اليوتبيا: بين الخيال المتعالي وتقدّم الإنسانية

تتمحور الإشكالية الرئيسية لهذه المقالة حول الإجابة عن سؤال  دور الكتابة اليوتوبية في التقدم الإنساني، هل كانت محفزة ومسايرة له أم كانت على العكس من ذلك مناقضة له؟

قد تبدو إثارة هذا التساؤل للبعض غريبة في حد ذاتها، حيث إن اليوتوبيا تحمل في أغلب الأحيان معنى إيجابيا؛ ففي الرأي المتداول، تعني اليوتوبيا رؤية تفاؤلية حيال العالم وتقترن بالخيال الجامح، المغالي في المثالية، إذ كيف يمكن لها أن تكون في تعارض وتضاد مع التقدم؟ وصحيح أيضا أن بعض الآراء  تضفي على اليوتوبيا أحيانا طابعا سلبيا، حيث تربطها بالخيال العقيم والنظرة الرومانسية الحالمة، البعيدة عن الواقع والعديمة الجدوى. وهذا المعنى هو المتداول أساسا في السجال السياسي بين الخصوم السياسيين.

تكتسي هذه المقالة راهنيتها من خلال إعمال النظر في مدلولات وسياقات ظهور اليوتوبيا ومقاربة  التصوريين المتعارضين حولها؛ الذي يرى أولهما اليوتوبيا حاملة لرؤية تفاؤلية مؤثرة تجاه مسيرة الإنسان وتقدمه، ويراها الثاني متعالية على الواقع، غير مكترثة بضروراته، مما يلفت النظر إلى أن الكتابة اليوتوبية تطورت بشكل ملحوظ في القرنين السادس والسابع عشر، وبدت في أغلب الأحوال، معارضة للتقدم الحضاري الذي كانت تعرفه أوروبا حينذاك؛ فقد بدت معارضة لحركة التصنيع، ولرأس المال، ولقوى الإنتاج الحديثة، ومناهِضة للتحولات الثقافية.

فكيف يمكن إذاً تفسير أو تأويل هذه المفارقة؟ إن الفرضية التي سنعتمدها في هذه المقالة هي التالية: أن اليوتوبيا برومانسيتها وخيالها الجامح، تحمل قوة دلالية ورمزية، قابلة لتفعيل الواقع والتأثير فيه، بل لتغييره تغييرا كليا وجذريا.

كيف ذلك يا ترى؟

في البدء، يتحتم علينا أن نقوم بتحديد المفاهيم واستخلاص معانيها بإرجاعها إلى أصولها وبداياتها الأولى. وبالتالي، يتعين ربط المفاهيم بتاريخيتها.