تشريعات الزمن الوبائي المغربي: “الظروف الخاصة” وقيم الديمقراطية

مقدمة:

منذ أن تم تسجيل أول حالة إصابة بفيروس كورونا يوم 2 مارس 2020 في المغرب، تسارعت القرارات والإجراءات التي اتخذت من أجل محاصرة تبعات الأزمة الوبائية، حيث منع التجمعات الداخلية التي تزيد عن 50 شخصا، والتجمعات الخارجية التي تزيد عن 1000 شخص، تلاه إيقاف حركة الطيران مع بعض الدول ابتداء من يوم 10 مارس، وأصدرت وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي قرارا بموجبه تتوقف الدراسة الحضورية، مع استمرار الدروس عن بعد. غير أن تزايد عداد الإصابات محليا وعالميا، دفع إلى اتخاذ قرارات أكثر تأثيرا من قبيل إصدار وزارة الداخلية لبلاغ يوم 19 مارس يمنع خروج المواطنين إلا للضرورة القصوى مع التوفر على ترخيص يوزعه أعوان السلطة على المواطنين، أو تسلمه الشركات والمؤسسات، التي لم يشملها قرار المنع من المزاولة، على موظفيها ومستخدميها، كما يمنع خروج المواطنين بعد السادة مساء.

ونظرا لفُجائية الحدث، فإن مؤسسات الدولة وجدت نفسها في “تخبّط” على مستوى تشريع النصوص المواكبة للأزمة الوبائية، وطالما أن الطوارئ الصحية غير منظمة لا من الناحية الدستورية، فإن النصوص القانونية تستوجب توفر النص من أجل إحداث العقوبة، ولأنه لا يمكن لبلاغ وزارة الداخلية أن يحد من حرية المواطنين المحمية بنصوص الدستور والقوانين التنظيمية والعادية، فإن الحكومة تداركت الأمر من خلال مرسوم بقانون صدر يوم 23 مارس ونُشر بالجريدة الرسمية يوم 24 مارس، وتم إعلانه بنفس الجريدة في نفس اليوم[1].

قامت السلطات بالعديد من الإجراءات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، من قبيل: إصدار مناشير بناء على المرسوم تؤجل بموجبها انعقاد دورات المجالس المنتخبة، وتحدد المؤسسات التي تبقى مفتوحة وأوقات عملها، كما اتخذ البرلمان القرار بأن ينعقد بطريق تمثيلية، لكنه انقسم على نفسه بين مجلس النواب الذي اعتمد طريقة تفويض التصويت، ومجلس المستشارين الذي فضل التصويت الإلكتروني، وأعلن الملك عن إنشاء صندوق لتدبير جائحة كورونا، وتم تشكيل لجنة برئاسة وزير المالية أطلق عليها “لجنة اليقظة”، إذ توزّعت مصاريف هذا الصندوق – الذي اعتمد في مداخليه على تبرعات من مؤسسات رسمية ومقاولات خاصة وأيضا من خلال الاقتطاع الإجباري من أجور الموظفين والأعوان المستخدمين – على دعم وزارة الصحة ودعم الأسر المعوزة بمبلغ يتراوح بين 800 درهم و1200 درهم في كل شهر وطيلة ثلاثة أشهر، وأيضا أداء مبلغ 2000 درهم بالنسبة للمستخدمين الذي فقدوا عملهم، يتحصّلون عليها من خلال صندوق الضمان الاجتماعي.

هناك إجراءات أخرى تم اتخاذها أشار إليها الزملاء في الدراسات المنشورة في هذا الكتاب، وهناك الكثير من الأمور الإيجابية التي تم تسجيلها بخصوص تعامل المغرب مع الأزمة الوبائية، ولأن وظيفة الباحث الناقد ليست هي رصد ما هو إيجابي فحسب، وإنما أيضا البحث في مواطن النقص، وتسجيل الملاحظات على السياسات التي تم نهجها، من أجل التنبيه والتصحيح، وحتى لا تتكرر نفس الأخطاء في المستقبل، فإن هذه الدراسة تستهدف بالأساس، إبراز بعض القضايا التي لم يرَ صاحبها أن بعض مؤسسات الدولة قد توفّقت فيها، وسنشير إلى بعضها باقتضاب شديد، لأن هناك دراسات أخرى في هذا المؤلف، قد استفاضت فيها، بينما سنتحدث بتفصيل أكثر عن قضايا أخرى:

  • اعتماد بطاقة راميد من أجل تقدير مستحقي توزيع المساعدات على المواطنين أمر مستحسن، لكنه أثار بعض المشاكل، لأن هناك من لا يستحقها يتوفر عليها، وهناك من يستحقها لا يتوفر عليها أو لم يستطع ماديا تجديدها كل سنة، ما جعل العديد من الفقراء لا يتوصلون بأي دعم بينما أشخاص آخرون نالوا ما لا يستحقونه، لذلك ينبغي مستقبلا التجديد الكلي لبطاقات الراميد؛
  • اختيار الأنشطة التجارية التي تم إغلاقها تم بطريقة تقديرية، مما حرم المجتمع من مرافق حيوية هي أقل خطورة من مرافق أخرى، فمثلا ما الذي كانت ستشكله المكتبات من خطورة مقابل ما شكلته الأسواق؟ لقد احتاج العديد من المواطنين إلى الكتب والأدوات المدرسية وغيرها من الأمور لكنهم لم يجدونها. أيضا احتاج المواطن لمحلات بيع الأجهزة الإلكترونية ومحلات تصليحها، وإلا كيف كان سيتعامل مع التعليم عن بعد والعمل عن بعد، في حين لم يستطع التلميذ أن يجد شاحن الهاتف، ولم يستطع أستاذ أو عامل تصليح حاسوبه. ونفس الشيء بالنسبة لمحلات تصليح السيارات لأنها أقل خطورة من العديد من المصانع التي بقيت مفتوحة وكذلك المناجم؛
  • لم يتم اعتماد جهوية أو ترابية الإجراءات، بل تم التعامل مع جميع المناطق بنفس الإجراءات، والحال أن مبدأ الجهوية ينبغي العمل به في مثل هذه الظروف، لأن نفس الدواء لا يمكن وصفه لجميع المرضى، وإلا ما معنى إغلاق مكتبة في جهة أو إقليم فيه صفر حالة وباء (لا تُطبّق تونس والجزائر وألمانيا وأمريكا، مثلا، نفس الإجراءات على كامل التراب الوطني)، لذلك كان سيكون مفيدا لو تم التعامل بتمييز بين المنطق وتفريد الحالات دون اعتماد مركزية القرار[2]؛
  • كان سيكون مفيدا أكثر لو تم إشراك الفاعلين المباشرين قبل اتخاذ القرارات، لأن مقترحاتهم قد تكون أكثر فعالية؛ فمثلا، لا يمكن للقرارات التي اتخذتها وزارة العدل، أن تكون مفيدة من دون أخذ رأي القضاة والمحامين، لأن القضاء مرفق حيوي جدا ويحتاجه المواطن في أحلك الظروف (خاصة القضاء الإداري)، يحتاجه العامل المطرود من عمله والمواطن العالق في الخارج…ألخ. لذلك لا يمكن معرفة ما هي القضايا التي تكتسي الاستعجالية من دون إشارك المحامين، فإذا كان قد تبين لوزارة العدل أن القضايا الجنائية تكتسي طابع الأولوية، فإن هناك رأي آخر قد ذهب إلى أن قضايا أخرى رغم بساطتها قد تكون أولى؛
  • تم ضرب مبدأ تراتبية القوانين، عندما أجّل منشور لوزارة الداخلية صدر بتاريخ 22 أبريل 2020 انعقاد دورة ماي العادية لمجالس الجماعات، كما أرجأ منشور آخر صادر عن نفس الجهة بتاريخ 26 ماي من نفس السنة، انعقاد الدورة العادية لمجالس العمالات والأقاليم ومجالس المقاطعات، بدعوى احترام “التدابير التنفيذية التي يستلزمها حفظ النظام العام”، لكن هذه المناشير لم تنتبه إلى أن المواعيد المؤجلة، منظمة بناء على قوانين تنظيمية، لا يمكن أن يوقف العمل بها إلا بناء على قانون يوازيها في الشكل أو يفوقها. وقد كان يمكن اللجوء إلى حلول أخرى لتأمين استمرار أداء عمل هذه المؤسسات من قبِيل الانفتاح على ما توفره التكنولوجيا الحديثة، التي تتيح إمكانية انعقاد تلك المجلس عن بعد أو من خلال الحضور والتوزيع على غرف بنايات المجالس مما يضمن التباعد الاجتماعي، وإلا ما معنى الإبقاء على الأسواق التي تتميز بضيق مساحتها والمصانع المزدحمة بعمالها، بينما تم منع انعقاد مؤسسات منتخبة، وعليها واجبات دستورية إزاء الذين انتخبوها؟ لكن الذي حدث هو أنه بدل أن “يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية” كما هو منصوص عليه في الفصل 145 من الدستور، فإن العكس هو الذي حصل، حيث أصبحت المجالس المنتخبة هي التي تساعد السلطات، إذا ساعدتها، وإذا سُمح لها بالمساعدة. كما تم تسجيل أن الجهات أعادت جزءا من ميزانيتها لصالح السلطات المركزية من أجل تنفيذ قرارات مركزية، وهو ما يناقض المبدأ الدستوري المتمثل في “الجهوية”، وهكذا تكون الأزمة الوبائية قد ساءلت فعلا حقيقة الجهوية المتقدمة، مما ينبغي أن يكون محطّ نقاشنا وتفكيرنا في المستقبل أثناء الحديث عن الجهوية واللاتمركز.

إلى جانب هذه الملاحظات التي رأينا أن توثيقها يكتسي أهمية، وأكيد أن هناك ملاحظات أخرى سجلها غيرنا من الذين تفاعلوا مع الأزمة الوبائية من خلفية قانونية، هناك أيضا قضايا أخرى واكبت إجراءات محاصرة جائحة كورونا واستأثرت باهتمام الرأي العام، نرى أن نفصّل فيها أكثر  مادامت بهذه الأهمية، مع الإشارة إلى أن التعاطي معها سيكون من الناحية القانونية غالبا، دون إغفال التأثيرات السياسية والاجتماعية والقانونية، كما نسجل أن ما ندوّنه هنا هو إعادة صياغة لمواد كتبت تفاعلا مع واقعها، لذلك سيبدو عليها أحيانا طابع النقد، وهو أمر لم نشأ إبعاده عنها، ما دمنا في إطار مؤلّف يهتم بالتوثيق.


[1]– وإذا كانت أي اعتقالات أو توقيفات قد حدثت بموجب البلاغ، وقبل النشر في الجريدة الرسمية، فإنها قد حدثت خارج القانون، لأنه لا يمكن تعرضيهم الإنسان لعقوبات حبسية إلا بناء على القانون، بناء على ما ورد في الفصل الثالث من القانون الجنائي المغربي، حيث “لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون”، والقانون، كما هو معلوم بالضرورة، هو ما يصدر عن البرلمان، أو ما خول الدستور صراحة للسلطة التنظيمية اللجوء إليه عبر مرسوم بقانون، إذا كان البرلمان غير منعقد، بشطر عرضه عليه من أجل إقراره أو رفضه، مع ضرورة نشره بالجريدة الرسمية، وهذا ما أكدته العديد من الأحكام القضائية، نظير ما صدر عن الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى عام 1972. أما مخالفة ما ورد في بلاغ وزارة الداخلية، فهو ضمن نطاق البد 11 من الفصل 603 من القانون الجنائي، الذي يقضي بـ “يعاقب بغرامة من عشرة إلى مائة وعشرين درهما من ارتكب إحدى المخالفات الآتية: 11- من خالف مرسوما أو قرارا صدر من السلطة الإدارية بصورة قانونية، إذا كان هذا المرسوم أو القرار لم ينص على عقوبات خاصة لمن يخالف أحكامه”.

[2]  تم التراجع عن هذا التدبير بعد مرور أكثر من شهر من حالة الطوارئ الصحية، إذ عمدت الحكومة إلى تقسيم البلد إلى مطقتين 1 و 2، وتم تفريد الحالات. وقد كان سيكون الأمر مفيدا لو تم اعتماده منذ مرور الأسابيع الأولى من الحجر الصحي، واتضاح خارطة الفيروس.