الكوليرا والكورونا: من الحدود البيولوجية إلى العولمة الفيروسية

مقدمة:

منذ سنوات 1970، مع موجة التاريخ الاجتماعي والأنثروبولوجيا التاريخية، تعددت الدراسات عن الأمراض والأوبئة، من طاعون وكوليرا وجدري وتيفوس وملاريا، وغيرها، بقلم مؤرخين محترفين ساهموا في توسيع دائرة الفهم، بعدما كان هذا الموضوع حكرا على الأخصائيين في العلوم الطبية والبيولوجية. مثلا، لما ضربت الإنفلونزا الإسبانية العالـمَ سنة 1918، لاحظ الجميع كيف أن المرض عصف باليافعين والشبان بينما سلِم منه الكهول والشيوخ. وكان جواب المؤرخين محوريا بهذا الصدد، لما أبانوا عن أن وباءً مماثلا، وهو الإنفلونزا الروسية، كان قد اجتاح أوروبا قبل هذا التاريخ بثلاثين سنة (عام 1889)، مما دفع بالمختصين في الطب وعلم الأحياء إلى استنتاج ما مفاده أن الشبان في نهاية القرن التاسع عشر كانوا قد اكتسبوا من جراء ذلك مناعة ساعدتهم على مقاومة وباء 1918 وهم كهول وشيوخ. ثم إن الحجر الصحي الذي عاشه العالم في ربيع هذا العام (2020) وتسبب في قلق الأهالي في مختلف أنحاء المعمور له جذور تاريخية، إذ يعود إلى العصر القديم، مع النهج الذي رسمه الطبيب الإغريقي أبقراط.

 وقد تناولت هذه الدراسات التاريخية الوباء كظاهرة شاملة ذات تأثير على الاقتصاد والديموغرافيا والطبائع، وباعتباره عاملا محفزا على التطور العلمي. ومعنى ذلك أنها أكدت على آليات التحول التي نقلت العالم الغربي من المقاربة الغيبية إلى المعالجة العلمية، والتي جعلت من الطب “تقنيةً” تستند إلى الملاحظة والتجربة، ابتداءً من عصر الصناعة، حيث ما فتئت أمور الصحة تتطور إلى وقتنا الراهن.