الالتزامات التعاقدية بين الأحكام الحمائية وتأثير مرض كوفيد 19

تتعدد مصادر الالتزام بين العقد والإرادة المنفردة والفعل التقصيري والإثراء غير المشروع والقانون، وقد احتاط القانون للحفاظ على توازن العقود أثناء تكوينها بنظريتي الغبن والاستغلال، كما احتاط كذلك لتحقيق نفس الهدف عند تنفيذ العقود بالقوة القاهرة والحدث الفجائي ونظرية الظروف الطارئة في القوانين للدول التي تنص عليها.

ومن مظاهر التدخل القانوني لحماية المدين رغم إناطته بالتزام يتوجب عليه تنفيذه أحكام الاعسار، فالقاضي يعطي المدين بالدين نظرة الميسرة كي يتدبر أمره ويستطيع تنفيذ أداء التزامه أو دينه، ويمكن للمدين رغم حجز أمواله لدائنيه أن يطالب بتسديد ما يسد نفقته ونفقة من تجب لهم عليه، فنظام الاعسار تدخل من القانون لصالح كل من الدائن والمدين، فإذا تصرف المدين لا يسري تصرفه على دائنيه بأن يكون غاشا لهم بتفويت أمواله كي لا ينفذ عليها.

وإذن، الالتزام يُنشأ إنشاء إعمالا لسلطان الإرادة، ويقابل في الواقع هذا السلطان سلطان القانون وسلطان القضاء أحيانا، فمهما كان سلطان الإرادة قد يتدخل القانون للحد منه، وكذلك قد يتدخل سلطان القاضي للعب نفس الدور إذا سمح أحيانا القانون بتدخله، أو حتى ولو لم يوجد نص كما هو الشأن في القضاء الإداري.

وتدخل القانون يمكن رصده في مظاهر عدة، منها على سبيل المثال الشكلية والعينية والحيازة في العقود، كبيع ومعأوضة وشركة في عقار أو حقوق منقولة يمكن رهنها رهنا رسميا، والعطايا والرهن الحيازي والعارية ومنع الغبن ومنع الاستغلال (حالة المريض والحالات الأخرى المشابهة) ومنع التعسف وحماية المستهلك في عقود الإذعان وحماية الطرف المشترط عليه الشرط الجزائي (الفصل 264 من ق ل و ع)، ونظرية الظروف الطارئة في القانون الإداري العام وفي القانون الخاص في قوانين الدول التي تأخذ بها حتى في هذا القانون.

سلطان الإرادة في إنشاء الالتزامات:

المبدأ في إنشاء الالتزامات هو سلطان الإرادة لمكتمل أهلية الأداء، المدرك لمصالحه يفاوض عليها من أجل تحقيقها. فإذا ضُمن لكل طرف حرية الإرادة في التصرفات التي يأتيها، وكان ممتلكا لهذه الإرادة، ملك سلطة استعمالها فلا يحد عليه فيها مبدئيا. ومقابل ذلك عليه أن يتحمل الالتزامات التي عقدها على نفسه، وفي ذلك التوازنُ المنشود في عملية التعاقد لأن كل طرف يفترض أنه يدرك مصلحته في تصرفه ويحرص على تحقيقها ببذل بدل منه وأخذ مقابله.

ولكن القانون لم يطلق في هذه القاعدة لسلطان الإرادة، وكان لابد من مراعاة أوضاع تقتضي بالضرورة نشدانا للحفاظ على التوازن في البدلين لعملية التعاقد أن يتدخل أحيانا بقواعد تنشد هذا التوازن وتحافظ عليه، وهو توازن بين اقتصاديات العقود الذي ينعكس استقرارا اجتماعيا وعدالة بين أطراف العقود فلا ضرر ولا ضرار، ولا غبن ولا استغلالا ولا اجحافا وإثقالا لكاهل لحساب آخر، كما لا يجوز الإفراط في استعمال الإرادة إلى حد المساس بالنظام العام والآداب والأخلاق الحميدة.

فقد يلحق من عقد غبن طرفا فيه وهو قاصر، أو يغبن مع تدليس غير دافع له فيخول قانونا حق طلب إبطاله، وقد يستغل متعاقد مرض الطرف الآخر أو طيشه أو هوى جامحاً فيه نحوه فيأخذه بأثرة لنفسه تفقد العقد توازنه الاقتصادي. وقد يشرع القانون نوعا من العقود بينة الإجحاف على الطرف الضعيف فيما يسمى عقود الإذعان، للحاجة الماسة إلى خدمات أساسية لا غنى عنها فيأخذ صاحب الامتياز فيها برقبة المرتفق، ولا يجد بدا من الانصياع للعقد على ما أراده فيه من بنود وشروط يوافق عليها مريدا لها أو غير مريد، فلا يفاوض فيها ولا يناقش في هذه البنود تفرض عليه فرضا، فكان لزاما عند النزاع أن يعطى القضاء سندا قانونيا لإعادة التوازن إلى العقد وخاصة الجانب الاقتصادي والمالي فيه، وهو ما يسعى لتحقيقه قانون حماية المستهلك في هذه العقود للاستفادة من خدمات المرافق العامة والقروض البنكية.

ومن مظاهر تدخل القانون وعبره القضاء لفرض التوازن في العلاقات القانونية التعاقدية، الإمكانية المخولة للقضاء لخفض تعويض الشرط الجزائي أو زيادته وفق ما يحقق العدل والإنصاف، ويرفع الجور والحيف، وذلك ما ينص عليه الفصل 264 من ق ل وع . ودائما من باب مراعاة التوازن وحفظ المصلحة المشروعة يوازن القانون ولو بدا ذلك خروجا عن القواعد العامة، إذ إن لكل قاعدة شواذ من ذلك إدارة المال المشاع من قبل مالك 3/4 الملك فتخضع إرادة مالك أو مالكي أقل من ذلك لإرادة الطرف الآخر، لكن في حدود عملية التسيير والإدارة لا في التصرف والتفويت فلا يجوز أن يفوت على مالك ملكه مهما قل نصيبه إلا باتفاقه، إلا استثناء وتحت شروط يراعى فيها المصلحة للشريك ولا يتضرر شريكه الآخر كبيع الصفقة في الشرع الإسلامي.

 وإذا كانت مقاربات القانون لمعالجة أوضاع من شأنها الإخلال بتوازن العقود عند تكوينها، فإن هذه الأوضاع التي اقتضت تلك المقاربات لا تقتصر على مرحلة تكوين العقود، ولكنه قد يوجد من الأوضاع المقتضية لتدبير اختلال توازن العقود كذلك عند تنفيذ الالتزامات المترتبة عنها، فقد يثقل على الملتزم تنفيذ التزامه إلى حد إرهاقه نتيجة حدوث أحداث طارئة، وقد يكون من شأن هذه الأحداث أن يستحيل التنفيذ.

فما هو الالتزام؟ وكيف يتأثر بعوامل عند تكوين العقد الذي ينشئه؟ وهل يتأثر أيضا بعوامل عند تنفيذه؟ وما دور المرض في التأثير على العقود ومن ثم على الالتزامات المترتبة عنها؟ وما هو مرض كوفيد19 ؟ وهل يؤثر سلبا على العقود إنشاء وتنفيذا للالتزامات المتولدة عنها؟