التكتلات الاقتصادية وإعادة رسم الخريطة السياسية العالمية

عاش العالم في ظل نظام توازن القوى انتعاشا كبيرا لمفهوم الحدود ومناطق النفوذ، وسادت المقاربة الواقعية بقوة الواقع، إلا أن ثلاثة وقائع هامة خلال هذه الفترة ستقلب هذا الواقع رأسا على عقب: أولها الثورة الكبيرة في عالم الاتصالات التي أفضت إلى تدفق المعلومات بشكل غير مسبوق بما جعل من “القضايا التقليدية للسياسة – من يحكم ووفق أية شروط – متعلقة بالفضاء السبريني cyberspace أكثر منها بالعالم الواقعي”، وثانيها، حالة الاعتماد المتبادل الكبير التي أصبحت تطبع العلاقات ليس فقط بين الدول بل بين كيانات دون- وطنية، وبين كيانات فوق-وطنية، وأخيرا ظهور جيل من المشاكل التي تعجز المقاربة المنفردة للدولة على إيجاد حل لها، كما أن تأثيرها يمس بالعالم بأكمله. وتحيل هذه المتغيرات الثلاث على الخلاصة التي أعطاها روبرت كوبر في وصفه لعالم ما بعد الحرب الباردة حيث يقول: “لم تتمخض نهاية الحرب الباردة عن إعادة ترتيب المسرح الدولي الذي يلي عادة حروب السيطرة فحسب، وإنما تمخضت أيضا عن تغيير داخلي. وحيث أن الحرب الباردة كانت معركة أفكار بقدر ما كانت معركة حرب بين جيوش، فإن تلك التغييرات لم تفرضها قوات احتلال وإنما تم إدخالها إلى حكومات راغبة، وإن كانت مشدوهة، من قبل جماعات من علماء الاقتصاد المدربين في مجال تكنولوجيا إدارة المعلومات، ومستشارين في مجال الإدارة وحلقات دراسية وبرامج مساعدة فنية”.

بناء عليه، فقد أدى تعقد التفاعلات على المستوى العالمي بفعل انتشار ظاهرة الاعتماد المتبادل إلى جعل العديد من المفاهيم التقليدية في العلاقات الدولية تكون موضوع مراجعة، مفسحة المجال لظهور أولويات جديدة حيث حل البحث عن الرخاء الاقتصادي والتوجه إلى إقامة تكتلات اقتصادية محل الجري وراء الهاجس الأمني والبحث عن تحالفات عسكرية (المطلب الأول)، اختلفت أشكالها وأهدافها وآليات عملها بحسب خصوصيات كل تكتل (المطلب الثاني).


ملحوظة: هذه الدراسة هي فصل من كتاب: النظام الدولي الراهن: أي ضمانات للأمن الدولي؟