ضمانات المحاكمة المنصفة خلال حالات الطوارئ في ضوء مبادئ: الحق في عدم التقيد، عدم المساس والشرعية

مقدمة

تتساوق المعايير الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان سواء ذات طبيعة إعلانية أو ذات طبيعة اتفاقية/ معاهداتية، أو كانت مصنفة ضمن المعايير العالمية الأخرى، في صيانة ضمانات المحاكمة المنصفة وتشترك في ترسيخ قيم الإنصاف وحقوق الإنسان في الأنظمة القضائية. ولما كانت غاية هذه الضمانات تتمركز حول حماية الحقوق والحريات الأساسية في جميع الأوقات العادية أو الاستثنائية التي قد تطرأ بسبب حالات الطوارئ أو في سياق منازعات مسلحة؛ فإنها تنطبق _أي هذه الضمانات_ على جميع مراحل وإجراءات الدعاوى القضائية، سواء كانت سابقة على المحاكمة أو أثناءها أو بعد صدور حكم أو مقرر قضائي.

تتأصل هذه الضمانات الدنيا للمحاكمة المنصفة في مرجعيات معيارية كثيرة من القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الإنساني الدولي، وقواعد القانون الإنساني الدولي العرفي[1]؛ مثل: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[2]، المواد (7_8_9_10_11)؛ مبادئ بنغالور لمدونة السلوك القضائي[3]؛ والبند (5) من مجموعة المبادئ الأساسية  بشأن استقلال السلطة القضائية[4]؛ والمادتين (9_14) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية[5]؛ والمادة (8) من الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم[6]؛ والمادة (37) من اتفاقية حقوق الطفل[7]…إلخ

كما تتعزز ضمانات المحاكمة المنصفة من خلال التعاليق العامة الصادرة عن الآليات التعاقدية الدولية والإقليمية والتي تتخذ طابعا تفسيريا لمواد وبنود المعاهدات والاتفاقيات؛ إضافة إلى بعض السوابق القضائية الصادرة عن المحاكم الإقليمية لحقوق الإنسان وغيرها من الآليات الأخرى التي أرست اجتهادات قضائية وشبه قضائية حول القضاء الطبيعي تبوأت منزلة القواعد الذهبية في علم حقوق الإنسان.

ولما كان السياق العام لهذا البحث الموجز يتساوق مع انتشار وباء (Epidemic) كورونا كوفيد19، وصيرورته جائحة عالمية (Pandemic) بموجب إعلان رسمي صادر عن منظمة الصحة العالمية (OMS)، وبفعل التهديدات الحقيقية التي ترافق هذه الوضعية؛ فقد سارعت مجمل دول العالم إلى الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية بناء على معيارية اللوائح الصحية الدولية[8]. وبما أن حالة الطوارئ هي حالة استثنائية تهدد سلام الأمم واستقرارها، فإن الدول المعنية وهي تتجه إلى الإعلان عنها، تقوم بأجرأة حق عدم التقيد بالالتزامات الناشئة عن بعض العهود والاتفاقيات الدولية، مما يتسبب في بروز إشكالات عملية أثناء قيام الحكومات بتعليق أو تقييد الحقوق والحريات الأساسية، وبالتالي قد تمس هذه الممارسة ببعض ضمانات المحاكمة المنصفة، خاصة إذا تمت خارج مبدأ الشرعية.

وفقا لهذا السياق، فإن الإشكالية الجوهرية التي تسعى هذه الورقة البحثية إلى تقريب وجهة نظر حقوقية بشأنها، تتحدد في بيان مركز ضمانات المحاكمة المنصفة ضمن نطاق المبادئ الثلاثة، وبالأخص مبدأ حق الدول في عدم التقيد بالحقوق والحريات الناشئة في الالتزامات الدولية، ونظرا لما ينتج عن هذا المبدأ من سوء تقدير مضمونه أحيانا، أو مما يلحق به من ممارسات سياسية منحرفة عن السياقات المخصصة له أحيانا أخرى، أو عن التعسف الذي يجعله مشجبا تعلق عليه تبريرات ذات صبغة سياسية؛ ارتأينا أن نوضح نطاق ممارسة هذا الحق أثناء حالات الطوارئ وفي جدلية دقيقة مع مبدأ عدم المساس، ونظرا لما يكتسيه مبدأ الشرعية وسيادة القانون من أهمية قصوى حتى في الحالات الاستثنائية، فإنه لا يتحقق مبدأ الحق في عدم التقيد إلا بعد ولادة مبدأ الشرعية وفي تفاعل جدلي معه.  لذلك نتساءل: هل تصمد هذه الضمانات المعيارية في حالات الطوارئ الاستثنائية خاصة مع نشأة مبدأ عدم التقيد بالالتزامات الواردة في مجموعة من الاتفاقيات الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان؟


[1]– سنكتفي هنا بعرض بعض المعايير الدولية المتصلة بالقانون الدولي لحقوق الإنسان فقط، لأن المقام لا يسمح بالتطرق للمعايير الأخرى المتصلة بالقانون الدولي الإنساني وقواعد القانون الدولي الإنساني العرفي نظرا لشساعة المجال وتعقده.

[2]– اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 217 ألف (د-3) المؤرخ في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948.

[3]– مبادئ بنغالور لمدونة السلوك القضائي 2001، اعتمدته المجموعة القضائية بصيغتها المنقحة في اجتماع الدائرة

المستديرة لرؤساء المحاكم التي عقدت بقصر السلام في لاهاي، تشرين الثاني/ نونبر 25. 26/200.

[4]– اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المعقود في ميلانو من 26 آب/أغسطس إلى 6 أيلول/ديسمبر 1985 / كما اعتمدت ونشرت بموجب قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 40/32 المؤرخ في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1985 ـ 40/146 المؤرخ في 13 كانون الأول/ديسمبر 1985.

[5]– اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2200 ألف (د-21) المؤرخ في 16 كانون/ديسمبر1966 تاريخ بدء النفاذ: 23 آذار/مارس 1976، وفقا لأحكام المادة 49.

[6]_ اعتمدت بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 158/45 المؤرخ في 18 كانون الأول/ديسمبر 1990، ودخل حيز النفاذ في 1 تموز/يوليو 2003.

[7]_ اعتمدت وعرضت للتوقيع والتصديق والإنضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 25/44 المؤرخ في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989 تاريخ بدء النفاذ: 2 أيلول /سبتمبر 1990.

[8]_ اللوائح الصحية الدولية 2005، الطبعة الثالثة، منشورات منظمة الصحة العالمية 2016.