد إلى صفوفها، بالموازاة مع تأثير هذا الاستقطاب على الحزب من الداخل تنظيميا على هياكله، ومن الخارج في إطار التأثير الذي يمكن أن يحدثه على طبيعة هذا النظام.

  اقتصرنا فقط على الأحزاب السياسية الأكثر حضورا داخل البرلمان التي استقرت تمثيلياتها على الحضور إما داخل الائتلاف الحكومي أو في المعارضة، وتتمثل هذه الأحزاب في كل من؛ حزب الاتحاد الاشراكي، وحزب الاستقلال، وحزب العدالة والتنمية، وحزب التقدم والاشتراكية، وحزب الاتحاد الدستوري، وحزب التجمع الوطني للأحرار، وحزب الحركة الشعبية، وحزب الأصالة والمعاصرة.

  تنطوي الدراسة على المزاوجة بين إطارين زمنيين، يرتبط الأول برصد أهم العوامل والأحداث التي شكلت خصائص النظام السياسي المغربي، وهي تبدو مهمة لفهم سياق نشأة الأحزاب السياسية والكيفية التي استقر عليها شكلها التنظيمي، لذلك كان حريا بنا العودة إلى زمن ما قبل الاستقلال، والبحث في أهم المحطات الأساسية التي تشكلت من خلالها الدولة المغربية، أي منذ تولي الأدارسة الحكم إلى الآن بدون أن نغوص بشكل معمق في التفاصيل، إذ يعكس هذا التاريخ سلسلة من الوقائع كان من الضروري المرور عليها والإشارة لها ولو بشكل مقتضب.

  بينما يعود الإطار الزمني الثاني، إلى طبيعة التجربة الميدانية الذي حاولنا عبرها البحث في مسارات الأفراد المستقطبين للأحزاب السياسية، إذ بناء على عينة المبحوثين والتي ضمت 160 فردا مستقطبا (ة)، يمتد النطاق الزمني لعملية الاستقطاب السياسي داخل المجال الحزبي لهؤلاء الأفراد من سنة 1975 إلى سنة 2022، وقد مكننا هذا النطاق الزمني من رصد أهم أنماط الاستقطاب السياسي ومسارات الأفراد المستقطبين داخل كل حزب، وشكل التحولات التي طرأت على تمثلاتهم للسياسة والعمل الحزبي.     

  تم الاعتماد ضمن هذه الأطروحة على طريقة مركبة لمعالجة إشكاليته، بواسطة المزج بين المنهج الكيفي والمنهج الكمي.

  أجريت الدراسة الكمية على عينة تتكون من مائة وستين مستجوبا (ة)، بواسطة تقنية الاستمارة، وقد حاولنا أن نراعي نسبة ثابتة من فئة المستقطبين، بحيث أخذنا عشرين فردا من كل حزب من الأحزاب الثمانية الممثلة في البرلمان.

  وظفت الدراسة تقنية المقابلة الموجهة بدليل سلفا على عينة منتقاة مكونة من 8 أعضاء قياديين، بمعدل عضو (ة) قيادي (ة) من كل حزب من الأحزاب الثمانية موضوع الدراسة، روعي فيها الوجود ضمن أعلى هيئة تقريرية في الحزب، وأيضا أن يكون لها مسؤولية تنظيمية وتأطيرية.

  الخلفية النظرية التي تؤطر هذه الأطروحة تنطلق من التقسيم الذي أقامه “موريس دوفيرجه” للأحزاب السياسية، والذي اتخذ شكلين “أحزاب الجماهير”، و”أحزاب الأطر”. وتعرج على فكرة “روبيرت ميشلز” التي تعتبر أن الأحزاب السياسية لم تساهم في إقرار الديمقرطية بشكل جيد، لكنها تميزت بأنها تنظيمات تمكنت من إحداث التنمية. ثم فكرة “جيوفاني سارتوري” بخصوص تفكيك الحزب السياسي من الداخل، و فكرة “مارتن ليبسيت” و”شتاين روكان” فيما يتعلق بالتمايزات الحزبية. لكنها تركز بالأساس على -أو بالأحرى تتبنى- نظرية “الكارتل” التي أتى بها كل “بيتر ماير و ريشارد كاتز” من خلال إبراز التحول الذي عرفته الأحزاب السياسية بانتقالها إلى “كارتيلات” سياسية. أي حدوث نوع من تغير في استراتيجياتها بالانتقال من الرهان على المجتمع والناخبين إلى الرهان على الدولة.

  تنقسم هذه الأطروحة إلى قسمين. يتضمن القسم الأول الكيفية التي استقر عليها الحزب السياسي المغربي داخل النظام السياسي المغربي تحت عنوان (محددات العمل الحزبي في النسق السياسي المغربي). في حين يركز القسم الثاني منها على تتبع عملية الاستقطاب السياسي للأفراد ومسار تجربتهم الحزبية وتداعياتها، وهو ما وسمناه بعنوان (عملية الاستقطاب السياسي للأفراد داخل المجال الحزبي: المسار، الآثر والتداعيات).

أولا: في مضامين القسم الأول

  يضم القسم الأول ثلاث فصول تسلط الضوء على مسار تشكل الدولة المغربية الذي يعود له الدور الكبير في تأسيس قواعد النظام السياسي المغربي، وموقع الأحزاب داخل النظام السياسي. لقد انبنت مأسسة النظام السياسي على عناصر دينية عقدية تبلورت في الزمن وتدعمت ركائزها منذ بداية الدولة الإدريسية. لكن الثابت في طبيعة هذا التأسيس أيضا الجانب القبلي الذي ظل أساسا حاضرا بامتياز ومهيمنا على مرّ التاريخ، لذلك تقرن الدولة المغربية بما هي دولة محيطة بمجتمع قبلي يتكون من وحدات عشائرية تلتقي في عقيدة توحدها، وتمهد الطريق لسلطة حاكمة مركزية تبسط سلطانها على عامة الناس.

  منطق القبيلة عادة ما يعارض قانون الدولة، لذلك وجدت الدولة المغربية نفسها أمام طفرة سياسية منذ منتصف القرن الخامس عشر ميلادي وتتمثل هذه الطفرة على الخصوص في محاولة انسلاخ الدولة عن محيطها القبلي وعملها على تجاوزه. إذ تمكنت الدولة من استهداف القبيلة وإضعافها بواسطة جهاز المخزن، فالنهج الذي سلكه المخزن مع القبيلة، هو نفسه الذي سلكه مع الزاوية، وقد قام هذا النهج على تفكيك القبيلة بالرهان على خلخلة بينتها وفق عمليتين: عملية مخزنة القبائل ثم عملية التحكم في حركاتها. وهذه الفترة بالذات اعتبرت على إثرها مؤسسة المخزن إطار إداري وتنظمي موكولة لها تسيير عمل الدولة.

  المرحلة التي دخل فيها نظام الحماية إلى المغرب تكتسي أهمية قصوى لمحاولة فهم طبيعة النظام السياسي المغربي، وذلك من خلال الدور الذي لعبته في بلورة معالم التغيير داخل بنية هذا النظام بإقدامها على إدخال مجموعة من المؤسسات الاقتصادية والسياسية والإدارية والإنتاجية عليه، كما سمحت الأفكار الليبيرالية التي جاء بها الفرنسيون بخلخلة منظومة المخزن التقليدية، فهي شددت على ضرورة اندماجه في شكل من أشكال الحداثة، لكن الأساسي ضمن هذا السياق هو بروز فكرة التنظيم الحزبي لدى قيادات الحركة الوطنية، الذي يمكن اعتباره سوى تعبير عن شكل من أشكال الحداثة السياسية.

  وعلى الرغم من المشروعية التاريخية للأحزاب السياسية، إضافة إلى الوظيفة التي يفترض أن يمارسها الحزب وهي ممارسة السلطة، بدت وضعية الحزب السياسي المغربي ثانوية داخل النظام السياسي والتي تعود أساسا لعاملين: الأول يرتبط بطبيعة الدولة المغربية واجترار الإرث التاريخي لها والذي يبقى من أبرز سماته البعد الديني، والثاني يعد امتدادا للعامل الأول، إذ الطبيعة الدينية لممارسة السلطة والبنية التقليدية كجزء من هوية الدولة المغربية ساهما في عزل مختلف القوى والفاعلين منذ بداية التأسيس الأولى بإزاحة دور الزوايا داخل بنية النظام السياسي من جانب، وتسييج المجال القبلي من جانب آخر بتخضيعه لمقاييس وقواعد النظام. ووضع الأحزاب السياسية لايمكن
أن نفصله عن هذا الإطار.

  هذا السياق حفزنا على الانطلاق من فكرة أن التواجد داخل المجتمع وتأطير المواطنين، هو ما يعطي للأحزاب السياسية مصداقية، وقوة ذات تأثير يجعل وضعها مهما وأساسيا. اكتشفنا أن هذه القوة وهذا التأثير بدا مشدودا أكثر إلى المشروعية التي استمدتها من كفاحها ضد المستعمر ونضالها من أجل الاستقلال ما جعلهما يضمحلان مع الزمن بسبب استراتيجية الحكم، ونتيجة لذلك توجهنا إلى فكرة أخرى وهي البحث في آليات الأحزاب السياسية لاستقطاب الأفراد كمؤشر لقياس عنصر تأثيرها على النظام السياسي من عدمه.

ثانيا: قسم ثاني يتابع أثر الاستقطاب

 بَيّن الوقوف مع ظاهرة الاستقطاب السياسي للأفراد داخل المجال الحزبي في القسم الثاني من البحث، أن استجابة هؤلاء الأفراد للانخراط في التنظيمات الحزبية تختلف من شخص إلى آخر. لكن الهوية المغربية الموحدة وانعدام تواجد أحزاب سياسية عرقية وهوياتية يشجع الأفراد على الانخراط في الأحزاب السياسية، وهذا المعطى يسهل على الأحزاب استقطاب الأفراد. إضافة إلى ذلك وجدنا في البعد الديني عاملا مهما، حيث يجعل من توظيفه في عملية استقطاب الأفراد إلى الحزب السياسي تتم بسهولة، وقد بدا هذا الأمر واضحا مع عينة حزب العدالة والتنمية، وهو الدور نفسه الذي تلعبه الأيديولوجيا بنسبة أكبر عند نفس الحزب وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. جنبا إلى جنب مع هاذين المعطيين ترتبط مداخل استقطاب الأفراد إلى الأحزاب السياسية بهيمنة شبكات العلاقات وعلى الخصوص العائلية، ثم التنظيمات الموازية باعتبارها البنك الاحتياطي لعملية استقطاب الأفراد، في الوقت التي تنحصر فيه المرجعية الحزبية بشكل ثانوي.

  وبينما تختلف مداخل الانتماء إلى الحزب السياسي من فرد لآخر، يعتبر الأثر الذي يتركه التحاقهم بالحزب ذو بعد إيجابي، حيث يجعلهم أكثر وعيا بفعالية العمل السياسي من باب التنظيمات الحزبية. ولئن كانت القاعدة توحي بأن الاشتغال داخل هياكل الحزب بصفة دائمة ومنتظمة يفسح المجال لتبوء سلم المسؤولية الحزبية فهي تبقى محدودة في دائرة الفروع المحلية للحزب مع بعض الاستثناءات، دونما أن تنصرف إلى المكاتب السياسية على المستوى الوطني، أو الاشتغال في إطار الدوواين التابعة للحزب لحظة تواجده في التسيير الحكومي، أو الاشتغال أيضا ضمن مكاتب الفرق البرلمانية، إذ بينت التجارب التي تابعناها في البحث أن هاتين المؤسستين، الوصول إليهما يخضع لعامل آخر ليس له صلة بالنشاط الدائم داخل الحزب إلا مع بعض الحالات القليلة، ومن تم بدت تجربة العضو داخل الحزب السياسي، تجربة محكومة بمآلات محدودة.

  تعزز الأحزاب السياسية نشاطها بالرهان على استقطاب أفراد ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، إذ تبدو فئة الموظفين في القطاع العام الفئة الأكثر حضورا داخل هياكل الأحزاب حسب عينة البحث التي اشتغلنا عليها، مع هيمنة واضحة لحاملي الشهادات العليا على غير المتمدرسين، خصوصا الأفراد المنضوين تحت شعب الآداب والعلوم الإنسانية خريجي كلية الحقوق. ولعل من بين الأسباب الأساسية التي تجعل هذا الاستقطاب يتخذ بعدين: سياسي واجتماعي، يعود بالأساس إلى الأثر الذي يتركه على تغيير تمثلاتهم، إذ يصبحون أكثر دعاة إلى الديمقراطية الداخلية للحزب باعتبار مسألة الديمقراطية في غاية الأهمية، وفي أن الاحتجاج بالنسبة لهم يعبر عن ممارسة للحقوق المدنية والسياسية.

خلاصات

  خلصت الأطروحة  إلى أن الأحزاب السياسية وإن تراجع دورها في الحياة السياسية فهي لا زالت تمارس وظيفة الاسقطاب وتنجح في عملية تحفيز الأفراد على الانخراط في صفوفها بما يجعلهم أكثر وعيا بالعمل السياسي وأكثر قابلية للمشاركة في الانتخابات، بيد أن هذا الاستقطاب لا ينعكس على سلوكها وخصوصا المتعلق بالمساهمة في التأثير على النظام السياسي، واتخاذ القرار، لأن هذا الأمر يعزى إلى ماتركه الإرث الدائم لطبيعة هذا النظام. وإذا أخذنا بطابع العلاقة التي تجمع الأحزاب السياسية بالدولة فهي توحي بأنها تدخل في دائرة أحزاب “الكارتل”، لكنها في الوقت ذاته تحاول أن تحافظ على صلتها بالمجتمع خصوصا في المحطات الانتخابية، ما يجعل هاجس الاستقطاب عندها حاضر.

  ومن الاستنتاجات التي خلصنا إليها في هذه الأطروحة، هي أن دراسة الأحزاب السياسية المغربية لا يمكن أن تقتصر على المقاربة المعيارية أو المقاربة الوظيفية فحسب، وإنما أيضا على المقاربة التاريخانية باعتماد التحقيب الزمني لمرحلة ما قبل الاستقلال والرجوع لأهم الأحداث السياسية، للوقوف بشكل مركز على أسباب المكانة الثانوية للأحزاب السياسية داخل النظام السياسي المغربي.

 كما أن محاولة “تنميط” الأحزاب السياسية المغربية تبدو جد صعبة إن لم نقل مستحيلة لأنه في إحدى اللحظات من الحياة السياسية إذا كان من الممكن إدخال الأحزاب المغربية في خانة “أحزاب الجماهير” خصوصا أحزاب الحركة الوطنية، فإن عملية التحول التي طرأت على هذه الأحزاب جعلت السمة الغالبة على سلوكها ترتبط بنمط “أحزاب الكارتل”، وتتمثل هذه السمة في انعدام التمايزات الإيديولوجية، والرغبة في المشاركة في الحكومة بشكل مبالغ فيه، والرهان على تدبير علاقة جيدة مع الدولة، وتفشي الاستقطاب المفتوح للأفراد داخل هياكلها.

 إلا أنه في نفس الوقت إلى جانب هذه السمات تركز الأحزاب المغربية على تنشئة قواعدها وممارسة الاستقطاب عبر المنظمات الموازية للحزب والرهان على البعد الإيديولوجي في الاستقطاب وعلى الخصوص حزب العدالة والتنمية وحزب الاتحاد الاشتراكي. وهذه الازدواجية في اشتغال الأحزاب السياسية المغربية جعلتنا نتحفظ على اعتبار الأحزاب السياسية المغربية “أحزاب كارتل” بامتياز رغم وجود سمات هذا النمط، وذلك لسببين:

الأول: تجسيد الأحزاب السياسية في الدول الغربية لنمط “الكارتل” جاء نتيجة تطور المذاهب السياسية الحديثة والكلاسيكية، ونتيجة تطور الاقتصاد وعلاقات الإنتاج، واختلال التمثيل السياسي وأزمة الديمقراطية الليبرالية. وهذه التطورات لم تحدث بنفس الطريقة داخل التجربة المغربية.

الثاني: الأحزاب السياسية المغربية داخل النظام السياسي المغربي لا تؤدي نفس الوظائف التي تقوم بها الأحزاب السياسية في التجارب الغربية، ولا يمكن أن تتيح لنفسها الاستيلاء على موارد الدولة أثناء وصولها للسلطة، وهو العنصر المميز “لحزب الكارتل”.

 لذلك يمكن القول إن نموذج الحزب السياسي المغربي يتأسس على المزج بين الأنماط المتعددة التي صنفت الأحزاب السياسية (حزب النخبة، حزب الجماهير، حزب الكارتل) مع غلبة نمط الكارتل، وهذا المزج لم يساهم بالبتة في  حدوث أي تأثير للأحزاب على الدولة والنظام السياسي.

 تشتتغل الأحزاب السياسية المغربية إذا، بوتيرة مستمرة يغلب عليها طابع الفاعلية والنشاط، والركود في بعض الأحيان، وهذا الأمر لا يسري على كافة الأحزاب. إذ تركز الأحزاب السياسية على صيغ وطرق متعددة للحفاظ على علاقاتها مع مناضليها مثل تنظيم الأنشطة والتكوينات وتأسيس جمعيات تابعة للتنظيم، ولأجل ذلك يصبح الأعضاء أكثر اندماجا في هياكل الحزب. كما تظهر مجموعة من الأحزاب اهتمامها وتركيزها على عملية استقطاب الأفراد وتقوية نظام العضوية، وتوضح هذه العملية أن العضو في بعض الأحزاب بإمكانه أن يتدرج في سلم العضوية من عضو عادي إلى عضو مسؤول. يمكن اعتبار حزب العدالة والتنمية، وحزب الاتحاد الاشتراكي، وحزب التقدم والاشتراكية، من بين أكثر الأحزاب التي تمارس عملية الاستقطاب بشكل مستمر، ويوجد بها أعضاء ملتزمون.

  الحزب المغربي يمكن اعتباره مؤسسة سياسية تشتغل وفق قواعد محددة لها هياكل وأعضاء وهيئة تقريرية وتهدف لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية هي: التأطير عبر ممارسة عملية استقطاب الأفراد للحصول على أكثر عدد من المقاعد لحظة الانتخابات، المشاركة في الائتلاف الحكومي، نيل رضا الدولة.