قراءة في كتاب مشروع للسلام الدائم للفيلسوف “ايمانويل كانط”: الفكرة وحدود التطبيق

شكلت الحرب معضلة شغلت أذهان الساسة والمفكرين على مر العصور، مما دفع الكثير من الفلاسفة، إلى تقديم مشاريع تهدف إلى إقرار السلام وإنهاء الصراعات، وقد احتل مشروع الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانت” للسلام الدائم عام (1795)، مكانة مهمة ضمن المشاريع المقدمة؛ لأنه تميز بالدمج بين العقلانية والأخلاقية. وقد جاء هذا المشروع على شكل جملة من الشروط، منظمة وفق أقسام، تضم مواد تمهيدية، وأخرى نهائية لإحلال السلام الدائم بين الأمم والدول.

يندرج مشروع للسلام الدائم ضمن التوجه الفلسفي الكانطي، الموسوم بالعقلانية الكونية الشمولية، إذ ينبثق من فكرة إنسانية – عالمية، ترمي تحقيق أقصى مراتب السمو الأخلاقي، وهو السلام الأبدي. وهو بذلك يشكل تجسيدا حقيقيا للنزعة السلمية للفيلسوف الألماني، الذي رغم إقراره بأن النزوع إلى الحرب هو فعل متجذر في النفس البشرية؛ لكون الفطرة الإنسانية أقرب إلى الحرب- سواء كانت حربا بالمعنى الملموس أو مجرد توجه ينطوي على تهديد دائم بالتجاسر والعدوان- إلا أن النزوع إليها شر، لكونه يقود إلى التخريب، وينطوي على أساليب وحشية وعدائية.

كما يرى “ايمانويل كانت” أن السلام الدائم، لا يستتب عن طريق مطيات سياسية وقانونية لا غير، بل إن بلوغه يرتكز على رقي أخلاقي. منطلقا في ذلك من اعتقاد ديني، يرى أن الرسالة الحقيقية التي أتى بها الدين المسيحي، هي رسالة أخلاقية، تروم توحيد البشر عن طريق إقامة مجتمع يؤسس على قوانين الفضيلة، فيما يمكن وصفه  بمملكة الفضيلة.

يمكن القول، أن مشروع الفيلسوف “ايمانويل كانت” وليد زمانه، حيث أنه لم يكن بمنأى عن الأحداث التي زامنته، وأهمها الثروة الفرنسية (1789/1799)، التي شكلت حدثا واقعيا، وانعكاسا حقيقيا للأفكار التي كان يؤمن بها صاحبه، والمتمثلة في المساواة، والعدالة، والحق، كخطوات نوعية في التاريخ البشري، ومهدا لنوع من الثورات المستجدة، والمتمثلة في ثورة الفكر. مما أسس لنظام جمهوري، عكس نفس المبادئ، من خلال دعوته إلى الحرية، والمساواة، والى إعطاء السلطة إلى الإرادة العامة التي يمثلها الشعب؛ والتي من ضمنها اتخاذ القرار بأن تقع الحرب أو لا. ما جعله يضعه شرطا من الشروط الايجابية التي جاء بها المشروع.

يبدأ مشروع للسلام الدائم بست مواد تمهيدية، لا يمكن تصور المشروع من دونها. تأتي في مقدمتها النية المسبقة، والرغبة الحقيقية في تحقيق السلام، اللتان تشكلان شرطين أساسيين للمعاهدات القبلية، لأن السلام لا يتجلى فقط في منع وقوع الحرب؛ بل في القضاء على أي احتمال لاندلاعها، أي أن انعدام هذين الشرطين، يحول فكرة السلام إلى مجرد هدنة مؤقتة، أو استراحة للتسلح، يستحيل معها وصف هذا النوع من السلام بالدائم، لأنه لا يغدو مجرد كونه حشوا ولغوا مريبا.

يأتي بعد النية، تصور”ايمانويل كانت” للدولة، التي يقدمها كجماعة إنسانية، لا يحل لأحد سواها أن يفرض سلطانه عليها، أو أن يتصرف في شؤونها. مؤكدا أن كل دولة كيفما كانت، لا يجب أن تملك من طرف دولة أخرى كمتاع، أو كقطعة أرض. الدولة، إذن، جماعة إنسانية لا يجوز لأحد التحكم فيها – مشبها إياها بالشجرة المستقلة- ولا دمجها داخل دولة أخرى؛ لأن أي دمج من هذا النوع يشكل سلبا لوجودها المعنوي، وتجريدا لكيانها الذي يستحيل بعدها مجرد شيء من الأشياء.

وبناء عليه، يدعو كانت Kant الدول إلى التخلي عن الجيوش، لأن وجودها يشكل للدول الأخرى تهديدا دائما بالحرب، التي تخلف خسائر اقتصادية، وبشرية، وتحرم الإنسان من حقوقه الأساسية؛ فوجود الجيوش لا يمثل تهديدا للسلام فقط، بل يشكل عبئا ماديا نتيجة النفقات التي تهدر عليها، كما يشكل حطا من قيمة الإنسان أيضا، ذلك أن فكرة استئجار الناس من أجل القتال يجردهم من إنسانيتهم، ويحولهم إلى مجرد آلات، مما يشكل تعارضا مع حقوق الإنسان. ويورد كانت Kant هنا مقابلة بين هذه الحالة، والحالة التي يتطوع فيها المواطنون للتدريبات العسكرية من حين لآخر، من أجل ضمان سلامتهم وسلامة أوطانهم من العدوان الخارجي، موضحا أن هذا الشكل يمثل صورة مخالفة لتأهب الجيوش، واستعدادها الدائم للقتال، الذي يشكل دافعا للدول الأخرى، التي تعمد بدورها لزيادة قوتها، مما يجعلها في سباق دائم نحو التسلح.

بعد ذلك، يؤكد كانت Kant على ضرورة الابتعاد عن الاقتراض؛ الذي يكون الهدف منه تمويل المنازعات الخارجية للدولة، لأن القروض المخصصة لذلك، فضلا عن تيسيرها قيام الحرب فهي تؤدي للإفلاس. أما الاقتراض الذي يهدف إلى إحداث إصلاحات وخدمات داخلية، فهو يرى أن لا ضرر فيه، لأنه يندرج في إطار تدبير المال، وفق شرعية مقبولة تهدف خدمة المصلحة الوطنية. وهو مناف للنظام السابق، الذي يقوم على قروض تتضخم باستمرار، وتفتح الطريق لتدخل الدول في شؤون بعضها؛ كقوة مالية خطيرة ووسيلة تؤدي إلى إشعال الحرب، خاصة، لو اجتمعت هذه القوة مع ميل أصحاب النفوذ الساعين إلى إضرامها، مما يجعلها تشكل، مجتمعة، العقبة الكأداء التي تقف أمام تحقيق السلام.

ويدعو كانت Kant، في الشرط ما قبل الأخير، إلى حضر التدخل في شؤون الدولة بالقوة، معتبرا الأمم – كما الأشخاص- لها حرمتها وحق التصرف في شؤونها، وبالتالي لا يجوز لأي دولة أن تتدخل في شؤون دولة أخرى، أو في طريقة حكمها. مسائلا المبررات الممكنة التي قد تضفي شرعية على هذا التدخل، إن وجدت بالفعل، واصفا الأمر أنه قد يكون بدافع تجنب انعكاس مساوئ دولة على شعب دولة أخرى؛ في حين أن هذا الانعكاس قد يشكل في حد ذاته عبرة لرعايا تلك الدولة. مستثنيا من التدخل هنا، الحالة التي يتم فيها انقسام دولة ما إلى جزأين، بحيث يكون للتدخل هنا ما يبرره، وهو تقديم المعونة من طرف دولة خارجية لدولة منقسمة تعيش واقعا من الفوضى.

ثم ينتقل كانت Kant في المادة الأخيرة من هذا القسم، للحديث عما يرتكب في الحرب من قتل، وتسميم، ونقض شروط التسليم، وتحريض على الخيانة، كأعمال عدوانية لا يجوز ارتكابها حتى في الحرب القائمة. وذلك بهدف الإبقاء على نوع من الثقة من طرف العدو، لأن عكس ذلك، يؤدي إلى استحالة إيجاد أرضية قد تضمن تحقيق السلام، على نقيض الحرب، التي لا تعدو مجرد وسيلة سيئة من أجل إثبات القوة، والتي يتم في خضمها القيام بعمليات إبادة، لا تترك مجالا للسلام إلا داخل قبر واسع  يضم الجنس البشري.

تمثل المواد السابقة التي أحاط بها الكاتب، تمهيدا للسلام، تلاه نص المعاهدة المتمثل في “المواد النهائية”، والتي قدمها كانت Kant في ثلاث مواد، يقر فيها بوجوب أن يكون الدستور المقر في الدولة دستورا جمهوريا – قائم على مبادئ ثلاثة تتمثل في حرية أعضاء المجتمع، وفي خضوعهم للقانون نفسه، والمساواة بينهم جميعا- مما جعله في نظر الكاتب أفضل دستور يجسد فكرة الحق، وينسجم مع حقوق الإنسان. جازما أن أي شكل أخر من أشكال الحكم، كيفما كان نوع دستوره، يعد حكما استبداديا؛ قد يتم الإقدام فيه على الحرب بشكل متسرع، يفتقر لأدنى قسط من التدبر والتفكير، مما يجعلها تقوم لأوهى الأسباب لأن ولي الأمر ليس عضوا في الدولة بل هو المالك لها. أما في الدستور الجمهوري، فإن الإقدام على الحرب يتطلب الكثير من التفكير، كون الحق المخول للشعب بحكم نفسه بنفسه، يجعل الإقدام عليها يلزمهم المشاركة فيها بأموالهم، ناهيك، عن إصلاح ما تخلفه من خراب، ودمار، ومن اقتراض، يجعل الدولة في حروب متجددة، مما يجعل السلام عبئا تقيلا صعب التحقق.

يؤكد كانت Kant بعد هذا، على وجوب أن يتأسس قانون الشعوب على أساس نظام اتحادي بين دول حرة، حيث أن مبدأ الجوار بين الشعوب، أو الدول، أمام غياب أي قانون خارجي ينظم هذا الجوار، قد يتسبب لا محالة في أذية لها، ما يلزمها شأنها – شأن المواطنون الذين يلزمهم وجود قانون أو دستور ينظم العلاقة بينهم- فإن الشعوب أو الدول بدورها يلزمها ميثاق أطلق عليه الكاتب حلف الشعوب. هدفه منع الدول من أن تبغي واحدة منها على الأخرى، والاستعاضة عن الحرية الخرقاء التي تنبني على تقاتل مستمر، والتي لا ضابط لها، بحرية رشيدة، يحكمها قيد بشري سنه البشر بالتوافق فيما بينهم. لينتقل بعدها إلى فكرة الحق السياسي، الذي يضمن للشعوب العيش بسلام بعيدا عن الحرب؛ هذا الحق الذي لا يستقيم إلا بالجمع بين السياسة والأخلاق، وذلك بجعل السياسة أخلاقية من خلال العمل على تقوية الجانب العاقل، حتى يتأتى تأسيس الحق على العقل باعتباره إرادة فاعلة.

استأثرت المادة الأخيرة من المواد النهائية للسلام، بمبدأ “الإكرام”، كنوع من أنواع الحق، الذي يتمتع به من يحل ببلد غير بلده؛ حيث يمنحه هذا الحق نوعا من الاستحقاق محددا بإكرام عالمي، بأن لا يعامل معاملة العدو، مادام ملتزما بالسلوك المدني، الشيء الذي قد يساهم في تعميق العلاقات، وتحويلها من علاقات عارضة إلى علاقات أعمق تساهم في تحقيق الوحدة العالمية. ومن تم تحقيق السلام الدائم وفق حق مدني، يقتصر على مواطني كل دولة، ويسود داخل حدودها الوطنية، وحق عالمي يوحد الشعوب قاطبة.

يلحق بالشروط السابقة، ملحقان، جاء الأول في شكل ضمان للسلام الدائم تمنحه الطبيعة وذلك بفرضها للسلم، حيث يؤكد الكاتب أن السلم حتى وإن لم يختره البشر بأنفسهم، فإن الطبيعة تتولى ذلك وتختاره لهم، مع بيان احتفاظ الإنسان بحريته في الفعل – فعل الحرب أو السلم- بما يمليه عليه عقله العملي. في حين جاء الملحق الثاني، على شكل مادة سرية للسلام، يدعو فيها إلى ضرورة اهتداء الممارسة السياسية بالنظريات والأخلاق الفلسفية.

ينتهي “مشروع للسلام الدائم”، بتذييلين، في علاقة السياسة بالأخلاق، ينطلق فيهما الكاتب من فكرة وجود تعارض بين الأخلاق والسياسة، لكنه تعارض لا يصل حد النزاع، موضحا أن السياسة- من حيث هي ممارسة- تقوم على تطبيق الحق، في حين تجسد الأخلاق القوام النظري للسياسة، ومن هذا يجب على الأخلاق باعتبارها علما عمليا أن تجند العقل ليصبو إلى السلم. ثم ينتقل كانت Kant لإبراز دور الدولة في إجبار الأفراد على الانتظام، وفق شروط تنتقل بهم من الحق الخاص المبني على المصلحة الخاصة، والرغبة في التملك؛ مع ما يرافق هذه الرغبة من عنف وعدوان، إلى مستوى أشمل وهو الحق العام، باعتباره إرادة كونية تضمن العلاقة بين المواطنين، وتنظمها وفق القانون، إلى مستوى أعمق وهو الحق بين الشعوب. فالوحدة الجماعية هي التي من شأنها أن تجعل البشر يتوحدون في كنف نظام شرعي، مما يحقق بالتالي إمكانية الجمع بين السياسة والأخلاق؛ من منظور كون الممارسة السياسية هي التي تتيح لنفسها نظرية أخلاقية تهتدي بها. عكس النظرية الأخلاقية التي يصعب عليها أن تحدد ما يجب على الممارسة السياسية أن تفعله، هذا التعارض لم يمنع الكاتب من النظر بايجابية إلى هذه الثنائية المتعارضة، من منطلق كونها تشكل عنصر تكامل، وفرصة حقيقية، تساهم في سمو الفعل السياسي إلى مرتبة الفعل الأخلاقي، من منطلق التعامل مع الحق، على أساس شيء مقدس، يعلو فوق كل مصلحة، مما ينتقل بالإنسان من الرغبة الأنانية، والعنف، إلى تحقيق الحرية، وتحقيق السلام الدائم.

حاولت هذه الورقة تقديم قراءة في كتاب مشروع للسلام الدائم، الذي يندرج ضمن الإطار العام لفلسفة كانت Kant المتشبعة بالمثالية الساعية إلى إحلال السلام الدائم. جاءت هذه القراءة في سياق زمني، يشهد مجموعة من التطورات والأحداث، التي تجعل سؤال السلام مرهونا اليوم بالعديد من التمثلات، تجعل القارئ ينفتح على إشكالات جمة في دراسته لفرضيات كانت Kant، ورؤية مدى واقعيتها، وراهنتيها، في زمن يعيش حالة من تضارب المصالح. فكيف يتأتى انتصار الهدف الأسمى في تحقيق السلام على المصلحة الخاصة؟ وهل لمشروع السلام الدائم الذي يدعو إليه الكاتب أفق يجعله قابلا للتطبيق على أرض الواقع، أم أنه يظل مجرد مشروع فلسفي، يسعى إلى ترويض الجانب المتوحش في الإنسان، والرقي به، في محاولة لجعل السياسة ممارسة أخلاقية، تجعلنا نرنو إلى إحلال السلام، بما هو هدف لإحلال الحرية، والحق، والعدل، مع استحالة الحديث عن مسألة ديمومته؟ أسئلة من المؤكد أن الإنسان سيبقى في سعي حثيث لإيجاد إجابة لها……