مدخل إلى الأنسنة الإسلامية

    صدر حديثاً للباحث عبد الله إدالكوس كتاباً بعنوان “مدخل إلى الأنسنة الإسلامية”، يتساءل فيه المؤلف عن إمكانية إنجاز نهضة فكرية إسلامية تنتصر للأبعاد الإنسانية، وتبشر ببناء إنسان آمن جديد، من خلال استثمار المنجز المعرفي المعاصر لتجديد الرؤى والمدركات بما يتوافق وروح العصر، ومتفائلا ببزوغ إمكان حضاري يؤهله لبناء أنسنة جديدة تعالج اعطاب النماذج التاريخية التي بدأت بالتبشير بمركزية الإنسان وانتهت الى موته وتفكيكه، من هنا يقترح الكتاب تقويم هذا المسار التاريخي عن طريق ما يسميه بـ”الأنسة الإسلامية”، والتي لا تعني بالضرورة القطيعة مع ما سبقها بقدر ما هي استلهام للخبرة البشرية واستثمار للقواسم المشتركة في العلم والمعرفة والعمران والمصلحة والمصير، واستنادا في الوقت ذاته إلى أصول الدين وكلياته.

    جاء الكتاب في حوالي مائتي صفحة، وهو من منشورات مركز ابن غازي للدراسات الاستراتيجية، ودار النشر أفريقيا الشرق، ويتضمن بابين وأربعة فصول رئيسة مع تمهيد وخاتمة، تدور في مجملها حول الإمكانات الممكنة لبناء نزعة إنسانية جديدة تتجاوز النزعة المادية الحداثية، وذلك من خلال البحث في نماذج فكرية عربية ساهمت في التأسيس لهذه النزعة، وفي نفس الوقت تقديم رؤية نقدية للنموذج الأنسي الذي صيغ في إطار الحداثة السائلة.

مقدمة:

    يرى مقدم الكتاب الباحث أحمد الفراك أن الكاتب عبد الله إدالكوس قد أحسن اختيار موضوع الدراسة بالبحث في الأنسنة الاسلامية، وأحسن اختيار الاشكالية المناسبة المتعلقة بدور الإسلام ومساهمته من خلال المفكرين المعاصرين في استيعاب وتجاوز مذاهب الأنسة التقليدية لأنسة تراعي الجانب الروحي والأخلاقي في الانسان، حيث البحث في موضوع النزعات الإنسانية يجب أن يتجاوز الطرح المادي الذي تقدمه الحداثة.

     حيث يتساءل الباحث عبد الله إدالكوس في الكتاب حول المدخل لأنسة إسلامية، وطبيعة هذه النزعة الإنسية ودور الدين فيها: هل هي نزعة إسلامية محضة مستقلة عن السياق الحداثي أم مستفيدة منها؟ وهل هي نزعة متجانسة بين كل النماذج أم هي نزعات مختلفة؟ وما مدى وعي هذه النماذج بالحداثة وبالنقد الأخلاقي الموجه لها، الذي يسمح باستيعاب للحداثة ثم تجاوز لنزعة إنسانية كونية، أم هو على الأقل مساهمة إسلامية في نزعة كونية تتجاوز مأزق الحداثة؟ و “هل يمكن الحديث في تاريخ الإسلام عن نزعة إسلامية؟ وهل يمتلك الفكر الإسلامي مقومات انتاج نزعة انسية خاصة به في العصر الحالي؟”

الباب الأول: النزعة الإنسية في التداول العربي والغربي

الفصل الأول: النزعة في التداول الإسلامي

    يعرف الباحث النزعة الإنسانية من خلال المصادر الإسلامية والعربية أنها هي النزعة والميل للإنسان على حساب موضوعات أخرى، والتي تُوجه المعرفة والعلم إلى نشاط الانسان وغايته. والأُنس مشتق من كلمة أنس وهو ضد التوحش. فمن خلال القرآن الكريم فإن مفهوم الانسان يتعلق بفكرة الايمان بوجود الله تعالى. أما في التصور الصوفي فيعني مفهوم النزعة الإنسانية “دور الانسان في الاستخلاف في الأرض وعمارتها ونيابة الإنسان عن الله في إدارة الارض، كما يتم التركيز على تفضيل الله للإنسان من بين كل الكائنات الأخرى ورفعه أحيانا لمنزلة الملائكة.

    وهو ما يدل على مركزية ومكانة الإنسان في الأرض”، والتوحيد هو من صميم الحرية لأنه يعطي للناس معنى التحرر والاستقلالية من الشهوات والنزوات والتبعية للمخلوقات الأخرى، حيث أن التوحيد هو الانعتاق من عبارة المعبودات الأخرى لعبادة الله وحده، وهو تعبير صوفي عن مفهوم “الانسان الكامل”، وهو الإنسان المتغلب على الصفات الحيوانية الموجودة فيه، والمتغلب على وسوسة الشيطان ونزوات النفس.

    وعند أبي ناصر الفارابي تعني النزعة الإنسية أن الانسان هو جوهر الكون والغاية من الخلق، وسمو الانسان يتمثل في استخدام العقل للوصول لبناء المدينة الفاضلة، حيث النزعة الإنسية لديه تتعلق بإمكانية بلوغ السعادة لدى الانسان والتي تُطلب لذاتها، وتفرد الانسان في بين الموجودات الأخرى لما يتصف به من سيمات الكمال.

الفصل الثاني: النزعة في التداول الغربي

     تمثل النزعة الإنسانية في السياق الغربي وجهة نظر محددة وصريحة من الكون، ومن طبيعة البشر ومشكلات الانسان، وتركز على فكرة مفادها أن الإنسان هو القيمة المطلقة ومصدر المعرفة وتعتبره هو الغاية الأولى والأخيرة وترفع من قيمة الفرد، “وكل التصورات والانساق السياسية والاجتماعية إنما تنطلق من هذا المبدأ وتسعى لتحقيق سعدة الفرد تخدم مصالحته، وذلك خلاف للتصور اللاهوتي الذي كان سائداً في أوروبا لقرون والذي كان يرى ان الانسان كائن تابع ولا أهلية له في تقرير مصالحه وعليه الطاعة التامة والتبعية المطلقة للكنسية.”

    كما ارتبطت النزعة الإنسية في السياق الغربي بعصر الأنوار وتطور العلوم والآداب والفنون والفلسفة، خصوصا القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وارتبطت بظهور العلوم الإنسانية والاجتماعية التي ركزت في دراساتها على فهم الانسان ودوافعه وما يتعلق بمحيطه المادي، بعدما كان اللاهوت وعلومه هي المسيطرة في القرون الوسطى بقوة في المدارس والكنائس. حيث تتصف هذه النزعة بكون الإنسان له عقل يستطيع من خلاله التفكير والاستلال ووضع قوانين كونية ذات شرعية، وأنه في استطاعته تحصيل الحقائق وإدراك الظواهر الاجتماعية.  كما يطرح الباحث سؤال: “هل استطاع المذهب الإنساني المترسخ في العلوم الحديثة أن يقدم تصوراً جديدا للأنسنة ويتجاوز التصور التقليدي للإنسان، أم أن مسار هذه العلوم انتهى الى نقيض ذلك؟”

الباب الثاني: نماذج من الأنسنة في الفكر العربي المعاصر

الفصل الأول: النزعة الإنسية عند محمد أركون

    يعتمد الباحث فكرة كل من محمد عابر الجابري ومحمد أركون في ضرورة الاستفادة من المنجز الحداثي مع الإبقاء على بعض التراث الاسلامي المتصالح مع النزعة الانسانية، وذلك في قراءة نقدية مزدوجة للحداثة والتقليد. وهل هذه النزعات الإنسانية في الفكر العرب متجانسة أم مختلفة وما مدى الوعي بالحداثة وإمكانات الاستفادة والتجاوز؟ حيث يبحث أركون في إمكانية الإسلام في التأسيس لنزعة إنسانية كونية، في المقابل ينتقد الطرح الاستشراقي الذي يقول بوجود ثقافة إسلامية معادية للأنسنة.

    يعتمد أركون على المسكوت عنه في التراث ويحاول أن يسلط الضوء على فترات مهمة من تاريخ المسلمين ازدهر فيها الجانب الاشراقي والإنساني. كما ينتقد أركون الاستشراق الكلاسيكي الذي ينفي أي إمكانية لظهور نزعة إنسية إسلامية، الذي يضخم من الذات الغربية كونها المنتج الوحيد لهذه النزعة، حيث “يرفض المستشرقون أي أطروحة أو دعوى لقيام نزعة انسية في التاريخ الإسلامي، حيث أن الانسان في الديانات السماوية مخلوق عابر أمام إله دائم وأبدي، لهذا من الصعب القول بان الوحي القرآني جعل من الانسان انسانيا.

   يركز أركون على النزعة الإنسانية في الإسلام في القرن الرابع الهجري من خلال قراءة أعمال كل من مسكويه والتوحيدي، ويرد الاعتبار لفترة مهمة في تاريخ الإسلام التي أغفلها الاستشراق في دراساته، عندما يركز فقط على الجانب الدوغمائي والأيديولوجي في الحضارة الإسلامية.

    إلا أن محمد أركون حسب الباحث غير واضح كفاية في موقفه من التراث ومن المدونة الرسمية بالخصوص، حيث موقفه من الوحي هل هو بشري وثقافي وطبيعي أم هو غيبي ميتافيزيقي، وحدود البشري والغيبي فيه، حيث يذهب أحياناً إلى النظر للوحي أنه منتج ثقافي واجتماعي ينفي عنه أي بعد ميتافيزيقي. فيرى أن الوحي مرآة انعكس عليها الثقافة واللغة وتضاريس البيئة العربية وظروفها الاجتماعية، وبالتالي تحول كله إلى ما هو بشري “وضعي”، دون أن ينفي وجود المصدر الميتافيزيقي للوحي، حيث وصوله للمؤمنين واحتكاكه بالثقافة المحلية يجعل منه معطى تاريخي قابل للتأويل. فالنزعة الانسية لا تتحقق إلا “بقراءة تاريخية للمدونة، أي إعادة كتابة تاريخ تشكل النص القرآني، ونقد الرواية الرسمية والتحرر السيكولوجي من العلاقة التي تربط الناقد بالنص”.

    كما أن أركون يفكر من منطلق آفاق العقل ومعطيات الفلسفة وعلوم الانسان والمجتمع وأدوات التأويل الحديثة، وهو ما يسميه الاسلاميات التطبيقية، لهذا موقفه إيجابي من الحداثة رغم نقده للاستشراق. عكس مثلا عبد الوهاب المسيري الذي يقدم نقداً مهما لأدوات ومنجزات الحداثة. فالأنسة لدى أركون تتعلق “بإحلال الرؤية الإنسانية العقلانية للعالم، بدل الرؤية اللاهوتية المنغلقة، وهذا يقتضي إعطاء قيمة للإنسان واعتباره غاية في ذاته ومصدر للمعرفة يفتح آفاق جديدة لمعنى السعي البشري لإنتاج التاريخ”.

الفصل الثاني: النزعة الإنسية عند عبد الوهاب المسيري

    استطاع المسيري عبر مسيرته العلمية أن يبلور أدوات ونماذج منهجية تفسيرية خاصة به، محاولا تقديم فهم صحيح لمأزق الحداثة بتطوير مناهج مساعدة على فهم العلاقة بين الشرق والغرب. كما ستطاع أن يقدم نزعة إنسية تتسم بالتركيب الذي يتصف به الانسان وليس التفسير في البعد الواحد، فالتوحيد هو عكس الحلولية لأنه يسمح برؤية الانسان في كل ابعاده المتعددة المادية والماورائية.

   فالنموذج التفسيري لدى المسيري “هو بناء يماثل الواقع لكنه افتراضي، أي متخيل ومع هذا تشبه العلاقات بين عناصره العلاقات الموجودة بين عناصر الواقع”. حيث ينطلق من وجود مرجعيتين: المرجعية الكمونية والمرجعية المتجاوزة: الكامنة تستند للعلمانية والحداثة التي أفضت إلى تفكيك الانسان. في بعد واحد أما الإسلام فيقدم تفسيراً مركباً للإنسان. كما يقدم المسيري عقلاً نقدياً توليدياً مقابل العقل الأداتي الحداثي.

     حيث استطاع المسيري أن يقدم نقداً مهماً للحداثة التي شيأت الإنسان وغربته عن نفسه وعن الواقع وجعلت منه إسنان مستهلكاً فحسب. لهذا حسب المسيري أن النزعة الهيومانية الغربية اختزلت الانسانية في ثنائية الانسان والطبيعة، بل اختزل الانسان نفسه في الطبيعة المادية وحدها، مما أفقد الانسان هويته المتعددة.

خلاصة:

    يخلص الباحث إلى أن “المساهمة العربية والإسلامية تشكل جزء لا يتجزأ من البعد الكوني للأنسنة، خاصة إسهامات محمد أركون وعبد الوهاب المسيري ومالك بن نبي وعلي عزت بيجوفيتش”، حيث الإنسانية الهيومانية الإسلامية مرتبطة بوجود قوة مفارقة هي من يحدد البعد الأخلاقي والروحي للإنسان، كما يقدم كل هؤلاء نقداً مهماً للحداثة والاستشراق في نفس الوقت من أجل تجاوز المأزق الحداثي الذي يختزل الانسان في بعده المادي فقط.

     ثم يوضح الباحث أن الكتاب يُعد مدخلاً إلى الأنسنة الإسلامية ورسماً للمعالم الكبرى وليس إحاطة شاملة بالموضوع، ويدعو عموم الباحثين والدارسين إلى تعميق البحث في تجليات الأنسنة في التداول الإسلامي بمجالاته المختلفة.