بين الخضوع والتمرد.. قراءة في كتاب المجتمع ضد الدولة

ملخص:

يسعى كتاب المجتمع ضد الدولة.. الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع بالمغرب، إلى التحقيب لظاهرة الاحتجاجات في المغرب منذ الاستقلال إلى ما بعد “الربيع العربي”، ويركز على العلاقة الجدلية فيما بين السلطة والاحتجاج ويدرس من خلالها مسار تطور أشكال الاحتجاج من الانتفاضة إلى الاعتصام ثم المظاهرة أخذا بعين الاعتبار النظريات السوسيولوجية التي تفسر الفعل الاحتجاجي .

Summary:

This books, Society against stat, social movement, and morocco  strategy, aims for timing the historical backgrounds of protest movement in morocco from independence to arabic  spring and afterwads. However,  it focuses on the argumentative and tense relation between authorities and protest through the type of protesting.


 نبذة عن المؤلف والكتاب

الكاتب هو عبد الرحمان رشيق ، باحث غي علم الاجتماع الحضري، يدرس علم الاجتماع  بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء ،يضم الكتاب 269 صفحة بالقطع المتوسط  بالملاحق والفهرس والبيبليوغرافيا، صدرت له الطبعة الأولى باللغة الفرنسية سنة 2016 عن منشورات ملتقى الطرق ، ونقله للغة العربية عزالدين العلام أستاذ علم السياسية بكلية الحقوق بالمحمدية دجنبر 2021، يحتوي الكتاب على سبعة فصول، تدور في مجملها على دراسة التحول الذي عرفه الفعل الاحتجاجي بالمغرب بدءا من الاستقلال إلى  منعطف 2011.

استهلال

  كان يكفي انتظار 5 سنوات على انتهاء ما كان ينعت ب”الربيع العربي”، حتى تصدر هذه الدراسة في شكل كتاب وُسِم ب”المجتمع ضد الدولة..الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع بالمغرب”، بيد أن انتظار ترجمته إلى اللغة العربية استمرت لما يناهز 4 سنوات لم تكتمل إلا في أواخر سنة 2021، مايميز الدراسة هو صيانة صاحبها لمجال البحث في العلوم الاجتماعية وتحصينه من الأعطاب التي تخللته خاصة في الشق المرتبط بدراسة الحركات الاجتماعية، هكذا وصف المترجم صاحب الكتاب عندما بادر بالقول بدون تردّد أقول أنّ عبد الرحمان رشيق، بحكم اختصاصه، مؤهل للخوض في تفاصيل هذا الموضوع. فهو ليس بالوافد الجديد ليتحدث اليوم عن موضوع أصبح مثار اهتمام العديد من الأبحاث والأطروحات، إذ أنّ هذا الكتاب هو أصلا تتويج لأعمال عدّة سابقة. وعبد الرحمن رشيق في أبحاثه كلّها يتميّز بالروح النقدية والعلمية.

  تؤشر العلاقة بين الدولة والمجتمع على مرّ التاريخ لحالة من التوترات المهيكلة والتي تنبني في جزء منها على ثنائية القمع والاحتجاج، ثمة نظريات تفسر الفعل الاحتجاجي ومنطلقها جاء من دراسة أهم وأشهر الاحتجاجات التي عدت منعطفا في عملية التحويل السياسي والاجتماعي للدولة، وأي شيء يمكن أن يقال على الدور الذي لعبته الثورة الفرنسية واحتجاجات 1968 على سبيل المثال في بروز تأصيل نظري للظاهرة لا يمكن المحيد عنه إلى يومنا هذا، وعلى إيقاع منهجي آخر ارتأى بعض الباحثبن إلى حسبان الاحتجاج في وقتنا المعاصر لايمكن تفسيره سوى من باب تراجع وظيفة التمثيل السياسي وبالتالي استبدال “الديمقراطية التمثيلية بالديمقراطية الاحتجاجية” Lilian Mathieu)[1]، أو مقاربة الاحتجاج من باب تفشي ظاهرة اللاتسييس وموت القنوات التقليدية للفعل السياسي (Mounia bennani chraibi)[2].

 لا يبدو صاحب “الحركات الاحتجاجية في المغرب” في كتابه هذا  منشغل البال بالتفسيرات الحديثة للاحتجاج والتي تنهل من حقل علم السياسة، ذلك أن كثيرا من مقاربته للاحتجاج بالمغرب منذ أحداث 1965 إلى مظاهرات “الربيع العربي” تمتح من معين الأباء المؤسسين للسوسيولوجيا في محاولة إسقاط نظرياتهم على الفعل الاحتجاجي بالمغرب واختبار عموميات التحولات التي مست العلاقة فيما بين الدولة والمجتمع، بالقدر الذي يأخذ على إثره مسافة تنطلق من خصوصية التجربة المغربية.

  1. مسار تشكل الاحتجاج والانزياح نحو احتلال الفضاء العام

  من المفيد بداية التأكيد على أن الحركة الاجتماعية كمفهوم لا زال يتميز بنوع من الخلط فيما بينه وبين الاحتجاج ويكأننا أمام مفهوم واحد، لذلك ينقلنا صاحب الكتاب في الفصل الأول من خانة الريبة والشك والخلط إلى خانة التوضيح، إذ الحركة الاجتماعية حسبه تعبر عن احتجاج اجتماعي يضم ثلاث فئات متمايزة: الانتفاضة (émeut) والحركة الاجتماعية والحركات الاجتماعية الجديدة. تتميّز الأولى بالعنف الجماعي والعفوية وسرعة الزوال، أمّا الثانية، فتهدف إلى الدفاع عن المصالح المادية والمعنوية لفئة أو فئات اجتماعية، بينما الثالثة تسعى إلى الدفاع والارتقاء بالقيم السائدة أو وضعها موضع سؤال، غير أنه إذا كان في الوسع إدراك معنى الأبعاد السياسية للاحتجاج الاجتماعي على نحو أشمل في السياق المغربي والذي تشكلت أنويته مابعد الحقبة الكولونيالية على حد قول الكاتب، فإن السياق العام له تميز بظرفية مشحونة بين الحكم وأحزاب الحركة الوطنية، سارع الحكم على إثرها  إلى تدبير سياسة قمعية ضدّ المنظمات السياسية والنقابية، وخاصة ضدّ حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، فكان من نتائج هذا الصّراع تزايد حدّة الاحتجاجات من قبل الطلبة في شكل إضرابات ومحاولات احتلال الشارع ..، حيث كانت كل هذه التعبئات تصطدم كلّ مرّة بقوات البوليس القمعية. وبسرعة، اتخذت الاحتجاجات المتفرقة والعابرة للتلاميذ والطلبة بعدا سياسيا. وتمكّنت من دفع نقابة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب لوضع النظام الملكي موضع سؤال في مؤتمرها سنة 1963. وستنتهي بعض الاحتجاجات التلاميذية بشكل درامي في مارس 1965، على إثر القرار الصادر عن وزير التربية الوطنية لحظتئذ فيما يخص تحديد سنّ تلاميذ المدرسة الابتدائية.

  هذا المفعول الحركي للاحتجاج هو عين قوتها وتأثيرها العميق على النظام، ماجعل هذا الأخير على الرغم من التوترات القائمة بينه وبين أحزاب الحركة الوطنية السماح لبعض المساومات وفتح قوس التفاوض والحوار فيما بينه وبينها، مع استثمار حدثي فشل انقلابي 1971-1972، وقضية الصحراء 1975، وعلى الرغم من بروز ملامح الانفتاح السياسي في سنوات السبعينات فقد استمرّ الاحتجاج، وخاصة منه الطلابي، في شكل كتابات حائطية، وإضرابات ومحاولات احتلال الشارع.. رافق هذا الاحتجاج قمع مطلق من طرف الدولة كان من نتائجه حلّ الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، والاتحاد الوطني للقوات الشعبية (فرع الرباط). وجاءت مراجعة قانون الحريات العامة سنة 1973 لتعزّز من إجراءات القمع بالرفع من قيمة الغرامات المستحقة والعقوبات السجنية مقارنة بقانون 1958. وأصبح مبدأ المساس بالنظام العام هو الكلمة السحرية التي تسمح بإلغاء تجمّع عام أو حلّ جمعية ما.  

  وكأي فعل احتجاجي تبرز الانتفاضة كظاهرة “لا- عقلانية”حين يعجز نظام سياسي ما عن احتواء صدى المطالب الاجتماعية، وإن كانت مسيسة والتحكم في أنوية المجتمع، يعتبر الكاتب الانتفاضة كردّ فعل جماعي تلقائي، بمعنى أنها غير منظّمة، أو ليس من ورائها حركة اجتماعية أو سياسية معيّنة.”، ويجنح إلى تفسير الانتفاضة بالمغرب كشكل من أشكال الاحتجاج إلى طرح منصور أوسلون القائل بأن ” الاعتقاد السائد الذي يقول إنّ مجموعة من أشخاص لهم مصالح مشتركة يميلون للدفاع عنها، أساسه ضعيف، إن لم يكن منعدما، و يعزز طرحه هذا باستحضار اندلاع انتافضة بمدينة الجديدة والتي ابتدأت برمي الأطفال للحجارة في اتجاه الشرطة، ومن زاوية أخرى وفي مسايرته لنفس الطرح يورد أنه، على الرغم من إعلان الإضراب العام سنة 1990، فإن الانتفاضة لم يكتب لها الولادة بنفس المدينة بسبب عدم الحضور المكثف لقوات الأمن، فتفسير الانتفاضة بواسطة نظرية تعبئة الموارد تبقى إمكانية مستبعدة حسب الكاتب، ليخلص إلى أن الانتفاضة يمكن مقاربتها من باب اعتبارها نتاج إحباط شديد، وقلق وتفسّخ معنوي، وحسبانها جوابا عنيفا على التوترات الموجودة بين الانتظارات وطموحات فئات اجتماعية في وضعية صعبة أمام واقع حضري مرّ“.

  تبقى قوة الأحداث لها علاقة مؤكدة بإعادة إنتاج كتابة التاريخ السياسي، لذلك يجد الفعل الاحتجاجي إبان زمن الانفتاح السياسي فرصا تخطى على إثرها الانتفاضة، وانتقل إلى شكل ثان من الاحتجاج ثبّت نفسه شيئا فشيئا وانبنى في جزء كبير منه على الروابط العاطفية، أي الانتقال ” من الاعتصام إلى المظاهرة”، تشكل الفترة الممتدة فيما بين 1990 و1996 مسار تجلياتها.

  داخل هذه النقطة تضمن الحركات الاجتماعية الجديدة ذات الطابع العاطفي أو الجماعي التعبئة الاجتماعية بارتكازها على حدث عاطفي (صدمة معنوية Moral shock)، أو إثني- وطني، وتفسير المظاهرات المكثفة في سنوات التسعينيات والسنوات التي ستليها  حسب الكاتب، يمكن إدراجه ضمن هذا المعطى، إذ احتلال الفضاء العام أصبح يتغدى على العواطف كما هو الأمر مع  تنظيم مظاهرة بالدار البيضاء احتجاجا على حرب العراق، من جانب، وتنظيم مظاهرة ضد الإرهاب يوم الأحد 25 ماي 2003 من جانب آخر. 

  أضحى أمام استحالة النزول إلى الشارع بسبب عسر مساطر الترخيص للمظاهرة، بروز “الإضراب كوسيلة ضغط سياسي.. فالمحتجون غالبا ما أصبحوا ينظمون اعتصامات أمام مقرات البنايات الرسمية (وزارات، عمالات، برلمان، جماعات)”. وبتتبع مسار الاحتجاج منذ بداية التسعيينيات إلى الألفية الثالثة تكون “أشكال ومضامين الاحتجاج” قد استكملت حلقاتها داخل السياق المغربي، ولعل أبرز تجسيداته والمبنية على استراتيجية التشويش تجد صدى لها عند حركة “حاملو الشهادات المعطلون”.

  • انتهاز فرصة الانفتاح السياسي

  تبدو قصة نجاح حركة “حاملو الشهادات المعطلون” مثيرة للاهتمام بالنسبة للمؤلف ونموذجا فريدا في التجربة الاحتجاجية المغربية، ويفسر نجاحها هذا باللجوء إلى اختبار براديغم الاختيار العقلاني ونظرية الإحباط. إن ممثلي حركة حاملي الشهادات المعطلين يعتبرون أنفسهم بدون أي انتماء سياسي. وأن هدفهم الوحيد ينحصر في النضال من أجل الحصول على الشغل والتصدي للزبونية في توزيع مناصب الشغل التي توفرها الوظيفة العمومية. والأصل في ذلك أنه، على الرغم من ظهورها سنة 1990، فإنها استفادت من منظومة سياسية كانت تنفتح تدريجيا بمرورها من عدد من التجارب السياسية: حكومة ماسمي ب(التناوب) بدءا من 1998، وحكومة يقودها الإسلاميون بدءا من 2012.

لسوف نرى نتائج هذه الحركة ووقعها على الدولة والذي كان له عظيم النفع على أعضائها، بدأت حركة حاملي الشهادات المعطلين في التجذر منذ 1996: اعتصامات وإضرابات عن الطعام، التطويق العنيف للبنايات الرسمية ومقرات الأحزاب الحاكمة، الإخلال بحركة السير والأنشطة الرسمية للحكومة، محاولة الانتحار حرقا في الفضاء العام، الخ.

  لايمكن أن نرى في هذا الجنوح المطلق إلى احتلال الفضاء العام من قبل الحركة إحدى تراكمات الفعل الاحتجاجي زمن التسعينيات وحده دونما ارتباطه بأسباب أخرى ترتبط حسب الكاتب، بالثمار التي جنتها من قبيل ضغطها على الدولة، إذ “.. الضغط الجماعي للحركة لم يعد ينحصر فقط في تنظيم اجتماعات رسمية، أو رمزية مع حاملي الشهادات المعطلين. فبعد شهر واحد من إحصاء هؤلاء الشباب، اقترحت عليهم وزارة الداخلية 975 منصب شغل و وعدت بتشغيل باقي المرشحين في القريب العاجل.

  هل يمكن أن نختزل تفسير تجدّر حركة حاملي الشهادات المعطلين في براديغم الاختيار العقلاني وحده؟

  حسب ما ورد في متن الكتاب يندرج تنظيم الفعل الجماعي للحركة في نموذج الاختيار العقلاني، حيث يصبح الفرد بعبارات تكلفة المزايا مصدرا تفسيريا للمشاركة في الفعل الجماعي. إنّ تنظيم المجموعة يتمّ بطريقة لا تسمح لحامل الشهادات أن يستفيد من نتائج فعل جماعي لم يشارك فيه. كما أنّ الحركة تقترح مزايا فردية خاصة من أجل حثّ حاملي الشهادات المعطلين على الانخراط الفعلي في التعبئة الاجتماعية“.

  ولئن كان من دواعي استحضار احتجاج الحركة على ضوء النظريات السوسيولوجية  سمة مميزة لفهمها أكثر، لا مندوحة عن استثمار نظريات لاحقة، ولا يجد الكاتب في خضم تحليله للحركة مقاربة ملازمة لبراديغم الاختيار العقلاني غير نظرية الإحباط، فالبنسبة له تبرز نظرية الإحباط المفارقة بين الوضعية الاجتماعية المرتقبة والمرجوة لحامل الشهادات المعطل.. والواقع الاجتماعي المرّ الذي يرمي بالشباب المعطل الحامل لشهادات في أحضان العطالة والبؤس، أو إلى ممارسة مهن لا تليق بما اكتسبه في الجامعة من كفاءات. وهذه الانتظارات المخيبة للآمال تخلق شعور بالإحباط يكون بمثابة الخطوة الأولى المؤدية إلى السخط.

  ما يعطي لهذا التفسير أهميته أنه يقدم لنا تشخيصا دقيقا وفهما معمقا لحركة استافدت من مسلسل انفتاح النظام السياسي، ربحت رهان معركة التوظيف وتجاوز وضعية البطالة التي أنهكت أعضائها، وحقيقة الأمر أنه، وإن تخلل مسار احتجاج حركة حاملي الشهادات المعطلين شيء من العنف من قبل الدولة، فإن مسار الاحتجاج سيتوج مع بدايات الألفية الثالثة بتراجع العنف الجماعي، مع ارتفاع حدّة الاحتجاج بشكل غير مسبوق ضدّ التهميش، استمر إلى أن برزت تعبئة افتراضية عجلت بظهور حركة 20 فبراير.

  • الافتراضي كمولد للاحتجاج “المؤقت”

    لقد كانت حركة 20 فبراير لحظة نشوئها متأثرة بما يمور بالمنطقة الناتج عن شرارة الاحتجاجات التي عجلت بهروب الرئيس التونسي بنعلي، فكان لهذا الوقع كبير الأثر على جزء من المجتمع المغربي، استغلّ الشباب المحتج بالمغرب وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة الفيسبوك، فأول ماقامت به الحركة من ردّ فعل اتجاه النظام السخط ضدّه باعتباره نظام سياسي موصوما بالرقابة والظلم والفساد والإفلات من العقاب. وسيعمل بعض القادة المقبلين لحركة 20 فبراير على انتهاز أول فرصة للمرور من السخط المنشور على صفحات الفيسبوك إلى الفعل الجماعي في الفضاء العام، إذ أنشأت هذه المجموعة صفحة على الفيسبوك تحت اسم “خالد الناصري،سير فحالك.. انخرط فيها أكثر من 4000 شخص من أجل إنجاح التعبئة وتنظيم الاعتصامات.

  جعلت حركة 20 فبراير هدفها المطالبة بإصلاحات سياسية، لذلك يرى صاحب الكتاب أن بروزها يؤشر على منعطف لم يعد على إثره الاحتجاج الحضري مقتصرا على المطالب المادية ( الزيادة في الأجور، تحسين شروط العمل، الحق في الإضراب…) أو الدفاع على القيم القديمة أو الجديدة المرتبطة بوضعية المرأة واللغة والثقافة الأمازيغية، وحقوق الإنسان…)، وإنّما أصبحت هذه المطالب تمسّ صلب المنظومة السياسية السائدة، ألا وهي وضعية الملكية وقداسة الملك، وطبيعة الدستور، والفصل بين السلطات…، وإذا أردنا أن نقيم نوع من الإسقاط وأسقطنا العناصر الأساسية التي يمكن من خلالها اعتبار حركة ما اجتماعية على حركة 20 فبراير لأجيب بداهة بالنفي.

   يشير عبد الرحمن رشيق على أن الأدبيات السوسيولوجية تعرّف الحركة الاجتماعية بتأكيدها على ثلاث نقط أساسية: التنظيم، والفاعل المعبّئ، والمطالب ذات الطابع الاجتماعي.  فلا هي تنظيم قوي، إذ تنظيم حركة 20 فبراير ضعيف في هيكلته، ولا يتوفر على قيادة فالملاحظ أن شباب حركة 20 فبرابر يرفض حتى مصطلح الناطق الرسمي أو الزعيم،ناهيك عن غياب المسألة الاجتماعية التي تعتبرها الحركة مسألة ثانوية.

  أفضت التشكيلة الهجينة للحركة والتي ضمت اليسار المتطرف النهج الديمقراطي، والحزب الاشتراكي الموحد، إلى جانب الإسلاميين العدل والإحسان و العدالة والتنمية، ثم جزء من الحركة الأمازيغية وشباب الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وحزب الطليعة الديمقراطي إلى بروز صراعات إيديولوجية بين تنظيمات غير متجانسة سرعان ما عجلت بتقهقر نشاط الحركة لتتلقى الضربة القاضية بعد المصادقة على الاستفتاء الدستوري، ليكون مآلها الاختفاء بعد موتها البطيء وفشلها  في تعبئة الأحياء ونقل صدى المظاهرات التي قوبلت بالقمع إلى جغرافية تلك الأحياء .

  • في صعوبة اختراق الأحياء كمرتع للتعبئة الاحتجاجية

  أضحت الأحياء لاسيما الهامشية منها شيئا يستحق الدراسة والتحليل، خاصة بعدما أصبحت تأخذ مسافة بينها وبين التعبئة الاحتجاجية، ولئن كان بعض الباحثين من يرجح إمكانية اعتبار جغرافية هذه الأخيرة وأفرادها أدوات للضغط على السلطة ووسيلة لتثوير الجماهير وإحداث التغيير، فإن ذلك عكس ما يثبته المؤلِّف في متن كتابه هذا.

  يفسر صاحب الكتاب صعوبة اختراق الأحياء من باب شبكات الجوار والعلاقات العائلية، ويسلط الضوء على موقعين حضريين هامشيين وحديثي النشأة بالدار البيضاء، يدحض الفكرة السائدة لدى العموم والتي تعطي صورة نمطية عن الساكنة الأكثر فقرا اقتصاديا باعتبارها القادرة على تطوير روابط القرب وجعلها أكثر قوة، ففي الأحياء الشعبية ذات الكثافة العالية، نلاحظ ضعف علاقة الجوار، حيث لا يقارب القرب المجالي سوى التباعد الاجتماعي.

  تتميز العلاقة فيما بين الجيران حسب الدراسة التي بين أيدينا بنوع من الريبة والشك وأخذ الحذر، ففي سعيه للدفاع عن مجاله الخاص، غالبا ما يتسلّح المديني بانعدام الثقة في الجيران المعتبرين غرباء عن العائلة. وكما قالت سيدة في الخمسين من عمرها (جارك هو منشارك، صاعدا أونازلا، يؤذيك)، تعبيرا منها على انعدام الثقة في الجيران، وملمّحة في نفس الآن لاختفاء علاقة الجوار التي كانت في الماضي.

  لا يمكن القفز على المعطيات الواردة في الدراسة والتي تتبنى طرح مدرسة شيكاغو الذي يسير في اعتبار الاحتياط واللامبالاة والمواقف المتثاقلة التي تظهر عند المدينيين في علاقاتهم، يمكن أن تعتبر جهاز مناعة ضدّ ما قد يصدر عن الأخرين من مطالب وانتظارات، وأخذا باعتبار العينة الذي اشتغل عليها الباحث السوسيولوجي، ففي حي المسيرة 3 على سبيل المثال صرّح 35 في المائة من الأسر بوضعهم مسافة مع جيرانهم (التيقار بالعامية المغربية)، وفقط 55 في المائة منهم كان لهم رأي إيجابي حول جيرانهم، في مقابل 82 في المائة في حي الهروايين. هو ذا ربما ضعف نجاح التعبئة  الاحتجاجية داخل كنف هذه الأحياء.

  ثم إن مشاركة سكان الأحياء داخل حركة اجتماعية ما وتحقيق استمرارياتها يصعب في ظل انهيار الثقة فيما بين قاطنيها، فحتى الفعل الجماعي داخل هذه الأحياء يتسم بردود أفعال ليس إلا، وغالبا ما ينصب في جزء كبير منه على المطالبة بتوسيع شبكة الكهرباء، أو بناء قنوات للصرف الصحي، أو بناء مسجد، فحتى الانتفاضة التي يمكن أن تقوم نتيجة ضعف الوساطة الاجتماعية في رحاب هذه الأحياء، سرعان ما تختفي ويكون مصيرها في جل الأحيان الاضمحلال.

  إلى جانب العوامل السابقة والتي تعسّر من مأمورية نجاح التعبئة الاحتجاجية داخل الأحياء يكشف لنا المؤلف عنصرا آخر يكمن في التصور العتيق الذي يتمثل في علاقات الخوف والاستبعاد الذي يغذيها الأفراد اتجاه ممثلي مختلف أجهزة الدولة. فالخوف وانعدام الثقة يطفوان على السطح عند كلّ محاولة للتنظيم الاجتماعي للاحتجاج.

* * *

  من غير الممكن أن نوفي قراءة -في كتاب ما- حقها مهما سعينا، لأجل ذلك فهذه المحاولة نبتغي من ورائها فهم معمق لموضوع لا زال يفرض نفسه بقوة في حقل علم الاجتماع، إذ المتأمل والقارئ لواقع الدراسات المنجزة لا سيما الدراسة التي بين أيدينا سيكتشف أن النهج الذي سلكه عبد الرحمان رشيق يضيء سراديب نزوع ملحوظ نحو التأسيس لإدراك عمل الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع بالمغرب، والبناء الدقيق الذي يسمح بتفكيك موضوع عدّ من الموضوعات الأكثر حيوية في حياة الاجتماع الإنساني.


[1]– voir ;  Lilian Mathieu, La Démocraite protestatire, science po, 2011.

[2]– voir ; Mounia bennani chraibi, Soumis et rebelles les jeune au maroc, cnrs éditions, paris  1994.