الفضاء الرّقمي والحاجة إلى بارديغم قانوني جديد

أضحت عبارة الفضاء الرقمي L’espace numérique  مألوفة في الوقت الرّاهن، وباتت تُستخدم- من مختلف الباحثين- لوصف البيئة الإفتراضيّة للأنترنيت وبقية وسائل الاتصال الرقمية، إلا أن الفضاء الرقمي يتجاوز في بنيته وعناصره الحدود التي تمتد عليها شبكة الأنترنيت وبقية العوالم الإفتراضية المستحدثة، ليشمل جميع مكونات وفضاءات الاتصال السائدة في المجتمع الإنساني  بكافة مستوياته وأنشطته.

وقد توسعت الحدود الجيورقمية géonumérique للفضاء المعلوماتي، وتطاول بنيانه المفاهيمي حيث أصبح عبارة عن مفهوم يتضمن فهم عَالَمَيْ الإتصالات والمعلومات، والكائنات التي تُقيم في بيئتها الرقمية، وجميع الأنشطة التي يُمارسها الإنسان داخل هذا الفضاء.

ويسعى الفضاء الرقمي إلى مُحاكاة الفضاء الفيزيائي التقليدي ضمن بيئة إلكترونية رقمية تحتوي الرّموز التي يتطلبها الكيان الجديد، ويسري في هذا الفضاء سيل متدفّق من النبضات الرّقمية التي تنبعث وتتدفق من حشد هائل من الأدوات المعلوماتية والرقمية التي باتت تستوطن جميع بقاع عالمنا المعاصر.

وبالرغم من توهّم البعض في إمكانية تقدير حجم تأثير الفضاءات الرقمية – الشبكاتية – المحتمل على المشهد العقلاني للثقافة الإنسانية بمختلف فروعها، إلأ أن هذا الإعتقاد يظل من بقايا الغرور الإنساني التي أجهز عليها هذا الفضاء.

إذ أن القراءة المتأنية والعميقة لمفهوم هذا الفضاء، وخصائصه، ومعماريتيه الدّاخلية التي تؤثثه، ومحتوياته الخدماتية والوظيفية، والمساحات التي يتيحها لمستخدميه، وتفاعلاته الإبستمولوجية مع كل من العلوم الحقة  والعلوم الإنسانية، يُظهر بشكل جلي وواضح أن هذا الفضاء يتوسع ويتمدد بشكل سريع، وبنهج غير مرئي، وضمن نسيج دقيق لا يمكن توقعه وينخُر في أشدّ الأبنية المعرفية قوة وتماسكا.

هذه الورقَة، هي محاولة للتساؤُل عن أوجه العلاقَة الرابطة بين الفضاء الرقمي والقانون، تأثيرا وتأثّرا، وهي بشكل خاص، إعادة للتساؤل حول ما إذا كان البراديغم القانوني التّقليدي لازال متينا وصالحا لمقاربة الظواهر القانونية ذات الطابع الرّقمي أم أنه بحاجَة إلى تَجديد.

وقبل تفصيل الكلام عن أوجه هذه العلاقة، لابدّ  من مُحاججة فقهية مُبتَسرة نُشيدُ من خلالها إلى أن القانون ليس بناءا مُغلقا، وأنه يمتلك من المرونة ما يؤهلّه للتفاعل مع جميع  العوارض الطّارئة عليه سواءا كانت من داخله أو مُستقلّة عنه.

وكما يقول الأستاذ المشيشي العلمي : “فإن حيوية القانون تعتبر دائمة  permanente من خلال التطورات الجذرية المنصبة عليه منذ فجر التاريخ” ويعبّر المشيشي عن هذه الحيويّة بعلاقات التأثير والتأثر بين فروع القانون المختلفة، وبينها وبين غيرها من الأنساق السائدة في عصرها بــ : “الهيمنة المتواصلة للقانون التجاري على القانون المدني ووصولها إلى ظهور قانون اقتصادي مواز لقانون إنساني؛ ثم الهيمنة المتواصلة للقانون الجنائي وتأثيرها على مختلف حقول الشريعة العامة وفروعها؛ وأخيرا الهيمنة العنيفة للعلوم والتكنولوجيا على مختلف التشريعات”.

وليس هناك أي امتراء في وجود هذه الهيمنة الفعلية من قِبل التكنولوجيا الرقمية على مختلف فروع القانون، بالرّغم من بروز بعض المواقف الشّاذة التي تحاول التغافل عن هذه الحقيقة. وفي هذا السياق تطرح السيدة (Elisabeth guigou) سؤالا تشكيكيا حول ما إذا  أفلحت التكنولوجيا الرقمية في خلخلة المفاهيم الكبرى للقانون، حيث تجيب بالنفي قائلة: “إنّ التكنولوجيا الرقمية لم تؤّثر في الفروع القانونية الكبرى : كالقانون الدستوري، والقانون الجنائي..”.