نقد الأيديولوجيا في التحليل النقدي المعاصر للخِطاب

يقضي الكلام عن الأيديولوجيات باستحضار سياق القرن الماضي، القرن العشرون، عندما كان الصراع الأيديولوجي في أوجه بين الشيوعية الماركسية والرأسمالية الليبرالية. يفيد هذا السياق تأكيد أهمية العودة إلى تعريف الايدولوجيا وكيفية استعمالها في تسوية النزاعات، وبصفة خاصّة ما يتصل بدورها في تعزيز تصوّرات الناس، وعمل الدلالات الرمزية والفكرية في خدمة سلطة أقوال هؤلاء وخطاباتهم. فكيف تخدم الأيديولوجيات خطابات الهيمنة والسلطة؟

قد تكون العودة إلى التعريف الفلسفي الكلاسيكي للأيديولوجيا أهمّية تاريخية في التَنْظِيرِ لهذا المفهوم، غير أنّ الفائدة المعتبرة ها هنا إنّما تنحصر فقط في مجرّد التأريخ له، على غرار ما قام به المفكر الفرنسي فرانسوا شاتللي (François Châtelet) في كتابه “الايدولوجيات” (Les Idéologies).  والواقع أنّ الأيديولوجيات اكتسبت دلالتها السلبية منذ أواخر القرن الثامن عشر، عندما صنّف نابوليون بونابارت ناقديه من مفكري ذلك العصر بالأديويولوجيين (Les idéologues). لقد أعطى للأيديولوجيا دلالة تَحْقِيرِية بعد خلافه مع دِسْتُوتْ دِي تْرَاسِي (Destutt de Tracy) وجماعته من المفكّرين التأمُّلِيِّين، الذين كانوا ينظّرون للمجتمع، بعد الثورة  الفرنسية، بطرق نظرية حتى نعتوا بجامعة التأويليين الذين يعرفون القليل عن السياسة العملية.

غير أنّ المفهوم الفلسفي العام للأيديولوجيا سوف يتبلور بشكل أوضح مع الفيلسوف كارل ماركس (K. Marx) فلسفيا، متخذا دلالة الانعكاس النقدية للأفكار النظرية، كما سوف يظهر ذلك أثناء دراسته للرأسمالية، عندما سيميّز بين منطقة الظهور (السوق) ومنطقة العلاقات الداخلية (الإنتاج)، محاولا إبراز وجود انعكاس أساسي في مرحلة الإنتاج. وقد أظهر مفهوم الانعكاس لدى ماركس أهمية انسجام معين للمفاهيم المنعكسة والوعي المتغير، والذي يتحول بتحول العلاقات الواقعية وتغيرها. يبقى العامل الأساسي لمثل هذا الانعكاس، هو إخفاء التناقضات الواقعية التي يخلّفها النظام الرأسمالي الذي يخدم مصالح الطبقات المسيطرة. فعلى سبيل المثال، تعتبر فكرة الحرية، بما هي قيمة المساواة المزعومة في السوق، فكرة أيديولوجية لكونها تخفي القمع وعدم المساواة القائمة على مستوى الإنتاج، ممّا يضطر العمال إلى المزيد من العمل والاستلاب.

تطوّر هذا المعنى في إطار التلقي الذي تلقى به الفكر المعاصر الفلسفة الماركسية إلى أربعة تصورات نقدية أساسية: تصور غرامشي (A. Gramsci)، وتصور كارل منهايم (K. Mannheim)، ثم منظور سوسيولجيا دوركايم (E. Durkheim)، وأخيرا تصورات المدرسة النقدية لفراكفورت. وقد أفضى الحوار حول التحديد السابق إلى نوع من هجران وتجاوز تعريف ماركس للأيديولوجيا؛ وقد كان للنقاشات الفلسفية النقدية المعاصرة دورا بارزا في المراجعات النقدية التي ساهمت فيها أفكار غرامشي (A. Gramsci)، لوكاتش (G. Lukács)، التوسير (L. Althusser) وغيرهم.

تحوّلت الأيديولوجيات بعد هذه التصوّرات النظرية العامّة، في سياق الدراسات السوسيولوجية، إلى نوع من الأفكار المتصوّرة سَلَفًا، فأصبحت تشير إلى ما يشبه تلك الأوهام التي تستبدل نفسها لأجل الأمور الواقعية التي تشوّهها بما تنتجه حولها من عوالم خيالية متوهّمة. ثمّ ساهمت التهذيبات العقلانية لكارل مَنْهايم مع باقي رواد مدرسة فرانكفورت النقدية في تحليل الخطابات الأيديولوجية وربطها بالسياقات الاجتماعية والسياسية والتاريخية والثقافية، وقد أفضى ذلك في النهاية إلى استبدالها بنوع من سوسيولوجيا المعرفة في مرحلة أخرى من تطوّرها النقدي.

شكّلت محاولات بعض الفلاسفة المعاصرين لنقد الأيديولوجيا، من جهة أخرى، فرصا لتجاوز التصوّرات الكلاسيكية لكلّ من ماركس وانجليز وحتى نيتشه (Nietzsche). ويعتبر الفيلسوف المعاصر سلافوي جيجيك (Slavoj Žižek) واحدا من هؤلاء المفكرين النقديين الجدد، حيث عمد في كتاباته حول الايدولوجيا إلى مراجعة جذرية للتعريف الكلاسيكي للأيديولوجيا، مختصرا إياها في صيغة «إنهم يجهلون عواقب أعمالهم ومع ذلك فهم يمارسونها».  ولعلّ الفائدة من هذا القول، أنّ الأفراد غالبا ما ينساقون بنوع من السذاجة لمسارات ودروب الرأسمالية الليبرالية، غافلين عن كونهم مستغَلّين ومستلبين من خلالها. يرى الفيلسوف جيجيك أن التعريف الماركسي التقليدي للايديولوجيا، إنّما يعبّر عن آليات تشغيل المجتمع فقط، غير أنه لا يساعدنا كثيرا على فهم سلوك الأفراد؛ فالايديولوجيا تشتغل على مسارات الأفراد الغرائزية والنفسانية، ومن الأهمية بمكان أن نتوصل إلى صياغة نظرية لتلك المسارات.

بدأ جيجك سلافوي تحليله هذا للمفهوم التقليدي للأيديولوجيا من قولة شهيرة للفيلسوف بيتر سلوترديشك للأيديولوجيا المختزلة في العبارة «إنهم يعرفون تماما ما هم فاعلون ومع ذلك فإنهم يفعلونه». (2009 The Sublime Object of Idelogy; second edition) والواقع أنّ هذه القولة تقلب التعريف الماركسي التقليدي للأيديولوجيا رأسا على عقب؛ ذلك أنه يؤكد من خلالها أنّ الشكل الغالب لأية أيديولوجيا ليس هو الوعي الزائف، كما اعتقد التصور الكلاسيكي، وإنما تلك التشكيكية، أو قل: «مفارقة وجود وعي زائف لكنه متنوّر». يكشف هذا التشكيك أنّ الناس يدركون تمام الإدراك وجود أيديولوجيا كونية تخدعهم وتستغلهم في الغالب، لكنهم، ويا للمفارقة، لا يتخلّون عنها أبدا.

ولأنّ الفكر الشاك لا يأخذ في الاعتبار أهمية «التخيّل الأيديولوجي»، حيث تتولى الايدولوجيا مجرّد مهمّة تنظيم الواقع الاجتماعي، فقد أكّد جيجك بهذا الخصوص أنّ الخيال الأيديولوجي لا يتم على مستوى الفكري أو المعرفي فقط، وإنّما يتم على مستوى الفعل أيضا. غير أنّه، لئن كان الأفراد يدركون كيف لا يوجد شيء سحري بشأن المال مثلا، وبالتالي فهم على الأرجح غالبا ما يتعرضون للاستغلال عبر عملية تبادل السلعة بالمال؛ فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه، هو لما سوف يستمر هؤلاء، إذاً، في ممارسة النشاط المجتمعي (كممارسة)؟ الجواب الذي قدّمه جيجك هنا، هو أنّ هؤلاء المستلبين أيديولوجيا، هم صنميون على مستوى ممارسة حياتهم العملية، وليس في على مستوى النظرية؛ لأنّ الوهم الصنمي  كامن في عملية تبادل السلع، بما هي نشاط مجتمعي، على ما بيّنه كارل ماركس. إنّ ما يجهله معظم هؤلاء الأفراد، هو أنّ واقعهم وكذا نشاطهم الجمعي إنّما يسوده الوهم، ولذلك تتحكم به صنمية السلعة (commodity fetishism) انطلاقا من عملية استلاب السوق؛ أي أنّ الناس دائما ما يكونوا غافلين عن الوهم الناظم لنشاطهم المجتمعي الحقيقي.

ولتقريب هذا المعنى الذي يستخدم به الفيلسوف جيجك سلافوي الأيديولوجيا، يستعمل هذا الأخير قصة العالم الفيزيائي الدانماركي نِيْلْسْ بُوْرْ (Niels Bohr) الذي زاره صديقه في بيته الريفي، فوجد بمدخل بيته حَدْوَةَ فرس (حداء حديدي يركب في أسفل رجل الحصان)، فاستفسره عما إن كان يؤمن بهذه الخرافات التافهة، ليجيبه بور بكونه لا يؤمن بذلك إطلاقا. ثمّ سأله الصديق من جديد: لكن لماذا تحتفظ بالحدوة إذاً؟ ليجيبه بور: إنني أحتفظ بها لأنها تفعل فعلها مع أني لا أؤمن بها. يأخذ الفيلسوف جيجك سلافوي هذه الناذرة مثالا توضيحيا لفعل الأيديولوجيا في الناس، فرغم كوننا لم نعد نؤمن كثيرا بالأيديولوجيا في عصرنا الراهن، إلاّ أنّنا عادة ما نتصرّف حيالها وكأنها تؤدي الغرض المنظر منها. غير أنّه ما أبقينا على التصوّر التقليدي للأيديولوجيا، حيث يحتل الوهم مركز المعرفة، فلسوف يبدو مجتمعنا الراهن كما لو أنّه مجتمع ما بعد أيديولوجي (Post-ideological)، وذلك لأنه لم يعد أحد يأخذ هذه الأيديولوجيا على محمل الجد.

تطويرا لهذا المنحى الجديد الذي اتخذه مفهوم الأيديولوجيا، سجّل التحليل النقدي للظواهر الخطابية منعطفا جديدا في تناول الاعتقادات التبريرية الفردية والجماعية، وبصفة خاصّة منها تلك المتّصلة بتصوّرات الناس للعالم ولمحيطهم الاجتماعي والسياسي الثقافي. فالبيّن حسب هذا المنحى النقدي الجديد أنّ الأيديولوجيات تتسلّل عن طريق اللغة، لتصبح معتادة للنفوس المروضّة اجتماعيا على حساسيات معيّنة تجاه الدلالات التي تحملها أنماط الخطابات المهيمنة. وقد اكتسب هذا المنحى مشروعيته النقدية في إطار ما سُمّي بتحليل المحادثات والخطابات اليومية. ولقد توضّح مع هذا التوجّه النقدي الجديد مدى تقاطع الأيديولوجيات المهيمنة مع اللغة المتداولة بقوّة، وذلك بحسب ما يعتقده رواد هذا التوجّه في نقد الأيديولوجيا والسلطة والهيمنة.

لم تعد الأيديولوجيات وفقا لهذا التيار النقدي الجديد مجرّد أنظمة مستقلّة للمعتقدات والأفكار كما كان يعتقد الموقف النقدي الكلاسيكي للفلسفة؛ وإنّما تحوّلت إلى ما يمثّل خطاب الهيمنة، واعتبرت في هذا السياق بنية رمزية، تبحث لنفسها عن طرق مباشرة وغير مباشرة لخدمة علاقات السيطرة الموجودة في الواقع، لتدعيمها وتبريرها من طرف تلك الفئات السائدة والجماعات المسيطرة، وبالتالي تحوّل معنى الأيديولوجيا ليتَّخذ صورة جديدة، هي الدلالة في خدمة السلطة.

نجم عن هذا التحوّل المفهومي تحوّل ابستيمولوجي نقدي آخر، تمثّل في الانتقال من صيغة النقد المفهومي العام إلى طريقة التحليل النقدي للخطاب (Critical discourse analysis). استفاد هذا الانتقال المفهومي والمنهجي من أبحاث رواد فلسفة اللغة العادية لكلّ من أوستين (J. Austin)، سورل (J. Searle)، وغرايس (P. Grice) حول التأكيد على التحليل اللغوي والسياقي للنصوص والأقوال والخطب؛ ثمّ، كذلك، أعمال فوكو (M. Foucault) الأساسية حول أهمية ربط أيّ خطاب بسياقه الاجتماعي والسياسي الأوسع.

انطلق هذا التوجّه النقدي الجديد من دعوى تعتبر أنّ كلّ خطاب إنّما ينطوي على علاقات سيطرة وإرادة سلطة، ينتج عنه تواصل مزيّف، مقنّع بإرادة هيمنة معيّنة. ويحدّد هذا المنحى التوجّهات التي تضفي المعاني النقدية المعاصرة على مفهوم الأيديولوجيا، بدءا من أدورنو (T. Adorno) وهوركهايمر (M. Horkheimer)، مرورا بهابرماس  (Ü. Habermas) وانتهاء برواد التحليل النقدي للخطاب: فايركلوف (N. Fairclough)، روت فوداك (R. Wodak)، وفان دايك (V. Dijek).

ولئن كان المعنى السابق سلبيا في تحديد دلالة الأيديولوجيا، فلأنّ التحليل النقدي للخطاب إنّما ينظر إلى هذا المفهوم باعتباره مصطلحا وصفيا خالصا؛ وبذلك تكون الأيديولوجيات أنظمة اعتقادات خاصّة، وممارسات رمزية على شاكلة دلالات وبناءات للواقع (العلاقات الاجتماعية، الهويات الجماعية، العلاقات المادية..) تقوم على صياغة تصوّرات ورموز لخدمة علاقات السيطرة: أي مسلسل للمحافظة والسيطرة والهيمنة في سياق خطاب معيّن.

الواضح أنّ هذه التصورات النقدية للأيديولوجيات في التحليل النقدي للخطاب تمثّل دراسة للطريقة التي بواسطتها تستعمل الخطابات والأقوال لخدمة علاقات السيطرة، ممّا عزّز الدّلالة السلبية لمفهوم الأيديولوجيا. بيد أنّه، كذلك، من الممكن تلمّس المعنى الإيجابي للأيديولوجيا في التعريف الذي يقدّمه جون طومسون (J. Thompson) بكونها بحث عن المشروعيات الفكرية والاجتماعية والاعتقادية التي يمكن أن نضفيها على واقع معيّن نريد التعامل معه. إنّها، بهذا المعنى، اعتقادات تبريرية مهمّة لِلَمّ شَمْلِ الأفراد والجماعات حول فكرة محدّدة، أو تصوّر معيّن للواقع. فضلا عن ذلك، تدفعنا نظرية الأيديولوجيا للتعامل مع الخطاب واللغة انطلاقا من نزوع السيطرة وخدمة علاقات السلطة؛ لذلك لا تستعمل اللغة ببراءة في الخطابات الأيديولوجية، وإنّما توجد وراءها دوما صراعات إنسانية ومصالح فردية وجماعية. لذلك، تحاول الأيديولوجيات أن تؤمّن تجانس ووحدة الاجتماعي، كما السياسي والاقتصادي، بأشكال وصيغ تعبيرية خطابية ضمنية وغير مرئية.

فالبيّن من هذا التحليل إذاً أنّ فاعلية الأيديولوجيات حسب التحليل النقدي للخطاب إنّما تَظهر من خلال نوع من فرض الفاعلية الموضوعية على الخطاب، فتحاول عبر ذلك تعتيم علاقات الهيمنة التي تحكم الوجود الإنساني بأشكال مختلفة من التعميّة والوهم. ولذلك، فإنّ غرض هذا التحليل النقدي هو كشف ذلك التعتيم (Mystification) الذي تمارسه تلك الخطابات المقنّعة والمعتّمة التي تخدم أغراض الهيمنة والسلطة، وذلك كلّه لأجل فضح الموضوعية المزيّفة التي تدّعيها الاعتبارات الأيديولوجية الثاوية خلف لغتها المباشرة.

لقد ترتّب عن اتجاه التحليل النقدي للخطاب اغناء مفهوم الأيديولوجيا في التحليل النقدي للخطاب في اتجاه الأبحاث اللسانية التداولية. وقد أغنى هذا التوجّه النظرية النقدية ووسّعها لتشمل التفكير المعمّق حول اللغة وأساليب استعمالها في خطابات الناس. ثمّ أصبح فهم طريقة توظيف اللغة لخدمة السلطة والهيمنة هدفا للكشف عن كيفية اشتغال الأيديولوجيا؛ بالتالي فضح أشكال حضورها، وجعلها مهمّة نقدية للتحليل النقدي للخطاب. ولقد تحوّلت الأيديولوجيات، بفضل هذا التحليل النقدي، إلى بؤرة لتتبع أشكال حضور السلطة في الخطابات، والواقع أنّ أيّ خطاب قد يحتوي تشكيلات فكرية وفئوية نفعية صغيرة تعمل على خدمة سيطرة معيّنة أو هيمنة فئة ومصلحة على فئات ومصالح أخرى. يقع في مثل هذه الظروف أن تتشابك المصالح مع الأيديولوجيات تشابكا معقّدا.

من خلال ما سبق، يمكننا القول بأنّ توجّه التحليل النقدي للخطاب قد تولّى مهمّة نقد استخدام الأيديولوجيا في بناء القناعات والخطابات، وذلك باتخاذ للمسافة النقدية بين كلام الناس وواقع الحال الذي هم عليه، وكلّ ذلك بتوسّل التحليل اللغوي والمنطقي للمحادثات. والبيّن من ذلك أنّه توجّه مختلف ويتميّز عن المنظورات النقدية الكلاسيكية باهتمامه بفحص أشكال حضور الأيديولوجيا في الخطابات والنصوص والحوارات التي توجد في الفضاءات العامّة. لذلك، كان المُنْجز الابستيمولوجي للتحليل النقدي للخطاب بارزا في كشفه عن آليات اشتغال السُلط وإرادات الهيمنة من خلال أيديولوجيات مقنّعة، غالبا ما تكون ثاوية وراء تلك الخطابات.