المهدي بن بركة: الجماعة القروية أساسٌ للديمقراطية وفضاء للتسيير الذاتي

اهتمّ ساسة المغرب ومفكروه غداة حصول المغرب على استقلاله السياسي، بسبل بناء المؤسسات الضرورية التي بموجبها تتدعّم الدول وتتأسّس، وذلك في إطار المحاولات المُستميتة التي رامت من خلالها أحزاب الحركة الوطنية ملء الفراغ الذي تركه الاستعمار، سيما وأن المغرب لم يعرف من قَبل مؤسسات تتوافق والمفهوم الحديث للدولة. فالمغرب قبل الاستعمار كان قد خضع لحكم مركزي انبنى على عناصر تقليدية، وأعراف ضاربة في تاريخ القبيلة. ولذلك كان على الفكر السياسي أن يجتهد في إبداع ما يلائم تجربته السياسية الجديدة، دون أن يقطع مع تقاليده العتيقة، ومن غير أن ينعزل عن التطور الذي عرفه العالم على مستوى بناء الكيانات السياسية.

وفي هذا السيّاق الحافل بالأفكار والمشاريع المختلفة، والمتناقضة أحيانا، تأتي المحاضرة التي ألقاها الأستاذ المهدي بن بركة صيف 1957، أمام فوج جديد من رجال السلطة المتخرجين من مركز التكوين بأكدال التابع لوزارة الداخلية. وهي المحاضرة التي استعرض فيها المرحوم تصوره للجماعة القروية في إطار ترتيب العلاقات بين السلطة والمواطنين وتأسيس “ديمقراطية واقعية” تبدأ من القاعدة، تنظيما وممارسة. وكان ذلك قبل أن تجري الانتخابات الجماعية الأولى في المغرب عام 1960.[1]  إن الأمر يتعلق، فيما يرى عابد الجابري، بمشروع مستقبلي لـ “الديمقراطية الواقعية” على الصعيد المحلي. الديمقراطية التي تتجاوز التمثيل الشكلي إلى مهام ومسؤوليات تتسع لتتحول إلى نوع من التسيير الذاتي للشؤون المحلية على صعيد الاقتصاد والاجتماع والشغل والتعليم والصحة…إلخ”.

ليس الهدف من استعراض محاضرة المهدي بن بركة، استعادة مضامينها ضمن النقاش الدّائر اليوم حول بعض المشكلات المرتبطة بتدبير الجماعات الترابية فحسب، وإنما أيضا من أجل إبراز حجم الفرص الضائعة في مغرب ما بعد الاستقلال. فالمطّلع على العديد من الأفكار التي تم تداولها سواء إبّان مقاومة الاستعمار، أو غداة تحقيق الاستقلال السيّاسي، سيقف على كمٍّ مُعتبرٍ من المشاريع السياسية التي لو تم الاسترشاد بها لأمكن للمغرب أن يتجنّب مجموعة من الانزلاقات التي صاحبَت مسيرة بنائه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ كان يمكن تدشين نوعا من الملكية البرلمانية قبل 60 سنة من اليوم لو تم إنجاح تجربة حكومة عبد ابراهيم، والاستفادة من مناخ التوافق بين أحزاب الحركة الوطنية ومَلكية محمد الخامس، من أجل دسترة هذه التجربة، والحؤول دون وقوع الشرخ الذي حدث بين أحزاب الحركة الوطنية ومَلكية الحسن الثاني، وهو الشرخ الذي تسبّب فيه إفشال عبد الله إبراهيم وإقالة حكومته قبل إتمام مهمتها. أما على مستوى تدبير الحكم المحلي، فإن أفكارا رائدة تقدّم بها المهدي بن بركة في محاضرته التي أعاد صياغتها والتأكيد عليها في أكثر من مناسبة عندما كان يرأس المجلس الاستشاري الذي تم توقيف العمل به هو الآخر من دون سبب. والحال، أن القارئ لنص المحاضرة لا يَعدِمُ تدابير جيّدة يمكن أن تساعد على بناء جماعة قروية حديثة، من شأنها الإسهام في تطوير القرية المغربية وجعلها قاطرة للتنمية، بحيث تساعد في جذب اليد العاملة والحدّ من الهجرة نحو المدينة، وما يصاحب ذلك من مشاكل بنيوية.

ولأن المرجع الذي نقتبس منه فقرات المحاضرة هو المرحوم الجابري، فإن عرض مضمونها سيلتزم بالتبويب الذي اقترحه الجابري، مع تصرفات بسيطة في المتن، بما يساعد على إبراز بعض الأفكار التي تتّسم بنوع من الراهنية، والتي لا يزال مغرب اليوم في حاجة إليها.

الفقرة الأولى: من “الجْمَاعة”..إلى الجَمَاعة القروية الحديثة

عادَ ابن بركة إلى تاريخ المغرب، في بحث أنتروبولوجي، رابطا الحاضر بالماضي، لكن من غير تبعية، أو محاولة نوستالجية تستهدف الإبقاء على ما كان، بل كانت هذه العودة، ترمي إلى التذكير بما عرفه المغرب من تجارب سابقة، يُمكن تطويرها، وإزالة المثالب التي ألحقها بها الاستعمار، وهكذا، نجده يذكر مستمعيه بأن المغرب “عرف دائما “الجْماعة” كمرجع سواء في زمن الحرب أو في زمن السلم، ولم يتقلّص دورها لتنهار في النهاية إلا في عهد الحماية، وذلك حين أقامت السلطات الاستعمارية إلى جانبها، وكمنافس لها أريد منه أن يقوم مقامها، ذلك الموظف الإداري الذي أطلق عليه اسم “القائد”. ونتج من ذلك فرض حياة العزلة على سكان البادية وحرمانهم من أية وسيلة للتعبير عما يحسون به ويطمحون؛ فصار الفلاح يتيما في أرضه. وقد حاولت المراسيم التي أصدرتها إدراة الحماية سنتي 1951 ــ و1952، تحريك “الجْماعة” وبعث الحياة فيها، ولكن لا بهدف تأسيس حياة ديمقراطية حقيقية، وإنما من أجل تمكين إدارة الحماية من أدوات جديدة تخدم مشاريعها وأهدافها”.

 إذا كان هذا هو الوضع الذي ساد المغرب إبان الاستعمار، فما هو التصور الذي يقترحه أحد أهم رموز الاستقلال المغربي، وأصغر الموقعين على وثيقة الاستقلال؟ هل أراد المهدي أن يعيد مفهوم “الجْماعة” التقليدي؟

الواقع، أن المهدي بن بركة كان يدرك جيدا أن “المرحلة الجديدة تتميز بتطور ثوري، ذلك أن إطار “القبيلة” القديم بدأ ينقرض”، ولذلك لم يكن ممكنا تجميد التاريخ، فجاء اقتراحه على النحو التالي: “حان الوقت لجعل مفهوم “الحدود الترابية” يَحلّ محلّ مفهوم “الحدود القبلية”، وبذلك لن تبقى روابط الدم والنسب التي كانت توحّد بين أعضاء القبيلة، هي وحدها السائدة، بل ستقوم إلى جانبها روابط جديدة لا تقلّ عنها مفعولا، فضلا عن أنها أكثر منها تجاوبا مع معطيات العصر. إن “الجْماعة” القديمة ستتحول إلى الجَماعة القروية التي هي وحدة ترابية بسيطة تقوم على أساس الحقائق الجغرافية والانسانية والدينية والسياسية”. الهدف واضح إذن بالنسبة للرجل، على الجماعة القروية ألاّ تتأسس على روابط تتناقض مع مبدأ المواطنة، الذي يُعدّ أحد أهم أسس الديمقراطية الحديثة، فلا يمكن أن تستمر الجماعة القروية وفيّةً للعناصر القبلية والعرقية في وجودها، لأن من شأن ذلك أن يحافظ على بذور التفرقة التي قد تنمو وتتطوّر كلما وجدت الظروف السّانحة. أما من الناحية الاقتصادية، فإن المهدي يعوّل كثيرا على السوق الأسبوعي الذي اعتبَره “نواة مركزية لقرية الغد”، وهذا يشبه كثيرا الدور الذي يؤدي البازار مثلا في إيران وتركيا وغيرهما.

ولكي تتعصرن القرية فإنه ينبغي أن تستبدل المؤسسات التقليدية التي تقوم على الوجاهة والدم، بمؤسسات عصرية تستند إلى الانتخاب، إذ “سيكون على رأس الجماعة رئيس منتخب، وهو مفهوم جديد سيحل محل مفهوم “الشيخ”. فهو لن يكون عونا من أعوان السلطة كما كان “الشيخ” بل سيكون على رأس الجماعة، ومُنتخبا من مجلسها الذي سيؤسِّس لحياة ديمقراطية يعبر من خلالها سكانها عن حاجاتهم المحلية مثل استصلاح الآبار والتزويد بالماء وشق الطرق وبناء المدارس…إلخ، وسيكون مجلس الجماعة على اتصال بذوي القدرات الفنية كالمرشد الفلاحي والمعلّم والممرّض…إلخ”. ومرة أخرى تتوضّح غاية ابن بركة من الجماعة القروية، بما أن وظيفة الأخيرة لا تقتصر على تنظيم شؤون التجمعات البشرية، بل تتعداه إلى بثّ الروح الديمقراطية في المواطنين وحتّهم على قيمها، أي أن رهان المهدي كان اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وتربويا[2] في نفس الوقت. فالجماعة القروية ينبغي أن تكون “نقطة الانطلاق الديناميكية والخصبة لبناء البلاد”، ولذلك يجب أن “تحكم نفسها بنفسها بدل أن تكون خاضعة للسلطة المطلقة لقائد قوي[3]…إن الجماعة يمكن أن تصير اليوم، وبصورة أفضل غدا، العنصر المحرّك للتحوّلات الجذرية التي يتطلّع إليها شعبنا. الجماعة ستكون بذلك الخلية الأساسية للحياة الوطنية، للديمقراطية والتربية الأساسية، إنها ستكون مركز إشعاع اجتماعي لقِطاعات التجديد الفلاحي، وذلك بالمحافظة ليس على جوانبه التقنية فحسب، بل أيضا على مرافقه الاجتماعية كالمستوصفات والمدارس ورديفاتها. ويتعين على المجلس القروي أن يستجيب لجميع الحاجيات، وهذا ما سيجعله يتحول من الطفولة إلى الرشد، أي إلى مرحلة تحمل المسؤوليات”.

إن هذا التصور الحديث الذي يرتئيه ابن بركة للجماعة القروية في النصف الثاني من الخمسينات، يُعتبر تفكيرا متقدّما بكل المقاييس، فأن تتحمّل الجماعة مسؤوليتها في بناء المدراس وشقّ الطرقات، وفتح الأوراش الضرورية، فهذا يعني أننا أمام نموذج جديد للتسيير الذاتي الذي ينبغي أن تسير عليه الجماعة المغربية. نموذج ينهل من التجربة الغربية دون أن يكون منفصلا عن الواقع المغربي الذي عرف أمثلة مرتبطة بالتدبير المستقل عن المركز، وهذا ما سيتّضح أكثر عندما نتعرّف على منظور ابن بركة لمفهوم التسيير الذاتي.

الفقرة الثاني: الجماعة كمؤسسة للتسيير الذاتي

استبَق المهدي بن بركة بعقودٍ الحديث عن مفهوم اللامركزية، حيث كان يصبو إلى التأسيس لنظام سياسي يبتعد عن مركز السلطة وترك المناطق الهامشية بدون مسؤوليات عدا تلك التي تتفضّل عليها بها السلطة المركزية، ما دامت الحياة الديمقراطية لا تعني بالضرورة المركزية المُبالغ فيها، بل هي تقوم أصلا على اللامركزية الهادفة، وبهذا تتحول الجماعة إلى جهاز للتسيير الذاتي عن طريق إنجاز التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتصدي لما قد ينتاب الإدارة من تباطؤ وتراخٍ. ولكي تقوم الجماعة بهذه المهام، يجب أن تعتمد نظام المِلكية الجماعية[4]، وفي الوقت نفسه تُطبّق التوجه الوطني الذي يصدر عن حكومة صاحب الجلالة. هذا التوجه يجب أن يسهر عليه ممثلو السلطة، أي العمال ورؤساء الدواوير والقائد الذي يجب تغيير اسمه إلى ” متصرف”. سيكون على هؤلاء، كل بحسب مستواه، أن يساعدوا الجماعات القروية على تحفيز أولئك الذي يتراخون في القيام بالواجبات من جهة، وعلى منع التجاوزات الناتجة عن الأنانيات الضيقة من جهة أخرى. وسيكون هناك “مجلس دائرة المتصرف” ينتخب أعضاؤه على أساس عضوين اثنين لكل جماعة قروية”.

ربما من غير حاجة إلى التنويه إلى أن الأفكار التي طرحها الأستاذ ابن بركة في الفقرة أعلاه، لا توجد أي مؤشرات على أن الذين صاغوا القوانين الخاصة بالتنظيم الترابي قد استفادوا منها، على الرغم من وجاهتها، وحاجة مجتمعنا إليها. فالرجل اقترح صيغة جديدة لتدبير شؤون العالم القروي، تصبح فيها السلطة مساعدة للمنتخبين وليست وصية عليهم. ولكي يتحقّق ذلك، اقترح المرحوم تغيير اسم القائد بما يحمله من معان سلبية موروثة عن الاستعمار، باسم “المتصرف” حتى يتوافق مفهوم الاسم مع المفهوم الجديد للسلطة. وهذا المتصرف لن يكون فردا محتكرا للتصرف بل يخضع لتوجيهات مجلس تتمثّل فيه الجماعات القروية بممثلين اثنين بصرف النظر عن حجمها وعدد سكانها، وهي فكرة على ما يبدو مستخلصة من التجربة الفيدرالية الألمانية أو الأمريكية، وقد تكون من إبداع ابن بركة، لكن المهم أنه لو تم الأخذ بها لتمّ تجنّب العديد من مثالب المجالس الإقليمية القائمة اليوم وما يحيط بها من مظاهر القصور والسلطوية.

أراد المهدي بهذه الإجراءات قطع الطريق على القائد أو المتصرف، حتى “لا يتقمّص دور الدركي، إذ سيكون عليه أن يهتم أكثر بالعلاقة مع المصالح المرتبطة بوزارة الفلاحة والمحافظة العقارية المحلّية وبالتعليم والصحة والشغل، وسيكون دوره هو حَفْز المبادرات، واستنهاض الهمم وجعل حد للتجاوزات أو الشهوات المحلية. وعلى صعيد الإقليم، سيتم تنسيق جميع مصالح الأشغال العمومية والمياه والغابات والهندسة القروية والتعليم، وسيكون الهدف هو تجميع المصالح التقنية الأساسية مثل الفلاحة، والضرائب القروية، والمحافظة العقارية، والصحة، والتعليم (على صعيد القيادات)، وفيما بعد على صعيد الجماعات القروية بكل معنى الكلمة. ويمكن للمجلس الإقليمي أن تكون له اختصاصات اقتصادية واجتماعية، وسيكون هذا المجلس مجالا لتفتح العملية الديمقراطية الحرة وإشعاعها على المدى الأساسي لقيادات الجماعات القروية”.

لقد كان منظر الاختيار الثوري، واعيا بالإكراهات التي يمكن أن تصادف تنظيراته، ومُلمّا بالعديد من المشاكل التي من شأن طرحه اللاسُلطوي أن يجلبها عليه، سيما في ظل وجود “تحركات” كانت تجري في العلن أو الخفاء، من أجل إنهاء مهمته على رأس المجلس الاستشاري، وإفشال تجربة أول حكومة تلقى شبه إجماع وطني، وتوافَق حولها الملك محمد الخامس وأحزاب الحركة الوطنية. ومع ذلك فإن المهدي كان حالِمًا ــ وهذه خاصية كل سياسي مخلص ــ ومفرطا في توزيع الوعود، وهكذا، ودون أن يتسرّب إلى علمه أن علاقته بالقصر قد أوشكت على الانفصام بسبب المؤامرات السرّية، شرع في إطلاق الوعود التي ختم بها محاضراته، قائلا: “وستكون حياة الجماعة القروية مختبرا لثورة عميقة في مجتمعنا على صعيد مجموع القطر، وسيكون للتسيير الذاتي على مستوى الادارة بمثابة توسيع للحريات السياسية للمواطنين. إن تسيير الفلاحين والتجار والحرفِيين شؤونهم بأنفسهم في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والصحية والتربوية، دليل على دخولنا في نهاية المطاف، عهد الحرية التي تقودها الإدارة بمرونة وفعالية”.

 الجليّ، أن المفهوم الثوري الذي كان يدافع عنه المهدي في محاضرته، لم يكن ليروق “البعض”، وتم الخلط بين الثورة التي يبتغيها المهدي في مجالات الصناعة والفلاحة والتجارية، بالثورة على المؤسسة الملكية، رغم أن الرجل كان من أشد المدافعين عن عودة الملك للمغرب، وأكثر تمسكا بالملكية. وهذا الخلط هو ما عجّل بإنهاء مهمة ابن بركة على رأس المجلس الاستشاري، ووقف الأوراش الواعدة التي فتحتها حكومة عبد الله ابراهيم. فمعلوم أن “إنقلابا” ــ على حد تعبير الجابري ــ قد حدث في توجه الدولة وسياستها بعد إقالة حكومة عبد الله ابراهيم. وقد أُجريت انتخابات جماعية بعد أسبوع من إقالتها، ولكن تأخر إصدار القانون المنظم لها إلى أن ظهرت النتائج وتبين اتجاه الرأي العام الوطني. وحينئذ صيغ قانون المجالس المحلية بالصورة التي تنسجم مع “الانقلاب الجديد”[5].

لقد أضحى معلوما لكل مهتمٍّ بأن المغرب فوّت على نفسه الاستفادة من كثير من الأفكار الرائدة في مختلف المجالات، سيما المجال السياسي، وهو ما جعل المغرب بلدا متخلّفا مقارنة مع العديد من الدول في أوروبا وآسيا وإفريقيا، التي دخلت مضمار التطور السياسي والصناعي والفلاحي بعقود طويلة بعد المغرب، لكنها استطاعت أن تستفيد من كل طاقاتها وأفكارها. ولئن كان هذا أمرا مؤكدا والتذكير به بمثابة تحصيل الحاصل، فإن الغير متأكد منه، هو ما إذا كان المغرب سيقطع مع مسلسل الفرص الضائعة، ويستقبل كل الأفكار المتقدمة التي يطرحها المجتمع المدني والفاعلون والمهتمون من أجل تطوير المصفوفة القانونية التي تُنظم التّدبير الترابي للدولة.


[1]  لم نَتوّفق في الاطلاع على نص المحاضرة في مرجع آخر غير ما ضمّنه المرحوم محمد عابد الجابري كتابه: في غمار السياسة: فكرا وممارسة، الكتاب الثاني، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط 1، بيروت، 2009، من الصفحة 138 إلى الصفحة142، رغم أن الجابري لم يورد المحاضرة كاملة وإنما استعرض أهم فقراتها.

[2]  وهذا كان رهانه أيضا عندما فكّر في مشروع طريقة الوحدة الذي أراد منه تحقيق مجموعة من الانجازات التي يمكن تلخيصها في هذه الفقرة التي وردت في كتاب الباحثان الفرنسيان سيمون وجان لاكتور “المغرب تحت الاختبار” الذي جاء فيه: “ليس طريق الوحدة ورشة عمل وحسب (…) بل إن تفكير المهدي بن بركة كان يهدف إلى تجميع واسع للشباب حول موضوع وطني وحركي في الوقت نفسه. لقد كان الهدف هو إثارة اهتمام شبيبة لامبالية نسبيا، وحملها من خلال بذل الجهد على الاقتناع أن العمل وحده يعطي مردودية، وأيضا جعلها تكتشف بصورة جماعية بعض حقائق الواقع الحديث، وانتزاعها من عالم القرية المحدود وبالتالي فتح أعين الشباب المراهق –التي لا يرون أية أفاق غير تلك التي يقدمها لهم الدوار والقبيلة – على وجود وطن اسمه المغرب، من خصائصه التعدد والتنوع ويجتاز ظروفا صعبة. يتلعق الأمر إذا بمجال لاكتساب التجربة، وبـ “منبه الصباح” للشبيبة المغربية يمكن أن يتشخّص أيضا في مشروعات أخرى من قبيل بناء سد أو القيام بعملية الحصاد أو بناء قرية شعبية أو مدرسة: إنه طريق” (هذه الشهادة أوردها المرحوم الجابري ضمن كتابه: في غمار السياسة، فكرا وممارسة، الكتاب الأول، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط 1، بيروت، 2009، ص 136.

[3]  على الرغم من أن المحاضرة كانت أمام فوج جديد من القياد، إلا أن المهدي لم يكن ليحيد عن مسعاه التوجيهي الذي يروم من خلاله تربية رجال السلطة على التواضع، واتّباع النهج الديمقراطي أثناء أداء مهمتهم.

[4]  وهنا يظهر الجانب الاشتراكي في سياسة المهدي، الذي كان حريصا على أن تكون اشتراكية عملية تَبرُز من خلال الممارسة لا مجرد شعارات ومسمّيات قد يُوافقها الواقع وقد يناقضها. قد تجد لها صدى داخل المجتمع وقد تكون سببا لسوء الفهم المانع من التواصل. لقد أورد الجابري في سيرته السياسية قصة طريفة حدثت له مع المهدي، إذ حدث أن الجابري سأل المهدي: لماذا لا نُعلن على الاشتراكية ما دمنا ندندن حولها؟ فكان الجواب كالتالي: قُل ما فيها ولا تقلها. أي أن المهدي كان يعرف السياق الذي يحيى فيها والمعوقات التي تحيق به، لذلك لم يكن يودّ الدخول في مواجهات لا طائل منها. وربما هو المنهج نفسه الذي استرشد به الجابري فيما بعد، عندما رفض تبنّي مفهوم العلمانية مفضلا عنه الديمقراطية والعقلانية، لأن مفهوم العلمانية يثير التباسات كثيرة في صفوف المجتمع.

[5]  الجابري: في غمار السياسة، الكتاب الثاني، ص 141