النظام الدولي في ظل جائحة الحُمّة التّاجية: بين إعادة التشكل وتعميق المسار

تقديم:

يحيل النظام الدولي على نسق العلاقات السائدة في العالم في مرحلة معينة عادة ما ترتبط بمخرجات حرب كبرى تعيد توزيع القوة على الصعيد الدولي، ويقوم المنتصرون فيها بسن القواعد التي تنظم العلاقات بين الفاعلين على الساحة الدولية وفق منظومة قيمية محددة سلفا. غير أن النظام الدولي الحالي، شذ عن القاعدة وخرج إلى الوجود في أجواء “سلمية”، حيث كان نتاج انتهاء حرب “باردة” امتدت لحوالي نصف قرن، ساهمت في إنضاج ديناميات اجتماعية مختلفة دفعت بانفجار النظام من الداخل، لتتم عملية الإحلال دونما حرب فاصلة، وليرث هذا النظام عن سابقه إحدى أعتى مؤسساته المميزة؛ منظمة الأمم المتحدة، التي حاولت التكيف مع النظام الجديد واقتناص الفرص التي أتاحها.

ولئن ارتبطت المنظومة القيمية للنظام الحالي بإعلان مجموعة من النهايات، نهاية التاريخ ونهاية الحدود ونهاية الدولة وصولا إلى نهاية المجتمعات، لتصوغ الخطوط العريضة لهذا النظام ذي التوجه النيوليبرالي، المتمركز على الفرد عوض الدولة، والمنتصر لليد الخفية للسوق وقدرتها على الإجابة على مختلف الأسئلة والأزمات التي يمكن أن تطرأ، فإن الجائحة التي سيعرفها العالم مع متم عشريته الثانية، قد أعادت إلى الواجهة سؤال الاستقرار والاستمرار بالنسبة لهذا النظام بالنظر لحجم الهلع الذي أثارته، والذي أحدث نوعا من الارتباك في طرق تدبير هذه الأزمة كان عنوانه الأبرز عودة قوية للدولة الوطنية، وصعود نجم النجدة الذاتية self help، والحدود الصلبة التي أعادت تعريف العالم بكونه مجموعة من الدول ذات السيادة وليس قرية صغيرة كما تسلل إلى المخيال الجماعي. لقد كان العالم أمام تشظي هذه القرية وتحولها إلى جزر معزولة.

أمام تهاوي مجموعة من المسلمات، ولو على مستوى اللحظة وتحت تأثير الفجائية، كان مشروعا أن يخترق المشهد سؤال يبدو بديهيا: هل من شأن الجائحة أن تفضي إلى إعادة توزيع للقوة كفيل بإعادة إنتاج لحظة توحيد ألمانيا قبل ما يربو على ثلاثة عقود؟ بمعنى؛ هل تشكل الجائحة سببا لانبثاق نظام دولي جديد أو إعادة تشكله على نحو مختلف؟

سننطلق من فرضية أن جائحة الحمة التاجية تشكل إحدى أزمات النظام الدولي الحالي التي عبرها يعيد تجديد دمه، لنرى إلى أي حد أنها تعيد نفس الأسئلة التي أثارها تحطم برجي التجارة في نيويورك مطلع الألفية الثالثة. غير أن “العدو” هذه المرة لم يقلع من مطارات وإنما يعلو صوت التلميحات بكونه أقلع من مختبرات للأبحاث، بما يجعل الجائحة لحظة للتنفيس الدوري يجدد فيها النظام الحالي آلياته ويثبت هياكله. ويتطلب فحص هذه الفرضية، أول ما يتطلب، فحص الخطوط العريضة للنظام الدولي الراهن وسماته (محور أول)، ثم طريقة تعاطيه مع الجائحة (محور ثان) لأن مقياس استقرار أي نظام وبالتالي استمراره إنما يرتبط بقدرته على أداء وظائفه عبر إيجاد الأجوبة المناسبة للأسئلة المطروحة عليه وفي قلبها الأزمات. وبالقياس فعدم قدرته على إيجاد هذه الإجابات والاستجابات يزيد من فرص انهيار النظام وتغيره.