مستقبل النظام العالمي في ظل عولمة الأزمة

المقدمة:

الحديث فترات منتظمة وطويلة الأمد نسبيا من الهيمنة أو توازنات القوة الاستراتيجية. غير أن القاسم المشترك بين هذه الفترات المتتالية يتجسد في قيام ميزان القوة على المركزية الغربية وعلى مرتكزات فكرية أنجبت الإمبريالية والإهانة والاستعباد، ثم الاستعمار والوصاية والمعاهدات غير المتكافئة، وصولا إلى التبعية والتقسيم الدولي للعمل وإثقال كاهل الدول النامية والشعوب عامة بالديون.

منذ نهاية الحرب الباردة، دخل النظام الدولي منعطفا جديدا مع بوادر انبثاق التعددية القطبية، وقد بدأ العد التنازلي لنهاية الأحادية القطبية التي أعقبت سقوط جدار برلين مع الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 والتدخل الروسي في شرق أوكرانيا وسوريا وضم شبه جزيرة القرم سنة 2014، وبالموازاة مع اعتلاء الصين منزلة القوة الاقتصادية الأولى في العالم. مع انتخاب دونالد ترامب رئيسا لأمريكا في نونبر 2016، بدأت تتحدد ملامح التعددية القطبية من خلال تطورات عدة كان أبرزها تراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن ريادة النظام الدولي الليبرالي، ونشوب الحرب الاقتصادية والتجارية بينها وبين الصين.

في هذا السياق، تأتي جائحة كورونا لتزيح الستار بشكل كلي عن عمق الأزمة التي يمر منها العالم والتي يمكن تسميتها بعولمة الأزمة، وتمثل انعكاسا مباشرا لعولمة التهديدات العابرة للحدود التي بدورها لا تنفصل عن طبيعة الصراع السياسي الذي يجري داخل مجتمعات الحداثة وما بعدها، و يلقي بظلاله على السياسة الدولية وعلى الصراع من أجل القوة في العلاقات الدولية حسب تعبير هانس مورغانتاو.

يتمحور هذا المقال حول ارتباط عولمة الأزمة بأزمة العولمة، أو بالأحرى بالتداعيات الاجتماعية والثقافية لنموذج العولمة الذي يسود منذ انحسار وظائف الدولة الاجتماعية منذ منتصف سبعيينيات القرن الماضي.

بالاعتماد على المنهج البنيوي، سنعمد أولا إلى الكشف عن الأسباب البنيوية المسؤولة عن عولمة الأزمة على مستوى النظام الدولي، ثم بناء على مقاربة وصفية تحليلية صرفة، سنقوم بالكشف عن التوظيف السياسي لعولمة الأزمة داخليا و خارجيا. وفي الأخير، سنقف على استشراف مستقبل المواجهة من خلال سيناريوهين تتقاطع في جوهرهما السياسة الداخلية والسياسة الدولية انطلاقا من استقطاب بين منظورين متعارضين؛ الأول يتشكل من خليط من الليبراليين والمحافظين الجدد الذي يسعى إلى إعادة بناء المؤسسات الدولية على أساس سردية التعاون المثالي وفي العمق على إيديولوجية العالموية Mondialiste وتصور إقامة حكومة عالمية؛ أما المنظور الثاني فيلتف حول الحدود الوطنية وينكمش على مشاريع وطنية من أجل بعث نفس جديد في مفهوم السيادة وما يقتضيه من مراجعات كبرى.