قراءة في كتاب عالم بلا معالم

ملخص:

  يروم هذا الكتاب إلى تقديم قراءة تحليلية تنصب في جزء كبير منها على الاهتمام بقضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ وربطها بما يمر به العالم من أحداث، ويشكل حدث جائحة كورونا لحظة مفصلية يمكن من خلالها حسب الكاتب دحض البراديغمات الذي طبعت العلاقات الدولية من قبيل نهاية التاريخ واعتبار أمريكا منبع الديمقراطية الليبيرالية والحامية لحقوق الإنسان.

الكلمات المفتاح: العالم، الديمقراطية، الشعبوية، الاقتصاد، الهجرة.

Summary: 

This book is revolving about an analytical reading, which concerns, in its large part, to give importance to contemporary political, economic, and social issues. And thus, to link these issues with what is happening in the world right now. Covid-19, however, is considered to be a turning point that it can be analyzed by the author to refute some commonly agreed upon notions that is existed within the field of international relations. These notions are The End Of The World, and considering The United States Of America as the source of democracy, liberty, and human rights preserver.

Key Words: THE WORLD, DEMOCRACY, POPULISM, ECONOMY, IMMIGRATION.

نبذة عن المؤلف والكتاب:

الكاتب هو حسن أوريد، كاتب وأديب مغربي، يدرس العلوم السياسية بكلية الحقوق، أكدال-الرباط. يضم الكتاب 352 صفحة بالقطع المتوسط بالفهرس والبيبليوغرافيا، صدرت له الطبعة الأولى في يناير 2021 عن المركز الثقافي العربي، يحتوي الكتاب على إحدا عشر فصلا، تدور في مجملها عن دراسة التحول الذي بدأ يعرفه العالم بدءا من منعطف 11سبتمبر كما هو الحال مع الفصل الأول المعنون ب”الانتصار الوهي”،وانتهاءً مع الفصول الثلاث الأخيرة التي تحرك خبر هذا الكتاب والتي تنصب على أزمة الاقتصاد وواقع الديكتاتورية الرقمية ومشكل الهجرة. 

  مقدمة:

  ما كان صدفة أن تشكل جائحة كورونا لحظة مفصلية تعيد ضبط القواعد الناظمة للعالم، هكذا أتت وقائع من قبيل الحجر الصحي، قرصنة وسطو على معدات ومواد طبية كانت محملة بمادة الكحول والكمامات وتحويل وجهتها إلى إيطاليا، الحديث عن أزمة اقتصادية، تطوير اللقاح… للتهييء لمسار مشتبك اختلطت فيه أجندات الدول الكبرى لتجاوز الأزمة الاقتصادية والصحية في معادلة اهتدت إلى مبدأ  فليذهب الآخر للجحيم “أنا ومن بعدي الطوفان”، لتتوالى سلسلة من الأحداث إلى يومنا هذا، جعلت من ميلاد جائحة كورونا تقترن في ذهن صانعي القرار الدولي كحدث موازي لحدثي؛ سقوط جدار برلين والأزمة المالية لسنة 2008، ما أقام تحقيب زمني أضحى شعار الفضائيات والإعلام بامتياز تَلوكه ألسن المحللين والمفكرين والصحفيين في جملة ” عالم ما قبل كورونا وعالم ما بعد كرورنا”.

  يقتضينا هذا التحديد لنشأة أزمة كورونا معرفة ما يجري في العالم من أحداث وديناميات يشكل فيها الجديد الذي لم تتحدد معالمه بعد، حلقة موصولة بالقديم والذي يصعب التنكر لآثاره باعتباره الإطار المرجعي لفهم ما نعيشه اليوم من كبوات التي لم تعد خفية عن الأنظار، بل أصبحت محط نقد وتحليل من قبل عدد واسع ممن سبروا أغوار التفكير والتنظير، وهو المسار الذي لم يحد عنه حسن أوريد بداية مع كتابيه “أجنحة الغرب المنكسرة ” و “أفول الغرب” وانتهاءً مع مؤلفه الأخير الصادر عن المركز الثقافي العربي والموسوم ب “عالم بلا معالم”، إذ ينكب صاحب “فصول ورؤى” في أكثر من 340 صفحة على قضايا محورية يرصد من خلالها التطور الذي أضحى يعرفه العالم مركزا على السياسة والاقتصاد والاجتماع كسبل يهتدي إليها لاستشراف المستقبل، ويتخذ من مقولة مقتبسة من مقدمة بن خلدون –“وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، وإذا تبدّلت الأحوال جملة فكأنما تبدّل الخلق من أصله، وتحوّل العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث”- مُنطَلقا يَجد القارئ في مضمونها ظل الكتاب، وكأن بوادر عالم جديد قد لاحت في الأفق.  

  1. إعادة التصور الأمريكي للعلاقات الدولية: النفعية والأنانية صنوان  

  ما إن نتجاوز توطئة الكتاب “عالم بلا معالم” ونبدأ في الغوص بين ثناياه، حتى ندرك أن منطق الهيمنة والانتصار والمصالح لا حصر لها في عقل القوى الكبرى، وهو ما تجسّده المواجهة بينهما في حلبة الشرق الأوسط والردود الناجمة عنها بما تحمله هذه الردود من توازنات ترادف التسليم والاستكانة والخضوع لمن وجد نفسه مهزوما أو خارج الحلبة، وأساس ضبط التوازنات والتحكم في صناعة القرار الدولي مرده إلى القوة العسكرية والاقتصادية وهي الأركان المكتملة في الولايات المتحدة الأمريكية، ” فضلا عن التربية والتكنولوجيا أو القوة الناعمة التي تجعل الآخر يقبل بها ويرضخ لتأثيرها ويسعى لها”[1]، حيث أخذت الولايات المتحدة الأمريكية تمارس نفوذها على العالم ليس من باب القوة العسكرية فقط، وإنما من خلال التأثير أي ما يسميه صاحب الكتاب الانتقال من القوة الصلبة إلى القوة الناعمة، لذلك بدت الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب الباردة ” مرجع تنظير العالم، إذ كل النظريات التي قدمت كبراديغمات للعالم برزت داخل كنفها من قبيل القوة الناعمة، والنظام العالمي الجديد، ونهاية التاريخ وصراع الحضارات والمحافظين الجدد”[2]، فعنصر القوة الناعمة وجد ضالته على المستوى الاقتصادي في ” التجارة الحرة مع تنظيم (NAFTA) مع كل من كندا والمكسيك، ومجموعة حوض الباسفيك أو أيباك، وإبرام اتفاقات للتبادل الحّر مع دول العالم “[3]، أما على المستوى السياسي فقد ارتبط بمرجعية حقوق الإنسان ومنظمة الأمم المتحدة والديمقراطية باعتبارهما مداخل للقولبة أو قل الأمركة.

 ما إن استيقظت الو.م.أ على أحداث 11 سبتمبر حتى يكون معها عاملي الإقناع أو النموذج الأمريكي خارج دائرة أولوياتها، فالمحدد بالنسبة لها أضحى يرتكز على القوة، ولم تعد حقوق الإنسان هاجسها، إذ سرعان ما جنحت إلى التمهيد للحرب على العراق و “التعامل مع أنظمة قوية وفظة ولم يعد المسؤولون الأمريكيون حين يحلون بدول العالم الإسلامي يتوقون للحديث لفعاليات المجتمع المدني ومثقفيه، بل إلى رجال أمنه وقادته العسكريين”[4]، برعاية المحافظين الجدد لما اعتبرته إيذاء لكرامتها. ففي محاولة تلميع النموذج الأمريكي مع الولايتين الرئاسيتين الأولى والثانية لأوباما “انصب اهتمام هذا الأخير على انقاذ المنظومة الليبيرالية المترتبة عن الأزمة المالية لسنة 2008 من خلال ضخّ أموال لإنقاذ بنوك وشركات السيارات وكبريات الشركات الأمريكية، كان نوعا من التأميم ولو هو مرحلي، وكانت تلك الإجراءات على طرفي نقيض من سردية الخيار النيوليبيرالي”[5]، أما على مستوى العلاقات الدولية “فقد قطع أوباما مع خيارات المحافظين الجدد، وتبنّت إدارته نصّا مؤسّسا يحدد توجهات الولايات المتحدة -استراتيجية الأمن القومي في زمن التحولات الكبرى-2010، يعيد للدبلوماسية المتعدّدة الأطراف دورها وأَلقْها، ولا يعتبر العامل العسكري العامل المحدّد في الهيمنة وينأى عن سياسة التدخل لتغيير الأنظمة أو قولبة المجتمعات وينحو نحو عالم متعدّد الأقطاب لأنه السبيل الذي من شأنه أن يحدّ من الغطرسة حسب تعبيره”[6].

  استتبع نهاية ولايتي أوباما بعدما عجز هذا الأخير عن تغيير الأمور منعطفا ارتضى خيار التّشرنق على الذات بدعوى أن أمريكا تشبه ذلك الرجل الذي سئم من كثرة الإنفاق على أولاد كلهم عاقين له، وأنها لم تعد قادرة على تحمل أزمات وتسخير خدمات هي غير مسؤولة عنها بالبتة. هكذا استهلت ولاية ترامب بنسف ما بناه أوباما، إذ تُعد أمريكا من منظور ترامب ضحية، وهو الأمر الذي لم يتردد في الجهر به في عدة خطب له، فعلى سبيل المثال الخطاب الذي أورده المؤلف والمقتبس من خطاب ألقاه لحظة تسلمه مسؤولية البيت الأبيض سنة 2017 والذي يقول فيه ترامب” لعقود من الزمن عاشت بلادنا على أكبر سرقة لمناصب الشغل عرفها التاريخ. وأنتم جمهرة الشعب في بنسلفيا تعرفون ذلك أكثر من أي شخص آخر. معاملنا تشتّت، ومركبات الصلب أغلقت، ومناصب الشغل سرقت منا إلى عدة بلدان، منها ما لم تسمعوا بها قط. ثم بعث السياسيون فرق جيشنا لحماية أمم أجنبية وتركوا حدود أمريكا مُشرعة يخترقها من هبّ. صرفنا مليارات الدولارات، إثر مليارات، لمشروع تلو المشروع، وتركنا جحافل الرعاع تجتاح بلادنا، وعجزنا عن ضمان الأمن لشعبنا. سارعت حكومتنا للانضمام في اتفاقيات دولية حيث تدفع الولايات المتحدة المساهمات وتتحمّل العبء، في الوقت الذي يستفيد الآخرون ولا يؤدّون شيئا”[7]، ولئن كان شعار “أمريكا أولا” اتخذ كمسار للوجه الجديد لأمريكا، أي ما يصفه صاحب الكتاب “بالترامبية”، فإن الشق الثاني من هذه الظاهرة تجسّد في الخطاب الشعبوي وهو “التجني على الآخرين: الصين، الهند، أمريكا اللاتينية، ثم المهاجرين”، إضافة إلى “تماهيه مع قادة غير ديمقراطيين، وأفظاظ كما ديكتاتور الفلبين دوتيرني أو حاكم كوريا الشمالية كيم، ولا يتأذّى من سياسة بوتين، ويعلن صداقته ودعمه لمن يعتبر صورة له، الوزير الأول لبريطانيا بوريس جونسون، ورئيس البرازيل بولسونارو، والوزير الأول الهندي مودي”[8]، كما يختزل العالم العربي في السعودية ومصر ضاربا عرض الحائط قواعد القانون الدولي.

  • استئناف الحرب الباردة

   إذا حاولنا تتبع ما جرى ويجري إبان ولايتي أوباما وولاية ترامب، فإن أحدا لا يملك أن يجحد حقيقة بروز بداية حرب باردة، ما يؤكده صاحب الكتاب، إذ لم تعد هذه الأخيرة مقترنة بثنائية الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، لأنه وإن كانت روسيا اليوم تروم بزعامة القيصر بوتين إلى استرداد عظمة الاتحاد السوفييتي، فإن “المجال الوحيد الذي تتوفر فيه على تميّز تفضيلي هو صناعة الأسلحة، أي أن صادرتها الكبرى هي السلاح في الوقت الذي لم تعد القوة العسكرية هي محدّد العظمة”[9]، ناهيك عن افتقاد روسيا “لقوة ناعمة لا على المستوى التقني، أو الاقتصادي، أو نظام العيش المشترك، بعبارة المؤلف  ليس لها بما يسمّى ب [10]American way of life، وإلى ذلك فإن بوادر الحرب الباردة في نسختها الثانية استبدلت الاتحاد السوفييتي بالصين، حيث ” تعتبر الصين الدولة الأولى في العالم المستفيدة من العولمة، إذ أصبحت معمل العالم لتتحول بعدها إلى مموّل عالمي، وإلى بؤرة تكنولوجية((Hub”[11] ما جعل الولايات المتحدة تنظر إليها كخطر يتهدّد مصالحها، عبّر عن ذلك بنبرة حادة أوباما في خطابه سنة 2015 بالقول: “تريد الصين أن تغيّر القواعد الناظمة للمنطقة التي تعرف أكبر نمو سريع في العالم. لماذا سنتركها تفعل؟ ينبغي أن نكون نحن من يكتب القواعد”[12]، وذهبت إدارة ترامب إلى تصميم سياسة جزرية من خلال فرض عقوبات تجارية منذ سنة 2018 كان أبرزها العقوبة التي فرضت على شركة هواوي.  ففي هذه الأحداث وعلى مقاس تطور حدتها فمن المرجّح حسب الكاتب أن يكون العالم حلبة صراع بين الولايات المتحدة والصين كصورة مستأنفة لما كان ينعت بالحرب الباردة.  

  هل في هذا الانزياح نحو بروز ثنائية قطبية جديدة ما يفيد التسليم باختلال ميزان القوى لصالح أمريكا والصين؟ إذا كان الجواب بالتأكيد، فما مصير الاتحاد الأوروبي والقوى المؤثرة داخل حلبة الشرق الأوسط؟

  • لاعبو  الاحتياط والموت البطيء للاتحاد الأوروبي

   يعتبر المؤلف أن الاتحاد الأوروبي عاش بداية تصدّعه منذ أزمة اليونان 2008 إلى حدود خروج بريطانيا (البريكسيت)، ما أدى إلى ظهور مشاكل اجتماعية عويصة، فأمركة الاتحاد حسبه “انتهت بتآكل ما تراكم في أوروبا من نموذج اجتماعي يقوم على ضمان الشغل ومحورية المرفق العمومي والدور الفاعل للنقابات. لكن أمركة أوروبا، ذهبت إلى تبني مرونة الشغل، أي عدم ضمان استمراريته، والانتقال من المسار(Carrière) إلى العقد(Contrat) والتخفيف من النفقات العامة، وتفكيك الضمان الاجتماعي، هذا فضلا عن سياسة الخصخصة وما ترتّب عنها من تسريح للعمال”[13]، فهل في معنى ذلك، أن الاتحاد الأوروبي لم يعد قوة مؤثرة داخل النظام العالمي؟ بلغة الكاتب والمستوحاة من هوبير فيدرين فإن الاتحاد يعيش وضعية شلل استراتيجي، يُشبّهُهُ بحالة جبل عظيم سفحه من صلصال. أما الشرق الأوسط المعقّد بلغته، تبرز فيه ثلاثة قوى فاعلين يسعون إلى توسيع دائرة نفوذهم؛ إيران وأحلام التوسّع منذ سنة 2006 حينما صدّت كتائب حزب الله القوات الإسرائيلية وانتشار مذهب التشيع كإيديولوجيا داخل العالم العربي، تركيا وطموح امبراطورية عثمانية جديدة، ثم إسرائيل التي أضحت في وضعية مريحة تطمئن وجودها باعتبارها الديمقراطية الوحيدة داخل الشرق الأوسط، زد على ذلك تراجع محورية القضية الفلسطينية على مستوى الحكومات، خاصة بعد الإعلان عن صفقة القرن.

   ولئن كانت هذه القوى تتغذى على مبدأ التوسع والتدخل فيما يجري من أحداث والتفاعل مع المستجدات الدولية والتأثير من باب الأفكار والقيم والسّلع، فإنه سرعان ما تجد نفسها بشكل أو آخر متماهية مع إحدى القوى العظمى الصين أو الولايات والمتحدة، مما يجعلها لم تبلغ بعد مرحلة التأثير وإتقان لغة الإملاء وهي لغة يتكلم فيها الأقوى والقوي هو الذي يملي ويصغى له ويمتثل لأوامره وهو ما تشكله كل من الولايات المتحدة والصين. أما العالم العربي فيعتبره الكاتب موضوع تفكير القوى الكبرى لا يملك من زمام الأمور سوى استقبال ما يملى عليه وتنزيله عن بصدر رحب  في وضعية ميؤوس منها وكأن لعنة سيزيف لا زالت تلاحقه.

  قد يبدو من الناحية السياسية أن الولايات المتحدة أو الغرب بصفة عامة يتفوق على باقي القوى العالمية بما فيها الصين من جانب اعتبار أن جغرافيته تعد البيئة الحاضنة للديمقراطية، إذ تعد -الديمقراطية-أحد محددات هويته -الغرب- ومعبّرة عن قيمه يسعى من خلالها استدراج دول العالم للانغمار في ترسيخ سردية الغرب الأنموذج، فهي أشدّ جاذبية للانتباه لما تنطوي عليه من أفكار تؤدي إلى عقلنة السلطة والقطع مع الحكم المطلق، بيد أن هذه الدعوة بقدر ما حققته من نجاح في البدايات منذ الستينيات من القرن الماضي، فإنها أصبحت واهية، لتغتال وتزدري في عقر الجغرافية التي نمت فيها، بعبارة المؤلف أصبح الغرب يعيش كساد ديمقراطي على مستويين؛ الأول، من “خلال إخفاقه في نشرها، أي أن ما اعتبره محدّدا لهويته ونزوعه(vocation) ورسالته، وهو نشر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في العالم توارى لفائدة اعتبارات أمنية، بفعل مخاطر الإرهاب”[14]. الثاني، “القطيعة فيما بين النخب والشعب، وعزوف الناخبين عن الاقتراع، وسيادة الخوف والتوجس”[15]، ففي معرض هذه الحوادث وحبكة الصلات بينها ستعرف الديمقراطية حالتين من الزيغ حسب الكاتب جسدت الأولى بالنسبة إليه “حينما ارتهنت للرأسمال أو الليبيرالية الاقتصادية فأصبحت تكنوقراطية، أي حكم التكنوقراط، والحالة الثانية تلك التي أفضت إلى ديمقراطية غير ليبيرالية، تستند في شرعيتها على الشعب وتحيل إليه ولكنها ترفض التعددية ودينامية المجتمعات ومسار التاريخ، هي ما ينعت بالشعبوية”[16].

  • أزمة الديمقراطية الليبيرالية 

  ألحقت النزعة الشعبوية أضرارا  بالديمقراطية حينما سارعت إلى احتكارها في قول معيب ” نحن الشعب، وليس أننا من الشعب”، وكأن المضمر في هذا الخطاب يروم إلى قولبة الديمقراطية بالسلطوية بما يفيد استيعاب الأولى للثانية وتجاوزها في آن واحد، فكان يسيرا على هذا الشعب أن يلجأ إلى الشارع كحلبة للصراع وفاعل جديد “لفضح سلطة المال، وعجرفة التكنوقراط، وبطش الأمن “[17] على حدّ قول المؤلف ” فقوّة الشارع في عفويته ممّا تتيحه وسائل التواصل الحديثة. سرّه في استماتته، وسلاحه في سلميته”[18]، تحرّك في إيسلندا سنة 2008 وأجبر الحكومة على تقديم استقالتها، ثم ما إن لبث أن أعاد الكرة في الولايات المتحدة مع “احتلووا وول ستريت” وفي إسبانيا مع حركة “غاضبون” وفي العالم العربي مع الانتفاضة التونسية “الربيع العربي”، حتى تكون معه أركان شعار “الشارع هو الصرخة حين يخبو الأمل” قد اكتملت.

  صادف تحرّك الشارع والتي ابتدأت إرهاصاته من كنف الإنترنت تحوّلا على مستوى وسائل التكنولوجيا الرقمية، إذ تحولت بين عشية وضحاها إلى سلاح للأخبار الزائفة وأداة من الأدوات السياسية لقولبة الرأي العام، و وسيلة للمراقبة، “ففي ظل تغوّل أجهزة الرصد والمراقبة، قامت علاقات وطيدة ما بين أجهزة المراقبة هذه والنخب التقنية، ليس في المجال الأمني وحده، حيث لا تستند قوة التكنوقراط على معرفتهم وشبكتهم مع نظرائهم العالميين فقط، ولكن كذلك من خلال التغطية الأمنية التي يتمتّعون بها. تقوم علاقة وثيقة بين التكنوقراط والأجهزة الأمنية، ويشكّلان كلاهما أوليغارشية متنفذة، ضدّ الإرادة الشعبية، يتصيّدان العناصر الحرّة بالتضييق والتشويه، ويحدّان من ثمة من دور المثقف، خاصة المجتمعات التي تعرف مخاضا ومراحل انتقالية”[19]، تلك هي نبوءة الأخ الأكبر الذي تنبأ بها جورج أورويل في روايته “1984”.

  إذا تجاوزنا الفوارق الشكلية بين ما يعيشه العالم من أحداث وتحولات وأزمات، أمكن القول من داخل هذا الكتاب أن جزءاً من مسببات هذه الأحداث والأزمات يرتبط بالاقتصاد، إذ أضحى هذا الأخير مع الليبيرالية “ممارسة رأسمالية جشعة غير إنسانية تضرب بعرض الحائط العدالة الاجتماعية وتروم الربح واستغلال الضعفاء”، وتكمن الخطورة مع النيوليبيرالية حسب ستيغليتز كما ورد في الكتاب، في أنها “تتهدّد المنظومة الديمقراطية، إذ أن الفوارق الاقتصادية تتحول إلى فوارق سياسية، وتتحول هذه الأخيرة إلى قوانين ترسّخ الأولى”، والحال أنه لا تنمية بدون اقتصاد، ففي خضم ما أفرزته المنظومة الاقتصادية العالمية من تفاوتات، تغيّر اتجاه الهجرة من بلدان الجنوب نحو بلدان الشمال مما زاد من الطين بلة، تولّدت معها مشاكل عدة من قبيل صعوبة الاندماج وتفشي ظواهر مثل ما بات يعرف ب”الإسلاموفوبيا”، ولئن كان الاقتصاد يقوم في جزء منه على الرأسمال البشري، فإن النمو الديمغرافي في دول الغرب يعرف تقهقرا خاصة في دول أوروبا، ما يعزز أن هذه الأخيرة “في حاجتها إلى اليد العاملة وإلى العقول  وإلى التخصيب”، على عكس دول الجنوب خصوصا إفريقيا التي تعرف طفرة ديمغرافية غير مسبوقة، فأمام هذا الوضع يستحيل لأوروبا السير قدما أمام ما تسنه من سياسات تضاد المهاجرين، إذ في مجتمع شائخ حسب الكاتب يستحيل لأوروبا أن تحل مشاكلها بسوء تشخيصها اتجاه افريقيا باعتبارها المستودع الديمغرافي للبشرية، هكذا تنبأ حسن أوريد في خاتمة كتابه “عالم بلا معالم”. فلنترك للمخبوء أن يكشف لنا مستقبل هذا العالم الجديد الذي لم تتحدد معالمه بعد.


[1] – حسن أوريد، عالم بلا معالم، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى2021، ص 29.

[2] – نفسه، ص 29.

[3] – نفسه، ص 35.

[4] – نفسه، ص 37 38.

[5] – نفسه، ص 49.

[6] – نفسه.

[7] – أورده المؤلف في ص 55، حسن أوريد، عالم بلا معالم، مرجع سابق.

[8] – نفسه، ص65.

[9] – نفسه، ص 126.

[10] – نفسه، ص 126.

[11] -نفسه، ص 86.

[12] – أورده المؤلف في ص 90، حسن أوريد، مرجع سابق.

[13] – مرجع نفسه، ص 145.

[14]– نفسه، ص 230.

[15]– نفسه، ص 231.

[16]– ص 247.

[17]-نفسه، ص 156.

[18]-نفسه، ص 157.

[19]– نفسه، ص 312.