بين زمنية 2011 وانتخابات 2016: تبدّلٌ في الأمزجة السياسية أم تبدّلٌ في السياقات؟

نُشرت هذه دراسة نشرت ضمن المؤلف الجماعي الذي أصدره مركز تكامل للدراسات والأبحاث سنة 2016 بعنوان: “تشريعيات 2016 بين إنعاش الآمال وتكريس الإحباطات: قراءة في النتائج والتداعيات“                

مرّت ست سنوات على الخطاب الرسمي الذي ألقاه ملك المغرب، تفاعلًا مع الاحتجاجات الشعبية التي عرفها المغرب في سياق الحِركات المُطالبة بالديمقراطية في بعض البلدان العربية. هذا الخطاب الذي شكل تحولا نوعيا في الخُطب الملكية من حيث الشكل والمضمون؛ فلأول مرة تقريبا يخاطب فيها الملك الشعب المغربي من غير مناسبة وطنية أو دينية، كما أنه خطاب فريد من ناحية كون جلّ كلماته التسعمائة لم تبرح الموضوع الدستوري، مما عُدّ في حينه من قِبل بعض المتابعين “ثورة ملك وشعب ثانية”، بينما تعاملت معه حركة 20 فبراير ومكوناتها بحذر ولم تتجاوب معه بشكل متحمّس، على أساس أنه لم يلبّي مطالبها من حيث طريقة إعداد الدستور، إذ كانت تطالب بانتخاب لجنة تأسيسية لوضع الدستور، بين اقترح الخطاب الملكي الطريقة المتّبعة في إعداد وتعديل الدساتير المغربية التي تتالت منذ سنة 1962، أي تعيين لجنة ملكية تتكلف بصياغة مشروع دستور يتمّ عرضه فيما بعد على الاستفتاء الشعبي. الأمر الذي رفضته حركة 20 فبراير من خلال الاستمرار في تنظيم المسيرات والوقفات الأسبوعية، كما تعمّقت الأزمة بين الحركة ولجنة صياغة الدستور بفعل مقاطعة أنشطة اللجنة ورفض التواصل معها من أجل تقديم المقترحات، فضلا عن الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء الدستوري على أساس أنه “غير ديمقراطي شكلًا ومضمونًا”[1]، وأن الشروط غير متوفرة لكي يكون التصويت بـ “لا” خيارًا صائبًا[2].

لم يكن النظام السياسي المغربي وحده من يخوض المواجهة مع حركة الشارع، بل انخرطت فيها أيضا الهيئات الحزبية المشاركة في المؤسسات السياسية، بينما انقسم المجتمع المدني بين مؤيد ومعارض لمسيرات حركة 20 فبراير، في الوقت الذي اصطفّت فيه جل الإطارات النقابية إلى جانب خيار الكف عن التظاهر والتجاوب مع خطاب 9 مارس[3]. وهكذا أصدرت معظم الأحزاب السياسية بلاغات تحذر فيها من مغبة التماهي مع حركة 20 فبراير، رافضة الخروج في مسيراتها والمشاركة ضمن فعّاليتها، وهو الأمر الذي تؤكده بلاغات أحزاب: الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية، وتصريحات الأمين العام لحزب العدالة والتنمية الذي رفض مشاركة أعضاء حزبه في تظاهرات فبراير 2011. كما تحمّست هذه الأحزاب، وغيرها، لخطاب 9 مارس 2011، واعتبرته فوق سقف مطالبها، داعية بذلك إلى التفاعل الإيجابي مع اللجنة التي ترأسها أستاذ القانون الدستوري عبد اللطيف المنوني، المخصصة لصياغة مسودة الدستور، بحيث تقدمت إليها بمقترحاتها، ثم نظمت فيما بعد مسيرات وتظاهرات تحشد فيها للتصويت بـ “بنعم على الدستور”.

وفق هذا السياق العام، استمرت حركة 20 فبراير في مسيراتها الأسبوعية، مع تسجيل بداية ضعف في صفوفها لعدة أسباب ليس المجال لحصرها، وواصل النظام السياسي المغربي، والأحزاب والهيئات المؤيدة له، تنزيل تصوره الإصلاحي، حيث تم تنظيم أول انتخابات بعد دخول “الدستور المعدّل” حيز التنفيذ، في 25 نونبر 2011، نتج عنها تقدّم كبير لحزب العدالة والتنمية بفعل عدة عوامل من قبيل نسبة المشاركة المتدنية، واستفاد حزب العدالة والتنمية من موجة “الربيع العربي”، حيث لم يُلاحظ عداء يذكر للسلطة له، ولم يشتكِ من أي مضايقات سياسية له من طرف الإدارة الترابية، بل بالعكس تم منحه، كما باقي الأحزاب، جميع الإمكانات المادية والإعلامية، وكان هذا بسبب تأثير “الربيع العربي” بما أن النظام السياسي المغربي حاول تمرير موجة إسقاط الأنظمة، عبر فتح المجال للمعارضة السياسية وكسب التعاطف الشعبي الذي راكمته هذه المعارضة طيلة سنوات. كما استفاد الحزب من موجة فوز الإسلامين في البلدان المجاورة، فجل المتتبعين للشأن المغربي كانوا يترقبون فوز حزب العدالة والتنمية نسبة إلى فوز حركة النهضة في تونس، على أساس أن هناك عناصر تشابه كثيرة بين الحزبين، وكذلك النجاحات التي حققها حزب العدالة والتنمية التركي، الذي يتشارك وحزب العدالة والتنمية المغربي نفس الاسم والرمز الانتخابي إضافة إلى تبادل الزيارات وبرامج التكوين وودّية العلاقات.

كانت هذه أبرز معالم الفترة التي أعقبت الحراك المغربي، وأفرزت حكومة مكونة من أربعة أحزاب يرأسها الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الاله بن كيران المعروف بمناصرته للملكية المغربية، والمدافع عن خيار الإصلاح من داخل المؤسسات السياسية، والذي كان رأسُ حربة في مواجهة حركة 20 فبراير. وقد استمرت روح التناغم بين مكونات الحكم في المغرب، أو ما يمكن وصفه بـ “جبهة نعم للدستور”، إلى أن بدأت الأجواء تغيم حول هذه الدائرة وتتخلّلها بعض المنعرجات، سيما بعد انتخاب أشخاص مناوئين لحزب العدالة والتنمية على رأس حزبي الاستقلال (حميد شباط) والاتحاد الاشتراكي (إدريس لشكر)، حيث تم التّعجيل بإعلان حزب الاستقلال خروجه من الأغلبية الحكومية والانتقال للمعارضة، الأمر الذي كاد أن يعصف بالحكومة ويسرّع بانتخابات سابقة لأوانها، لولا قبول حزب التجمع الوطني للأحرار ترميم صفوفها. وبصرف النظر عن الأسباب الكامنة وراء هذا التحول، فإنها لا أن يمكن أن تنفصل عن الأجواء غير الودّية بين القصر المغربي وحزب العدالة والتنمية، التي كان تأجيل الانتخابات البلدية أبرز مؤشّراتها، إضافة إلى تبادل الاتهامات بين عناصر حزب العدالة والتنمية ووزارة الداخلية في أكثر من مرة[4]. وعمومًا، لم يَطَل التحول في علاقة الأحزاب بمحيط الملك، حزب العدالة والتنمية فحسب، بل إن أحزابا أخرى طالما اعتبرها حزب العدالة والتنمية أداة من أدوات ما أصطلح عليه عبد الاله بن كيران بـ “التحكم”، سرعان من أصبحت بدورها تشتكي من مُسمّى “التحكم”، وهذا ما حدث مع حزب الاستقلال، الذي تأثرت علاقته بدوائر الحكم بشكل سريع وغير متوقع.

كلّ هذا يقودنا إلى السؤال المحوري بشأن مدى تأثير هذا التحول على مستقبل “الاختيار الديمقراطي”[5] الذي جعله التعديل الدستوري لعام 2011 رابع أساسيات الحكم في المغرب إلى جانب الدين الإسلامي والوحدة الترابية والنظام الملكي، ومدى تأثير ذلك على مستقبل المشاركة السياسية والفعل الحزبي بالمغرب. وسنتناول هذه الإشكالية درسًا وتحليلًا من خلال أربع محطّاتٍ رئيسية وسمت البلاد منذ بدء حراك حركة 20 فبراير: محطّة خطاب 9 مارس 2011 الذي فتح باب الإصلاح الدستوري، ومحطّة الانتخابات الجماعية للرابع من شتنبر 2015 التي أشّرت على إعادة تشكّل العلاقة بين الدولة والأحزاب، ولا سيما حزبا العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة وأحزاب الكتلة الوطنية، ومحطّة الانتخابات البرلمانية للسابع من أكتوبر 2016 التي جعلت وضع سوء التفاهم القائم يتحول إلى وضعٍ تصادمي أكثر، وأخيرًا محطّة البلاغ الملكي بتاريخ 15 مارس 2017 الذي أعفى عبد الإله بنكيران من مهمّة تشكيل الحكومة وعيّن مكانه سعد الدين العثماني، فاتحًا الباب أمام العديد من الأسئلة بشأن قوس التغيير الذي فُتح مع خطاب 9 مارس 2011.


[1] انتشرت في حينه عدة صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تدعو إلى مقاطعة الاستفتاء الدستوري، كما استمرت مسيرات حركة 20 فبراير بعد عرض الدستور على الاستفتاء وحتى عقب إقراره.

[2] جرى تسجيل انخراط عديد مؤسسات الدولة في حملة الدعوة للتصويت بنعم على الدستور، بما في ذلك وزارة الأوقاف التي دعت، من خلال أئمة المساجد في خطبة موحدة، إلى التصويت بـ “نعم” على الدستور وطاعة ولي الأمر.

[3] ولا سيمّا بعدما أعلنت حكومة عباس الفاسي زيادة غير مسبوقة في الأجور ، جرى تحديدها في 600 درهم (نحو 60 دولار أمريكي).

[4] منع مهرجان خطابي لشبيبة حزب العدالة والتنمية في مدينة طنجة كان من المفترض أن يشارك فيه رئيس الحكومة نفسه، منع مهرجانات أخرى بمدينة إنزكان وآيت أورير كان المفترض أن يشارك فيها مصطفى الخلفي وزير الإعلام والاتصال وعبد العزيز رباح وزير التجهيز والنقل، المناوشات بين وزارة الداخلية والحزب خلال الانتخابات البلدية لعام 2015 ثمّ الانتخابات التشريعية لعام 2016، ثم أوردت بعض التقارير الإعلامية أنه تم رفض ترأس عبد العالي حامي الدين لفريق حزب العدالة والتنمية بمجلس المستشارين، وغير ذلك.

[5] نصّ الدستور في فصله الأول، الفقرة الثالثة على ما يلي: “تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي”.