العلمانيّة والدّولة المدنيّة: تواريخ الفكرة؛ سياقاتها وتطبيقاتها

الكاتب: مصطفى بوكرن
باحث مغربي، يحضر رسالة دكتوراه في أصول الفقه الإسلامي والدراسات المصطلحية للتراث. يشغل أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي بمدينة الجديدة – المغرب

إذا كان العلمُ مجموعة من القواعد؛ فإنّ القواعدَ بناءٌ مصطلحيٌّ متينٌ، ولبّ المصطلح مفهومه، لذلك؛ فالاشتغالُ البحثيّ في المفاهيم: هو اشتغال في المراحل الأولى لميلاد العلوم والنظريّات والأنساق، وإذا كانت أهميّة البحث تتجلّى في موضوعه؛ فإنّ ما يزيد من أهميّته: هو منهج دراسة المفاهيم الّتي تبدأ بالمنهج الوصفيّ، ثمّ التّاريخيّ، ثمّ المقارن، ومَنْ جمع بين هذه المناهج في بحث واحد، فقد حاز قدرة أكثر تفسيريّة في بيان المفاهيم وضعًا، واستعمالًا، وتطوّرًا.

إنّ بحث “العلمانيّة والدّولة المدنيّة” مغامرة معرفيّة؛ لأنّه ركّز على المفاهيم “الدّولة” و”العَلمانيّة”، وخاض هذه المغامرة، بدراسة المفاهيم، دراسة وصفيّة بالرّجوع إلى المعاجم اللّغوية والاصطلاحيّة، ثمّ الدّراسة التّاريخيّة برصد تطوّرها الدّلاليّ – قديمًا وحديثًا – ثمّ الدّراسة المقارِنة بين المجال التّداوليّ الغربيّ والمجال التّداوليّ الإسلاميّ.

تتجاذبُ هذا البحث علومٌ متعددةٌ؛ علم السّياسة، وعلم تاريخ الأفكار، وعلم تاريخ الأديان، والفسلفة السّياسيّة، وعلم دراسة التّطور الدّلاليّ للألفاظ، وبهذا، تجاوز الباحثُ تخصّصه الأكاديميّ (علم السّياسة)، ليحقِّق تواصلًا علميًّا مع تخصّصات أخرى، لحلّ إشكاليّة “العلمانيّة والدّولة المدنيّة”، من منظور “التّكامل المعرفيّ”.

1 – تعريف بالكتاب:

أصل هذا الكتاب، أطروحة دكتوراه، نُوقِشت بكلّيّة الحقوق جامعة القاضي، مراكش، المغرب، سنة 2015م، ونُشِر الكتاب من طرف مؤسّسة “مؤمنون بلا حدود” للنّشر والتّوزيع، بتوزيع من المركز الثّقافيّ للكتاب للنّشر والتّوزيع، المُوزِّع المعتمد في المغرب العربيّ، عدد صفحات الكتاب (552 صفحة)، الطّبعة الأولى، 2016م.

2 – عنوان الكتاب:

مصطلح الدّولة:

مفتاح الكتاب عنوانه، والعنوان يوحي للمُقبِل على قراءة الكتاب، أنّه إزاء كتاب يعالج إشكاليّة مفهوميّة، من خلال مصطلحيْن مركزيَّيْن؛ “الدّولة” و”العَلمانيّة”، لذلك؛ عَمِل الباحث عبد الرّحيم العلام في كتابه، على أنْ يُمهِّد للبحث، بتحليل للمفهوميْن المُكوِّنيْن للعنوان، وبيان الإشكاليّة الّتي يريد تناولها، عبر اقتفائه لمجموعة من المناهج المساعدة في إدراك المفاهيم وتذوقها.

أَوَّلُ مصطلح وضعه تحت مِحكِّ البحث المفهوميّ: مصطلح الدّولة؛ حيث بيَّن معناه اللّغوي في المعجم الغربيّ والمعجم العربيّ، وقارن بين المعنيَيْن، ثمّ انتقل إلى استعمالات لفظ (Etat) و(State) في الفكر الغربيّ، واستعمال لفظ الدّولة في الفكر العربيّ، وقارن بين دلالات الاستعمال، وسلَك نفس النّهج، في تحليله لمفهوم العلمانيّة.

وخَلَصَ الباحث إلى أنّ لفظ الدّولة – في معناه اللّغوي – يختلف بين المعجم اللّغويّ الغربيّ، والمعجم اللّغويّ العربيّ؛ فالأوّل معنى لفظ (Etat) و(State) يُفيد الثّبات والاستقرار والصّمود، والثّاني: معنى لفظ الدّولة، يُفيد التّحول، والدّوران، وعدم والاستقرار[2].

أمّا استعمال لفظ (Etat) و(State) في الفكر الغربيّ تاريخيًّا؛ فهو استعمال عريق، الشّيء الّذي نتج عنه التعدّد في الدّلالات – حسب المُستعمِل ومدرسته الفكريّة، وحسب تاريخ الاستعمال وسياقاته الثّقافيّة، والسّياسيّة، والحضاريّة، لذلك تعدّدت ماهيّات الدّولة الحديثة ووظائفها، من مناظير مثاليّة وماركسيّة وليبراليّة وقانونيّة[3].

أمّا استعمال لفظ الدّولة في الفكر العربيّ تاريخيًّا؛ فهو استعمال بدلالات أخرى مغايرة؛ دلالات سلطة الإكراه، والتّغلّب، والقهر، والثّورة، والانقلاب، والسّلالة الحاكمة، والحكومة القائمة[4]، ويشير الباحث إلى أنّ استعمال الفكر العربيّ – تاريخيًّا – للفظ الدّولة، يَسْتصحِبُ المعنى اللّغوي الّذي يعني؛ التّبدّل، والتّحوّل، وعدم الثّبات والاستقرار[5].

واستنتج الباحثُ: أنّ الاستعمالين مختلفان، فمصطلح الدّولة عند العرب، لم يتّخذ بعدُ مفهومه المؤسّسي السّياسيّ للسلطة المشروعة، عكس مصطلح (Etat) عند الغرب؛ لأن تاريخ العرب ليس نفسه تاريخ الغرب، ولا يمكن إسقاط سياق تاريخيّ على آخر؛ حيث يقول الباحث: “إنّ اصطلاح الدّولة في البلدان ذات الأغلبيّة المسلمة، لم يتوطّن إلّا بعيدًا عن المفهوم الحديث للدّولة (Etat)، فلو أُسقط هذا الأخير على الكيان السّياسيّ الّذي ساد نظام الحكم الإسلاميّ؛ فإنّنا سنكون أمام غياب الدّولة في تجارب الحكم في بلاد المسلمين […]، أمّا إذا أردنا الاقتصار على التّعريف اللّغويّ للدّولة؛ فإنّ ما شهده التّاريخ السّياسيّ الإسلاميّ، كان دولة حقًّا بكل ما تحمله كلمة دولة من معانٍ”[6].

مصطلح العَلمانيّة:

إذا كان مفهوم الدّولة – حسب الباحث – في الفكر العربيّ يتناقض مع فكر الغربيّ؛ فإنّ التّناقض يتّسع أكثر في بيان مفهوم العَلمانيّة.

عَمِل الباحث على بيان المعنى اللّغوي للألفاظ الآتية: (Saeculum/ القرن – الزّمن – العالم)، (Sécularisme/ العصر، الجيل، القرن، ثمّ العالم الزّمانيّ في تميّزه عن العالم الرّوحيّ)، (Laïcité/ النّاس)، (Laikos/ عامّة النّاس)، (Laïcisation/ العلمنة)، (Sécularisation/ الدّنيويّة)”[7].

ويُشير الباحث إلى إشكاليّة ترجمة “المُصطلح الوَافد” عند العرب؛ فمعنى (Sécularisme) و(Laïcité) في الفكر الغربيّ، اختير له من الألفاظ: (العِلْمانيّة: نسبة إلى العِلم)، و(العَلْمانية: نسبة إلى العَالَم)، و(الدّنيويّة: نسبة إلى الحياة الدّنيا)، و(الزّمنية: نسبة إلى الظّواهر المرتبطة بالزّمان)[8].

إذا كان الاختلاف وَارِدًا في المعنى اللّغويّ في أصل وَضعِه؛ فإن ترجمة العرب للّفظ زادت من تعقيد الاختلاف، ويتّسع الاختلاف بالنّظر إلى استعمال اللّفظ عند المفكرين الغربيّين والعرب، مما دفع الباحث إلى القول: “من الأفضل أن ندرس العلمانيّة في صيروراتها وتجلّياتها الآن وفي الماضي، ونقدّم مؤشّرات على محتوياتها، وأسسها، ومراميها، في مقابل التّركيز على التّحديدات الجاهزة”[9].

إنّ الباحث من خلال اختياره عنوان البحث بهذه الصّيغة “العلمانيّة والدّولة المدنيّة”، يرمي إلى الإعلان: أنّ بحثه يشتبك مع تناقضات وإشكاليّات متعدّدة، لا يمكن حلّها بالاقتصار على منهج واحد؛ كدراسة المفاهيم من خلال المعاجم اللّغويّة والاصطلاحيّة، والاقتصار على بعض النّصوص، والخلوص إلى تعريف محدّد للدّولة وللعلمانيّة؛ بل يقتضي البحث، خوض رحلة لرصد ميلاد المفهومين وتطوّرهما الدّلالي في سياق التّداول الغربيّ والعربيّ، والمقارنة بينهما، وتحديد المرحلة التّاريخيّة الّتي ظهر فيها إشكال “العلمانيّة والدّولة المدنيّة” – بدقّة – حسب المجالين التّداوليّين.

3 – محتويات الكتاب:

قدَّم الباحث تمهيدًا مفهوميًّا، لمصطلحيْ الدّولة والعَلمانيّة، والغرض من ذلك، ليس وضع تعريف نهائيّ باستقراء المعاني الواردة في المعاجم اللّغوية والاصطلاحيّة – العربيّة والغربيّة، ثمّ النّظر في أهمّ النّصوص الّتي عَرَّفت المصطلحين؛ إنّما الغرض: وضع القارئ أمام الإشكاليّة الكبرى للبحث، وهي تطوّر دلالات مصطلحيْ (الدّولة والعلمانيّة) في مَوْطِن النّشأة عبر السّياق التّاريخيّ والنّماذج التّطبيقيّة، وهو ما يتناقض مع التّجربة التّاريخيّة العربيّة والإسلاميّة، في إطار تفاعلها مع سؤال نظام الحكم وإشكاليّة فصل الدّينيّ عن السّياسيّ.

لذلك؛ اختار الباحث – ضمن محتويات الكتاب – أنْ يمضي برحلة رصْد تاريخيّ للعلاقة بين الدّينيّ والسّياسيّ في التّجربة الغربيّة المسيحيّة، وفي التّجربة الشّرقيّة الإسلاميّة، ثمّ عرّج على جدليّة الدّين والسّياسة، الّتي ميزتْ فكر الغرب والعالم الإسلاميّ، وممارساتهم في العصر الحديث.

و ينقسِم متن الكتاب إلى قِسمين:

القِسم الأوّل: الدّين والسّياسة في التّاريخين؛ الغربيّ المسيحيّ، والشّرقيّ الإسلاميّ، ويتكوّن هذا القِسم من فصلين؛ الفصل الأوّل: سياقات تشكّل المجال السّياسيّ الدّينيّ في بدايات الفترة الوسيطيّة؛ حيث أَوْضَحَ الباحث علاقة دين الدّولة الوثنيّ ودين الدّولة المسيحيّ بالإمبراطوريّة الرّومانيّة، وبيَّن وضع الإمبراطوريّة قبل تمسُّحها، أو توظيفها السّياسيّ للوثنيّة، ثمّ حدَّد بدايات تدخّل اللّاهوتي في السّياسيّ، ثمّ انتقل الباحث إلى التّاريخ الإسلاميّ لبيان علاقة الدّين بالسّياسة، انطلاقًا من التّجربة النّبويّة الّتي جمعت بين بناء الأمّة الإيمانيّة وتأسيس الدّولة الدّينيّة، إلى سقيفة بني ساعدة؛ حيث برز إشكال تأسيس الدّولة بين الدّين والسّياسة.

أمّا الفصل الثّاني: فهو رصد للتّحولات المحوريّة في منتصف الفترة الوسيطيّة، ومحدّداتها اللّاهوتيّة والفكريّة؛ حيث أوضح الباحث أسباب التّحولات في العلاقة بين الدّين والسّياسة، في مجال التّداول الغربيّ، انطلاقًا من التّوافق إلى التّوتر، ثمّ انتقل إلى مجال التّداول العربيّ، انطلاقًا من الخلافة الدينيّة إلى الخلافة السّياسية، مُذيِّلًا ذلك، بتحليل للفكر اللّاهوتيّ والفسلفيّ، الّذي تناول علاقة الدّين والسّياسة في السّياقين الغربيّ والإسلاميّ.

استنتجَ الباحثُ في رصده التّاريخيّ لطبيعة العلاقة بين الدّين والسّياسة، في السّياقين؛ الغربيّ المسيحيّ، والشّرقيّ الإسلاميّ:

– واجهتْ الدّيانة المسيحيّة تحديَّيْن اثنيْن: الأوّل؛ وجود إمبراطوريّة رومانيّة قويّة، تمتلك كلّ مقومات النّفوذ والبقاء، والثّاني: الوثنيّة المُتحكِّمة في كلّ عقول رعايا الإمبراطوريّة[10]، واختار رجال الدّين ورجال السّياسة في الإمبرطوريّة الرّومانيّة التّوافق، بعد أن اتّضح لهم أنّه من المستحيل أن ينهي أحدُهما وجود الآخر[11]، وتعود أسباب التّوافق إلى أنّ المسيحيّة لمْ تبالِ نسبيًّا بقضايا الحُكْم والسّياسة، ولَعِبت الكنيسة دورًا مُهِمًّا بعد ذلك، في الدّعوة إلى طاعة الإمبراطور، من خلال اجتهادات القدّيس أوغسطين[12]، إلّا أنّ حالة التّوافق لمْ تدُم طويلًا فانقلبت الكنيسة على الدّولة[13]، وظهرت دعوات – بعد ذلك – إلى التّحرر من السّلطتين الزّمنية والرّوحيّة، على يد ألبير الكبير ومارسيلوس[14].

– أما الدّيانة الإسلاميّة؛ فلمْ تواجه سلطة قويّة؛ بل واجهت قبائل قويّة تعبد الأوثان، وهذا ما ساعد الإسلام على الانتشار[15]، وعرفتْ العلاقةُ بين الدّين والدّولة انصهارًا في التّجربة المحمديّة؛ لأنّ غاية النّبوة كانت تقتصر على تيسير انتشار الدّعوة، وتقويّة رابطة الأمّة الإيمانيّة[16]، إلّا أنّه بعد وفاة النّبيّ محمّد لمْ تستطع الخلافة، التّأسيس لعلاقة مستقرّة بين الدّين والسّياسة؛ حيث بدأت بانقلاب الخلافة إلى مُلك، وصولًا إلى اللّحظة السّلطانيّة، ودخول سلالات جديدة إلى السّلطة السّياسيّة الإسلاميّة، انتسبت إلى السّنّة الأتراك تاررة، وتارة إلى الشّيعة الفرس[17]، واختار فقهاء الإسلام – في البداية – مواجهة الطغيان السّياسيّ، لكنّهم – في النّهاية – وجدوا أنفسهم ينظِّرون لفقه المُتغلِّب[18]، واتّجه كُتَّاب الآداب السّلطانيّة إلى استدعاء روح التّجربة الفارسيّة السّاسانيّة، ممارسةً وقولًا، لكنّ الحضارة الإسلاميّة، عرفتْ جانبًا مُشرِقًا يتمثّل في الفسلفة الإسلاميّة؛ حيث استطاع ابن رشد أن يُفكِّر من خارج الأنساق المتوارثة[19].

في القسم الثّاني من الكتاب: اهتمّ الباحث بجدليّة الدّين والسّياسة الّتي ميّزت فكر الغرب والعالم الإسلاميّ – في العصر الحديث – وممارساتهم، ويتكوّن هذا القسم من فصلين:

الفصل الأوّل: من الإصلاح الدّيني إلى الدّولة المدنيّة العلمانيّة في السّياق الغربيّ.

أوضح الباحث عوامل تشكُّل منظور مغاير للعلاقة بين الزّمانيّ والدّينيّ، ودور الفكر والفسلفة السّياسيّة في الإصلاح السّياسيّ والدّينيّ، والعوامل الاقتصاديّة، والعلميّة، والسّياسيّة لنشأة العلمانيّة، ثمّ انتقلَ الباحث إلى بيان النّماذج الدّراسيّة لتطبيقات علمانيّة في الدّول الغربيّة، بمقاربة عامّة لواقع الدّين والسّياسة في بعض الدساتير العالميّة، ومقاربة سوسيو – تاريخيّة وسياسيّة لنماذج دراسيّة.

أمّا الفصل الثّاني: الدّينيّ والسّياسيّ في المجال التّداوليّ الإسلاميّ الحديث، فأوضح فيه الباحث علاقة الدّين والسّياسة في المجالين العثمانيّ – التّركيّ والصّفويّ – الإيرانيّ، ثمّ رصدَ التّطور من الخلافة إلى الدول العلمانيّة في المجال الأوّل، ورصدَ التّطور من المشروطيّة إلى دولة ولاية الفقيه في المجال الثّاني، وانتقل الباحث إلى تحليل وضع العرب بين رهان بناء الدّولة، وإكراهات النّموذج، ببيان العلاقة بين الدّين، والسّياسة، والعلمانيّة في الفكر النّهضويّ، والدّولة بين العلمانيّة، والمدنيّة، والدّينيّة.

واستنتج الباحث – في رصده لجدليّة الدّين والسّياسة، الّتي ميّزت فكر الغرب والعالم الإسلاميّ في العصر الحديث وممارساتهم – الآتي:

– تميّز العصر الحديث الغربيّ، ببروز الدّولة الوطنيّة؛ أي الدّولة، على أنّها كيان سياسيّ واجتماعيّ مستقلّ، بعد مسار تاريخيّ من الإصلاح الدّينيّ والسّياسيّ، رام التّخلص من الحكم المطلق، والحقّ الإلهيّ للملوك[20]، وساهمت الفلسفة السّياسيّة – في عصور النّهضة والأنوار – في إبداع منظور مغاير لعلاقة الدّين بالسّياسة، وأثّر العلم أثرًا بالغًا في سيرورة العلمنة، كذلك، الثّورة السّياسيّة والتّطور الاقتصاديّ[21]، وأثر هذا المسار التّاريخيّ في مضامين دساتير الدّول الغربيّة، لأنّ هذا التّاريخ يُعدُّ بمثابة البنيّة العميقة للنّظرية العَلمانيّة[22].

– الدّعوة الدّينيّة بالمفهوم الخلدونيّ، ساهمت في تقوية “العصبيّة”، واستطاعت – بذلك – بناء الدّولة، في التّجربة العثمانيّة والصّفويّة[23]؛ فالعصبيّة: هي المُحرِّك الأوّل للعامل البشريّ، والدّعوة الدّينيّة تأتي في المرتبة الثّانية، غير أنّ الدّعوة تحوّلت إلى عنصر أساسيّ[24]، وبعيدًا عن الفروقات بين المذهبين؛ السّنّي والشّيعيّ، إلّا أنّ النّتيجة: هي أنّ هناك – دائمًا – فهومات وتأويلات من شأنها وضع السّلطة الرّمزيّة، الّتي يتمتّع بها الدّين في خدمة السّلطة السياسيّة، وطموحاتها التّوسعيّة[25]، وقد تحوّلت التّجربة التّركية الحديثة إلى العلمانيّة، وتلوَّنت بألوان اللّائكيّة الفرنسيّة، أمّا الأمبراطوريّة الفارسيّة فقد تحوّلت إلى دولة عرقيّة ناطقة بالفارسيّة[26].

– لم تنشأ الدّولة العربيّة بفضل مسلسل طبيعيّ، يراعي ظروف الشّعوب وحاجاتها السّياسيّة والهويّاتيّة؛ بل خُلِقت في عوامل من أهمّها “الاستعمار”[27]؛ فالخارج هو مُهندس هذه الدّولة الوليدة[28]، وإنّ الدّولة – بمفهومها الحديث – ظلّت غائبة عن “الوطن العربيّ”[29]، من هذا المنطلق؛ فالعرب يعيشون حيرة تتعلّق بتحدّي بناء الدّولة، وإكراهات النّموذج، واشتداد الصّراع حول مرجعيّتها؛ بين من يريدها دينيّة، ومن يريدها علمانيّة أو مدنيّة، حَدَثَ ذلك بين أقطاب فكر النّهضة، ولازال الصّراع مستمِرًّا إلى غاية الآن[30].

4 – خلاصات البحث:

استطاع الباحث أنْ يُقدِّم نموذجًا بحثيًّا في تناول أعقد المفاهيم الّتي ترتبط بالمصطلحات الوافدة، في مجال التّداول العربيّ والإسلاميّ، فلمْ يقارب المفاهيم من منظور لغويّ مصطلحيّ محض؛ بل قاربها برصد التّطور الدّلاليّ لهذه المفاهيم في سياقاها التّاريخيّ، ضمن مجالها الحضاريّ، ليتضح أنّ مصطلحي الدّولة والعلمانيّة تتعدد دلالاتهما، نظريًّا وتطبيقيًّا، إلى درجة التّعقيد والتّناقض، لذلك؛ يمكن اختيار أهمّ الخلاصات البحثيّة الّتي وصل إليها، وهي كالآتي:

– إنّ مضمون العلمانيّة نَحَتهُ التاريخ، عبر تراكم من الأحداث وطبقات من الفكر؛ فهي تواريخ وحضارات وثقافات، وليست كلمة تلوكها الألسن أو تحفل بها القواميس[31].

– هدفتْ العلمانيّة – في نشأتها – إلى التمييز بين الميدان المدنيّ والشّؤون الرّوحيّة لمعتنقي الدّيانات، والحدّ من التأويلات الدّينيّة الرّامية للهيمنة على الشّؤون الحياتيّة كافّة، ولم تنشأ لتعادي الدّين[32].

– من أجل بناء الدّولة، لا يمكن الاقتصار على التّحديث في الجانب التّقنيّ، في مقابل غياب الحداثة؛ فالنّظام الدّيمقراطيّ لم يكن لينجح لولا منعطف الحداثة[33].

– إنّ التّقليد والمحاكاة واستيراد النّموذج الغربيّ، غير ممكن من عدّة أوجه، فالأفكار الّتي طرحها الإصلاح الدّينيّ المسيحيّ، كثير منها أصبح مُتجاوَزًا اليوم، كما أنّ ما يحدث في مجال سياسيّ معين، لا يمكن أن يُستَردّ ويُنزّل ضمن بيئة مغايرة، ولكن الهدف: هو استعادة المنهج لا المضامين، لأنّ التّجربة برهنت أنّ الغلبة هي لمنهج الملاءمة، والتّفاهم، والتّسامح[34].

5 – ملاحظات نقديّة:

عند الانتهاء من قراءة هذه الأطروحة الجامعيّة، يتّضح لقارئها مقدارًا الجهد الكبير الّذي بذله الباحث في جمع كلّ النّصوص الّتي تتناول مصطلحي العلمانيّة والدّولة، وإحصاءها، واستقراءها، لفظًا ومفهومًا وقضايا إشكاليّة، في سياقين مختلفين؛ السّياق الغربيّ المسيحيّ والسياق العربيّ الإسلاميّ.

من النّاحية المنهجيّة، تلزم دراسة المفاهيم الباحث أن يحترم التّرتيب المنهجيّ، وأن يعطي لكلّ ذي منهج حقّه، بداية من دراسة المفهوم بالمنهج الوصفيّ؛ أي الكشف عن الواقع الدّلاليّ لمفهوم في كتاب ما أو عند مؤلِّف ما، ثمّ دراسة المفهوم بالمنهج التّاريخيّ؛ أي رصد التّطور الدّلاليّ للمفهوم، وذلك بالتّرتيب التّاريخيّ للنّصوص الأقدم فالأقدم، ثمّ بعد أن يدرس الباحث النّصوص دراسة نصيّة وتاريخيّة، انتقل إلى منهج المقارنة بين سياقين مختلفين، يشتركان في موضوع معيّن.

ولكن نظرًا إلى ضخامة النّصوص المحصاة، في السّياقين الغربيّ المسيحيّ والعربيّ الإسلاميّ، لم يَلتفِت الباحث إلى الدّقة في التّرتيب التّاريخيّ للنّصوص، وذلك بتحديد اسم المستعمِل للمفهوم، وتاريخ الاستعمال إن وُجد، وإنْ لم يوجد يُكتفى بتاريخ وفاة المُستعمِل، بمعنى آخر؛ أن الباحث لم يقم بذلك العمل التّحقيقيّ للنّص المُحصى الّذي يتضمّن المفهوم، بنسبته إلى قائله وتوثيق مَتنه، كلّ ذلك؛ من أجل الوصول إلى أول من استعمل مصطلح العلمانيّة لفظًا، ثمّ مفهومًا، ثمّ قضايا إشكاليّة، ولم يتتبّع التطوّر الدّلاليّ للمفهوم حسب كلّ فترة تاريخيّة، بتحديد اسم المُستعمِل وسياق الاستعمال، وبيان الإضافة الجديدة على مستويي اللّفظ والمفهوم؛ ففي فترة زمنيّة، قد يكون للّفظ مفهومًا واحدًا، وفي فترة أخرى يتعدّد، ثمّ في فترة زمنيّة قد يأخذ نفس المفهوم اصطلاحًا، وهذا عمل جبّار، يتطلّب مشروعات علميّة ضخمة، لدراسة المصطلحات دراسة تاريخيّة؛ لأنّ ما سيواجه الباحث من إشكاليّات من قبيل تحقيق النصّ، إشكاليّات عويصة فيما يتعلّق بالتّراث العربيّ.

أمّا السّياق الغربيّ؛ فالإشكاليّات البحثيّة معقّدة من هذا الجانب، ربّما تمثّل إشكاليّة ترجمة النّصّ على مستوى اللّفظ والمفهوم أبرزها.

لهذا؛ يستحقّ هذا الكتاب التّنويه بقيمته، لأنّه وضع صورة إجماليّة لمشكلة معرفيّة معقّدة، هي مشكلة العلمانيّة.


[1]– عبد الرّحيم العلّام: باحث من مواليد قرية صغيرة في نواحي مدينة الجديدة، المغرب، سنة 1980م، حاصل على الدّكتواره في القانون الدّستوريّ وعلم السّياسة. نشر العديد من مقالات الرّأي في جرائد مغربيّة- ورقيّة وإلكترونيّة- وشارك في عدة ملتقيّات وندوات علميّة. صدر له كتاب: “الدّيمقراطيّة في الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة جغرافيّة مذهبيّة”، 2014.

[2]– ص 56.

[3]– ص 26.

[4]– ص 58.

[5]– ص 58.

[6]– ص 501.

[7]– ص 62.

[8]– ص 66.

[9]– ص 71.

[10]– ص 124.

[11]– ص 125.

[12]– ص 236.

[13]– ص 237.

[14]– ص 237.

[15]– ص 124.

[16]– ص 125.

[17]– ص 238.

[18]– ص 238.

[19]– ص 239.

[20]– ص 407.

[21]– ص 408.

[22]– ص 408.

[23]– ص 489.

[24]– ص 490.

[25]– ص 490.

[26]– ص 491.

[27]– ص 491.

[28]– ص 492.

[29]– ص 493.

[30]– ص 494.

[31]– ص 496.

[32]– ص 498.

[33]– ص 504.

[34]– ص 506.