الاختلاف والمساواة: تناقضات اللاوعي الجمعي

لساندرو جيندرو SANDRO GINDRO

ترجمة: زينب سعيد


لايمكن تجاهل أهمية علم النفس الحركي؛ فقد يتم التشكيك في صلاحيته، لكن يجب الاعتراف بالأهمية التي بات يحتلها، وبالتالي يجب أن نضع في الحسبان التراكم العلمي الذي أنتجه، من خلال ما تحدث عنه المحللون النفسانيون.

لقد اتسمت أحكام المحللين النفسانيين بالمجازفة في مجملها في حق هذا العلم، حيث أنها قد توصف النفس البشرية بطرق عديدة وربما متباينة. فالتحليل النفسي على كل حال لديه ايجابياته؛ أهمها القدرة على الالتزام، فقد يقول المحلل النفساني أشياء مشكوكا في صحتها إلى حد ما، لكن تخصصه هو دائما حشد الأسباب العميقة للسلوك الإنساني. 

هذا موقف شجاع ومفيد في الحقل العلمي، بالنظر إلى أن العلوم غالبا ما تكون ضحية اللامبالاة والعبث والخوف من النقد السلبي.

كان موقف التيار المسمى بـ”السلوكية”، في الحقل النفسي،  موقفا مشوشا وغير علمي. فقد حاول ممثلوا هذا التيار، وبالاعتماد على الأوهام الوضعية للقرن التاسع عشر، اختزال البحث النفسي في الملاحظات الخارجية للمعطيات المتوقع أن تكون “ملموسة” ومأخوذة من السلوك الحيواني. خشي كل من واطسون وبافلوف التأمل الداخلي المتصف بالذاتية، حيث إنهما تنكرا لوجود القيم والمعتقدات الداخلية الموجهة للسلوك الفردي، وتنكرا لوجود القدرات الفطرية المسبقة، واعتبروه-أي التأمل الداخلي- غير مؤكد وتجريدا غير قابل للملاحظة والقياس. بالنسبة لمؤسسي السلوكية تكفي الملاحظة الخارجية لسلوك الكائن الحي  للوصول إلى المعطيات الدقيقة للبحث وذلك بالاعتماد على القاعدة التي يتم على أساسها تأسيس التقييم اللاحق والتجريب في سلسلة غير منتهية. غير أن هذا الموقف لا يعطي اعتبارا بأن الأرقام الإحصائية والمعطيات التجريبية غير قابلة للتقييم خارج أي ترجمة، حيث تبقى في غيابها أرقاما ورسومات بيانية مجردة من أي معنى. 

ورث مجمل علم النفس التجريبي موقفا غير مقبول علميا من السلوكية لأنها لا تمتلك القدرة على انتزاع خلاصة من ملاحظات تتجاوز الوصف البسيط للظواهر في ذاتها. ذلك أن الوصف الحقيقي والبسيط لا يسمح بتقدم البحث، لكنه يؤدي في نهايته إلى “ميتافيزيقا دوغمائية” لعلم مبني على الإحصاء. بينما يبدو أنه من الأفضل لتقدم العلوم وجود ما أسميه أنا “الميتافيزيقا النقدية” التي تنطلق من المعطيات لتصل إلى ما وراء الواقعية النسبية، واضعة نفسها محل انتقادات حيال مقاييس نفس الثقافة المهيمنة. فقد كان سبب ظهور  آخر محاولات السلوكية هو الرد على الانتقادات الناتجة عن الجمود الدوغمائي التي تبدو في صورة تكيف محتشم  لمنطق اللامبالاة العقيمة علميا . 

يهتم التحليل النفسي باللاوعي، الذي يعتبر النظر إليه دائم الحضور في الثقافة الغربية {لا أريد التطرق إلى هذا الموضوع في علاقته بالثقافات الأخرى التي لا أعرفها جيدا}؛ يكفي استحضار أسطورة تراتسكيبيوس لدى الإغريق القدماء التي تحكي عن متنافس بمدينة أوليمبيا في السباق بعربة الخيول والذي كان يخرج عن المسار كلما اقترب من خط الوصول بسبب خوف الخيول أو بسبب اقتراف خطأ يفقده كل شيء . فقد تشكلت أسطورة “مفزع الخيول” على إثر هذا الحادث، وهي تلك الروح الشريرة… ليس من الصعب التعرف من خلال كل هذا على الميكانيزم النفسي الذي سماه التحليل النفسي فيما بعد بـ”الفرصة الضائعة”. أي فعل غير مرغوب فيه بوعي يلحق الضرر بالانسان الذي يقوم به. هو فعل صادر عن اللاوعي.

إن مفهوم اللاوعي حاضر في ثقافتنا منذ زمن بعيد قبل وجود مؤسسي التحليل النفسي؛ حيث تحدث فلاسفة مثل ليبنتز وشيلينغ بطريقة واضحة عن هذا الموضوع محددين بعض الخصائص المميزة ومعرفين وظيفتها الهامة  بالنسبة للكائن البشري. لكن ما أريد تأكيده هنا هو أنه لا يمكن للاوعي الفردي ، حسب رأيي أن يكتسب معناه التام إلا في حالة فهمه كـ”لاوعي جمعي”، فأنا مقتنع تماما أن اللاوعي هو ثمرة التفاعل بين الفرد والمجتمع.

إنني أولا وقبل كل شيء ثمرة تاريخي الجيني، وبعدها ابن المجتمع الذي بناني وبنى حتى لاوعي. لا أريد أن أنتحل مزايا لا أملكها: كان اللاوعي الجمعي موجودا سابقا بطريقة ضمنية أو واضحة في فكر مؤسسي التحليل النفسي الكبار، فقد قال كل من فرويد ويونغ نفس الشيء في العمق. حيث يبدو أن الأول هو المنظر للاوعي الفردي ولكن ليس صحيحا. فالواقع أنه، حينما تحدث عن “اورفناتازيا” فانه كان يقصد بها الأوهام الأصلية التي لا تتطابق مع تجربة واقعية، ولكن هي ذكرى فتنة متجذرة في القدم انتقلت عن طريق ميكانيزم التطور الجيني وبالتالي بطريقة أو بأخرى تروم إلى إرث اللاوعي المشترك. “أعتقد أن هذه الأوهام الأولية {…} هي الشفرة الوراثية للتطور الجيني. تسمح للفرد بتخطي تجربته الفردية، ليستفيد من تجربته الجنينية”[1].

هكذا عمل يونغ بدوره، وهو المنظر للاوعي الجمعي وللأشكال البدائية للحدس. “فالفرد ليس، قطعا، كائنا في ذاته، كائنا معزولا،  لكنه كائن اجتماعي أيضا، بهذا فالفكر الإنساني ليس كينونة وحيدة وفردية بحتة، لكنه ظاهرة جماعية أيضا {…}. هكذا يمكن شرح كيف أن لاوعي الأجناس والشعوب القديمة تمتلك قدرا كبيرا من التوافق  فيما بينها، خاصة إذا تعلق الأمر بالأشكال والرموزالأصلية”[2].

يقول الاثنان نفس الشيء: لا توجد هناك تجارب فردية، توجد تجارب جماعية تتحكم في حياة الفرد. وبعدها يركز الاول على الفرد الوحيد في حين يركزالاخرعلى الجماعة. وفي النهاية فإن النموذج الاصلي للحدس الذي تكلم عنه يونغ ماهو إلااوهام فرويد.وبذلك  فنظريات الاثنين محدودتين لاعتبارهما اللاوعي حقيقة مطلقة، قد تكون جامدة، خارج التاريخ وقبله. حتى ان يونغ قد تحدث عن اللاوعي بطريقة مشابهة: للافكار الافلاطونية.

على هذا الأساس، ستكون لمفهوم الذكر دائما، مثلا، نفس الخصائص التي يمتلكها مفهوم الأنثى. طبعا، كل شيء مرتبط إلى حد ما بالحقبة التي تم التنظير فيها لهذه المبادئ، التي كانت مفيدة على كل حال.

عزل التحليل الفرويدي مظهر  اللاوعي الفردي، مهملا نظيره الاجتماعي. قد ذهب الفكر اليونغياني ابعد من ذلك منظرا للاوعي الجمعي. انا اليوم اسلم بمفهوم “اللاوعي الجمعي”. هذه هي الحقيقة التي اكتشفتها في ملاحظة العالم ومن خلال التجرية العلاجية.

المفهوم الذي اريد توضيحه جد مركب، اسمح لنفسي باستعادة مثل. هناك حلم معروف يحكيه كل المحللين النفسانيين من يدري كم من مرة يحكونه، ويتعلق الأمر بشخص يحلم بأنه يقطع مبنى مجهولا، يمر بالدهاليز ويدخل القاعات ويخرج منها، يصعد الدرج وينزله، يلتقي باشخاص. الترجمة المبسطة ستكون هي: انك حلمت تحليلك، حلمت المشي في لاوعيك. لكن، حسب رايي، فاللاوعي هنا يعبر بقول حقيقة شفافة: الحالم داخل هذا المبنى، وليس العكس. مغامراته وصعوده ونزوله وغموض الانفاق التي يمر منها هي اللا وعي الذي يحيط به. اذن نحن بداخل اللاوعي وليس العكس أن اللاوعي يوجد بداخلنا. لهذا فالتحليل النفسي لا يجب أن يكون علما يعتبر الفرد موضوعه الوحيد، ولكنه حتما علم اجتماعي، يجب أن يستعمل مقاييس لا تقتصر على تحليل التاريخ الفردي، لأنه لن يكون مفهوما خارج علاقة فرد-مجتمع.

أعتقد أنه من المفيد أن نستلهم بهذا الخصوص بعض ملاحظات فيلسوف لم يعد اليوم ذا شعبية: كارل ماركس، الذي نظر للاوعي الجماعي قبل يونغ. بالنسبة لماركس الحقيقة الاهم هي الحقيقة الاقتصادية بمعنى حقيقة علاقات الانتاج. هذه هي البنية الاساسية التي على اساسها تبنى باقي الهياكل والمنظومات، التي هي الفن والدين والاخلاق والفلسفة والسياسة نفسها، لكنها تعتمد دائما على الوضعية الاقتصادية. كل هذا يشكل نوعا من اللاوعي الجمعي الذي على الفيلسوف توضيحه للناس، جاعلا اياهم يفهمون حقيقة امر هو ان لكل دين هيكل اقتصادي محدد يتناسب معه، هكذا هو الحال مع المجال الفني، الذي يعد ثمرة نوع  محدد من العلاقة الانتاجية وهكذا دواليك.

إن الانسان، بالنسبة لماركس، يتطور عبر التاريخ، من خلال ميكانيزم دياليكتيكي. حيث إن المنظومات ليست ثابتة؛ كل شيء يتغير، يتطور يتقدم أو يتراجع لكن رغم ذلك يتحول. ليست هناك صور نمطية ثابتة. في نظري هناك شيء اعمق للاضافة:  فالعلاقات الإنتاجية ليست أساس الحقيقة الإنسانية؛ بل هناك شيء سابق، شيء أعمق: هو الاحتياجات.

فقد وضع ماركس الاحتياجات في الأساس، لكنه ربطها ميكانيكايا بقوة بعلاقات الانتاج وبالبنية الاقتصادية. فالاحتياجات أعمق من ذلك ولا يمكن تحقيقها تماما عبر تطبيق الميكانيزم الاقتصادي.

الاحتياجات لا تخضع لميكانيزم علاقات الانتاج: الاحتياجات هي احتياجات.

يتم التعبير عن الاحتياجات، إذن، من خلال الرغبات، والرغبات توضع في قمة القيم التي تكون ربما في علاقة بالقوانين الاقتصادية. بمعنى أن هناك حاجة هي أساس كل شيء، تليها الرغبة ثم القيمة، فالعلاقات الاقتصادية، والوضعية الاقتصادية فالقيم من جديد وهكذا دواليك، وربما تعاد نفس الدورة  في دائرة لا متناهية.

في هذه الحالة، التي عرضتها جيدا وبشكل عام، هناك أسباب دفعتني لاختيار مفهوم اللاوعي الجمعي”، حتى أميزه عن نظيره الجماعي ليونغ.

اللاوعي ليس بداخلي لكنه موجود بيني وبين الاخرين. موجود في المؤامرات غير الملموسة، فأحكام الوالدين، والكهنة، والمدرسين، بنوا، رويدا رويدا، القيم التي وجد عليها كل واحد منا؛لهذا فاللاوعي، الذي يعتبر تجمعا للرغبات والغرائز، يتأتي أي نعم من التجارب الشخصية، وحتى من الرسائل المرسلة من المجتمع الذي نعتبر جزءا منه. يمكن القول إن اللاوعي ينشأ من القيم الموجودة منذ الولادة ومن التجارب المعاشة. فالقيم ليست مختارة في الأول. لكنها كانت موجودة في البيئة المحيطة والتي تم قبولها أو تم رفضها فيما بعد. هناك اعتقاد سائد بأن الرفض الواعي لعوامل بعينها ولقيم يؤدي إلى التحرر التلقائي من  تأثيراتها. فأي موقف  رفض يتمثل حتى في تغيير جذري لموقف يستمر الاعتماد عليه بطريقة أو بأخرى.

فالحرية المطلقة غير ممكنة؛ ومعارضة عوامل معينة يعني الانطلاق دائما من نقطة بعينها، لديها معنى وقيمة معارضة لباقي المعاني والقيم الأخرى التي يراد استعادتها. لا أحد يؤسس نظام قيمه على  اللاشيء. فمن الضروري إذن، الأخذ بعين الاعتبار الحركات الايجابية والسلبية على حد سواء، والمحددة في أي لحظة للاختيارات الفردية والجماعية.

فاللاوعي الجمعي، ليس ثابتا ولا جامدا بل يتطور، ويتقدم. إنه يتخلل الكائن البشري بمبادئه. يؤثر فيه، يغيره، ويشكله. كما قلت سابقا، حيث إن التأثيرات تبدأ من الجنين في بطن أمه حتى من أول مشاعره وأحاسيسه؛ قبل الولادة بكثير. وتنضاف المنبهات الآتية من الخارج إلى تلك المحتويات الموجودة في العدة الجينية منذ بداية الحمل ويتم استقبالها من طرف الجنين. وتدخل في عمل التأثيرقبل الولادة، لتصير فيما بعد تلك العلاقة الموجودة بين الفرد والعالم؛ بين التأثير ومحاولة التحرر من التأثير. وتنبع مفاهيم الخير والشر من هذا التبادل، القبول والرفض، تنضاف إليها باقي المفاهيم في ما بعد. وبالتالي حتى مفاهيم الاختلاف والتشابه، التي تعتبر مركز اهتمامي هي مفاهيم شهدنها، شعرنا بها، داخليا وخارجيا، من الأول: لا أقول منذ الولادة بل منذ زمن بعيد قبل الولادة، لا أعرف تحديدا بدايته، ربما حين كان الأنا متواجدا في خلايا الآخرين، خلايا الأسلاف والآباء، خلايا الحالمين والمغنيين والمحبين، أعني بكل ببساطة، خلايا الكائن الحي.

فيما يخص الاختلاف والتشابه، فهي أيضا مفاهيم فلسفية، حتى إنها أساس المنطق الغربي. يقول سقراط: “أ هي أ وليست هي لا-أ”. فلقد اعتبرت هذه ولمدة طويلة مفتاح الدخول للمعالجة المنطقية للكائن البشري. واليوم لم تعد قطعا صحيحة؛ لكن ميكانيزم التفكير يبقى حتما في إطار المعنى السائد، هو هذا إلى حد ما. اذا كانت “أ” ليست هي لا-أ” فصحيح  إذن أن “أ ليست هي ب”. فالتأملات الفلسفية لها أهمية منهجية كبيرة؛ لكن على السيكولوجي والسوسيولوجي والانثروبولوجي أن يأخذوا بعين الاعتبار ما يفكر فيه الناس عادة. فقد وقفنا جميعا عند المفهوم الارسطي للاختلاف والمساواة، إلى حد أنه استمر في تمييز وحتى تقييم باقي الكائنات البشرية التي ندخل معها في علاقة. هناك أشخاص نعتبرهم متشابهين معنا وآخرين نعتبرهم مختلفين عنا. فما هي المعايير التي على أساسها نقرر إن كنا سنعتير الآخر مشابها لنا أو مختلفا عنا؟

فقد وجدنا الاختلاف والتشابه فينا أولا، وجدناه متجذرا ومجتمعا من طرف جماعتنا الاجتماعية.والتأمل فيهما يحيلني على قدرة فهم أن تشكيل مفاهيم الاختلاف والتشابه له فائدته.  فائدة اقتصادية واجتماعية بالأساس،  لا يمكنني التطرق إلى هذا الموضوع الآن. من وجهة نظر سيكولوجية، يجب أن يكون المختلف مفهوما على هذا النحو لإمكانية استغلاله بشكل جيد. فدائما ما يتم التفكير، بوعي أو بغير وعي ،حينما يقال إن أحدا مختلف عنا، بانه دوني. وبالتالي فإن كان دونيا يمكن السيطرة عليه. هذا صحيح حتى النخاع: أراه دائما في عملي على مرضاي، أراه في أحلامهم، وأوهامهم.على الرغم مما يبدو أن الوعي المعاصر قد تجاوزه، فإن عامل الاختلاف الأساسي الذي يطفو على السطح مباشرة هو دائما لون البشرة. فحتى الأشخاص الأكثر تحررا اجتماعيا والديمقراطيين يفهمون أن المختلف هو ذو لون مختلف.  ورغم كل شيء فإننا مازلنا في عتبة ما قاله جوبيرتي: السود هم كائنات دونية لأن بشرتهم سوداء، فالأسود هو المناقض للضوء، الذي تم ترميزه باللون الأبيض.

بذلك، فالمختلفون هم أيضا مفيدون لأنهم يعطون الإحساس بشرعية استغلالهم؛ لكن مفهوم الاختلاف له وظيفة أخرى بالنسبة للاوعينا الجمعي، نحن في الواقع بحاجة إليه من أجل ايجاد هويتنا. الآخرون هم المختلفون، المتناقضون معنا، ونتناقض بدورنا معهم. والأنا، في هذه اللعبة الدياليكتيكية، تجد هويتها وتبنيها. أنا أعرف، أو على الأقل أظن أنني أعرف، ما هي حدود لا وعي الفردي، ولاوعي الجمعي وشخصي، بكل عاداتها واستعمالاتها وتقاليدها. لدي هويتي، التي أعرف بها، التي تميزني عن الآخر. من أجل إرضاء حاجة الهوية هذه يجب التأكيد على اختلاف الآخرين، حتى ولو استدعى الأمر ابتكارها. هذا ما كان عليه الحال بالنسبة للأفراد وبالنسبة  للجماعات الاجتماعية.

هناك  مظهر آخر يجب وضعه في الحسبان ألا وهو: الجاذبية التي يمكن أن يمارسها المختلف، ذو طبيعة جنسية في غالبها.

فالمختلف، في الواقع، يمارس جاذبية قوية في اللاوعي: فأكثر أعمال العنف اتجاه “المختلفين”  مثلا هي أيضا عبارة ثأر ليتم توهمهم كمغتصبين، أو مرغوب فيهم جنسيا؛ وحتى هذا خطاب معقد وصعب. بالإضافة إلى أن الاختلاف يخيف لأن اختلافه يضع هويتنا في أزمة، بنفس الطريقة التي يؤكدها بها. 

في عالم متجه نحو التعدد العرقي، والتعدد الديني، حيث إن الاختلاف يجعلنا حتى نحن مختلفين باستمرار. فمن أكون أنا إن كنا مختلفين جميعا؟ ربما يعني هذا أننا سواسية. هذه نقطة أخرى: المساواة تخيف بدورها أكثر من الاختلاف؛ لأن الرقابة تكون هنا أقل.

قيل إن التشابه يقلق أكثر مما يقلق الاختلاف، لأنه أقل خضوعا للرقابة. فقد علمنا لاوعينا الجمعي أن نتعرف على المختلف، كالذي خلق تحت سقف سماء مختلفة، الذي يتكلم لغة مختلفة، ولديه لون بشرة مختلف. لا يمكننا أن نعرف إذن من هو  شبهنا، حيث إنه في غياب الاختلافات الأخرى يتم اللجوء إلى تحديد الاختلاف الثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي؛ بطريقة أو بأخرى يكون الخوف من إدراك تشابه في الآخر، يجعله مثيلا لنا، يجعله ويجعلنا غير مختلفين مع خطر جعلنا نفقد الهوية التي نحتاجها مقابل معرفتنا. فقدان الهوية هو أحد أسباب أزمات الخوف الأكثر شيوعا دائما.

كل الجماعات تحتاج إلى تلاحم من أجل التشابه، من أجل التحديد. مقلدو رامبو أو الشقروات المصطنعات اللواتي يحاكين جميلات الشاشة يعبرن عن الحاجة للتشبه بأحد ما. كل جماعة تتعارض مع جماعة أخرى مؤكدين التشابه الداخلي والاختلاف الخارجي.

لكن، من جهة أخرى فالمساواة تفتت الهوية ببطء لأنه قد يحدث أن ندرك أن هذا المختلف المزعوم هو في الحقيقة متشابه معنا. الشخص الذي ظننته مختلفا عني  في الواقع، يكلمني ذات مساء صيف في مستشفى الطب النفسي سانتا ماريا ديلا بييتا، قائلا، واضعا يده على ركبتي: هل تعرف لما أنت موجود؟ أحسست بضيف يتملكني وفكرت: ” هذا الشخص لديه إذن نفس مشاكلي؟” أحسست بالانزعاج لعدة عوامل، لأني أحسست بأنه يشبهني، ولأني متشابه أنا أيضا معه. كنت أظن دائما أن الحقيقة التي أمامي هي ربما بعيدة كل البعد عني، وربما لأسباب أخرى كانت كذلك، لكن كم هي قريبة؟ المصيبة حينما نحس أو ننتبه أن المختلف عنا ما هو في الحقيقة إلا مشابه لنا.  إن كنا كلنا متشابهين، فما هو مصير فردانيتنا؟ يبدو أننا سنتوه في سديم: بياض في بياض، حيث لا يرى شيء، كما لو أنه سواد في سواد. حيث يختلط الخوف بالسخافة. 

يتم شرح أزمة الخوف التي تعتبر اليوم في تزايد مطرد هكذا: فكل المصحات النفسية للمستعجلات مليئة بالأشخاص الذين يأتون هناك بسبب أزمات قلبية وخفقان والخوف من الموت والغثيان والتعرق؛ التشخيص هو: أزمة الخوف. الرعب من سخافة هذه الحياة واستحالة المعرفة والتعرف. 

الخوف الذي ترجمه الطب النفسي القديم بطريقة بدائية، والذي نسب له التحليل النفسي معاني جنسية بدائية، في حين أن هذه المعاني لها ارتباط بالقلق، الآتي من إدراك السخافة التي تأتي بطريقة حتما ثانوية  عبر إحداث الدوافع الجنسية المستبعدة إلى حد ما. السخافة أكثر غموضا من اللاوعي، حيث إن ابعادها قد تكون بادية جزئيا للعيان وحتى يتم ابداؤها على السطح على طليعة الشعور أو الوعي.

السخافة غير قابلة للتفسير وغير قابلة للتصور، لكن الحياة الانسانية قد تخللتها. الكائن البشري لا يعرف جذور أصله، ولا من يكون هو نفسه، ولا أين تتجه وجهة كينونته، وما الذي ينتظره. فقد أعطت الديانات عدة تفاسير، وحاول الفلاسفة عقلنة معنى الوجود، وقدمت العلوم تفسيرات تعتبر هدفا في ذاتها؛ لكن لا أحد تجاوز وشرح الحضور الحقيقي للسخافة. الانسان والسخافة يتعايشان، لكن لا يمكنهما الدخول في علاقة فيما بينهما. يتم التعبير عن الخوف في البداية خاصة الخوف من المرض، الخوف من الأماكن المغلقة، الخوف من الأماكن العامة، يتقاطع مع أحداث الجنس المرفوضة لأنها تعتبر غير قابلة للتطبيق ومنحرفة، غالبا ما تفضي إلى الرعب من الموت، إلى رفض حتمية وجود نهاية للحياة؛ لكن الخوف يذهب أبعد من ذلك، يذهب إلى حد اللا يتبقى له معاني أخرى غير السخافة في ذاتها. 

وأقول ختاما، إن المساواة لا يمكن أن تتحقق أبدا. والخطاب السائد اليوم هو خطاب مشوش. تلزم الشجاعة الكافية للاعتراف بمساواة الآخرين ومساواتنا. خاصة إذا استطعنا أن نحب الآخرين دون تمييز، نستطيع ربما إبطال مفعول بعض ميكانيزمات التشويش العنصرية. لا يتعلق الأمر، هنا، بالنضال ضد مفهوم الاختلاف، ولكن ضد الخوف من المساواة.


[1] Freud S., tr. Introduzione alla psicoanalisi, in Opere, Boringhieri, Torino, 1967-79, vol. VIII, p. 526).

[2] Jung G.C., tr. La struttura dell’inconscio, in Opere, Boringhieri, Torino 1983, vol. VIII, P. 272.