القوانين والأسلحة أو في الحرب باعتباره أفقا للسياسة عند ميكيافلي

Jean-Claud Zancarini[1]

ترجمة وتعريب: الحسين أخدوش

يعتبر ميكيافلي حيازة قوانين جيّدة مترابط مع وجود أسلحة جيّدة؛ فحيثما وجدت أسلحة جيّدة كانت القوانين جيّدة بدورها. وللحديث عن الترابط بين الأمرين (القوانين والأسلحة)، بدأ لإبراز كيف تقتضي فكرة المواطن – الرعية أن يكون الفرد جنديا لا لأنّه يحب الحرب ويجيد فنّها فقط، وإنّما لأجل حبّ الوطن أيضا(وحبا في أولئك الذين يحكمونه).

تعتبر هذه الفكرة من الأطروحات أكثر الأفكار تبصّرا لدى ميكيافيلي، بل والأكثر راهنية في حقبته التاريخية. لقد كان لها الآذان الصاغية، رغم كل الشواهد على الهزائم البيّنة التي لاقتها ايطاليا ذلك الوقت. كان ميكيافلي يكتب بمرارة وسخرية أحيانا في السطور الأخيرة من كتابه الأمير عن “فنّ الحرب”. اعتبر أمراء ذلك الوقت “ظلوا يرتكبون نفس الخطأ ويعيشون في نفس الاضطراب، لأنّهم غير قادرين على فهم الرابط الضروري بين السياسة والحرب.”

تأمل في هذا الرابط كان عنصرا أساسيا في كتاب الأمير، حيث يفسر ميكيافيلي في الفصل الرابع والعشرين من هذا الكتاب: لماذا فقد أمراء إيطاليا ولاياتهم؟ معتبرا أنّه لا ينبغي لهم أن يتهموا الثروة، بل بالأحرى ما يسمّيه عندهم بـ “اللامبالاة” التي ليست سوى خطيئة الكسل (يدل هذا المصطلح باللاتينية على الجبن وهو أسوء خطيئة للجندي). لذلك، ليس مفاجأ تحذيره، أثناء تحرير إيطاليا، من البرابرة في الفصل الأخير من كتابه هذا، حيث كانت تحدوه رغبة في أن يوجد ذلك الإنسان المخلّص القادر على تجاوز أخطاء الأمراء المتمثلة في عدم معرفتهم كيفية التفكير وقيادة الحرب واستعمال الأسلحة. ستكون مهمّة هذا المخلص، في إيطاليا، محدّدة من الناحية العسكرية، حيث سيكون عليه أن يعرف كيف ينهي هزائم الجيوش الإيطالية باستخدام الأسلحة الخاصّة؛ لكن لا يمكن أن يكون الجنود أكثر إخلاصا ولا أفضل دائما.

إنّ “الأسلحة الخاصّة” والدور الأساسي للمشاة كلّها تعتبر مسألة أساسية. فإذا كانت “إيطاليا قد تم طوافها من طرف شارل الثامن، وتم نهبها من طرف لويس الثامن عشر، وإجبارها من طرف “فرناند”، وتمّ إذلالها والإساءة إليها من طرف السويسريين” (أنظر الأمير، 12)؛ إذا كان كلّ ذلك قد حصل، فلأنّ السبب راجع إلى كون الأمراء قاموا بتفويض إدارة الحرب إلى قادة مرتزقة. لذلك، أصبح من الضروري الاعتماد على “الأسلحة الخاصّة، وقد تم تعريف هذه الأخيرة في الفصل الثالث عشر من كتاب “الأمير” كالآتي: “الأسلحة الخاصة هي التي تتكوّن من رعاياك، أو من مواطنيك، أو من منجزاتك؛ بينما البقية تبقى إمّا مرتزقة أو ثانوية […]”، وهذا ما تعتمد الحرية عليه.

يعلن ميكيافيلي بشكل واضح، في الفصل الرابع عشر، أنّه “لا ينبغي أن يكون للأمير شغل آخر ولا التفكير في شيء آخر، كما لا يجب له أن يختار أيّ شيء آخر فنّا له ما عدا الحرب: خاصّة الأوامر والانضباط المتعلق بهذه الأخيرة، باعتبارها الفنّ الوحيد الذي يناسب شخص من يحكم.” تعتبر معرفة هذا الفنّ – المَهَمّة نقطة انطلاق ضرورية لكسب الدولة والحفاظ عليها، وهي القدرة على تأكيد حرية إيطاليا وباقي الولايات التي تكونها، وبالأخصّ إمارة فلورنسا.

نجد هذه الرؤية للحرب بقوة في “الأمير”، كما نصادفها أيضا في مؤلفاته الأخرى، خاصّة في “فن الحرب” وفي “الحوارات”، كما في حكايات وقصص تاريخ فلورنسا.

تستند لديه هذه الرؤية إلى قراءة واسعة بالتاريخ الإيطالي، وخاصة للدور السلبي الذي كانت تلعبه الكنيسة في هذه العملية، الأمر الذي دفع الإيطاليين إلى دفع أجورا للأجانب. لقد استقى ميكيافلي فهمه بهذا التاريخ من تجربته الخاصة كدبلوماسي ومنظم عسكري؛ وقد تعلم في مهامه في إيطاليا وفرنسا وألمانيا أن إمارة فلورنس لا تساوي شيئا لدى الفرنسيين (كما أفاد في إحدى رسائله) حيث لا وزن عسكري لها لديهم، وهو الشيء الذي كان يخافه «سيزار بورجيا» الذي كان يملك “أسلحة خاصّة”. تم العمل برأيه، وقد نصرت وجهة نظره في فلورنسا حول المزايا النسبية لسلاح المرتزقة وللأسلحة الخاصّة من جهة أخرى. وكان قد دعا إلى إنشاء جيش دائم من المشاة المُعَيَّنِين ضمن رعايا فلورنسا، وتحت إشراف وتدريب ضباط فلورنسا. وقد انتهت “عشريته” بما يقارب عقد من الزمن بين 1494 و 1504، حيث كانت المشورة في يناير 1506 في استحضار لتقليد روماني يعبر بوضوح عن وجهة نظره التي تؤمن بالقول المأثور آنذاك: “لكن الطريق سيكون سهلا وقصيرا إن قمتم بإعادة فتح معبد جوبيتير.”

تم نشر “العشرية” في الوقت ذاته الذي بدأ فيه ماكيافيلي سكرتيرا في وزارة العدل، كما تم رفع عدد مشاة فلورنسا. في 15 فبراير 1506، قامت الكتائب الأولى بموكب بعدما أصبحت تعمل مكان «لاسينيوري». بعد إنشاء هذه القوات، جاءت النصوص التي تلخّص الأسباب التي من أجلها كان من الضروري إنشاء هذه الميليشيا والأشكال التي يجب أن تتخذها. وأخيرا، في ديسمبر 1506، تم تعيين القضاء – تسعة ضباط للنظام والميليشيا الفلورنسية والذي تم فيه تعيين ماكيافيلي كمستشار في 12 يناير 1507. في النصّين اللذين كتبهما ماكيافيلي، يظهر الرابط بين القوانين والأسلحة؛ وتتكرر لديه هذه النقطة المركزية، خاصّة في الفصل الثاني عشر من كتاب الأمير، حيث “الأسس الرئيسية التي ينبغي أن تكون لدى جميع الدول القديمة منها، أو الجديدة، أو حتى المختلطة، هي القوانين الجيّدة والأسلحة الجيّدة. وإذا تقرّر لديه أنّه لا وجود لقوانين جيّدة بلا أسلحة جيّدة، تقرّر أيضا أنّ حيازة أسلحة جيدّة يفضي إلى إيجاد قوانين جيّدة.

ترك ميكيافلي الحديث جانبا عن القوانين هنا، متحدّثا عن الأسلحة ودورها في استدامة الكيان السياسي للإمارة. يشير إلى الفقرات الأولى من مقدمة كتاب “مؤسّسات جيستنيان” التي كانت تعتبر واحدة من أسس الثقافة القانونية والسياسية في العصور الوسطى وعصر النهضة، حيث إنّ الإمبراطورية العظمى تستند على القوانين والأسلحة. وقد اكتسب هذا الموقع المشترك قوة خاصّة في ضوء التجربة التاريخية التي مرّت منها فلورنسا منذ عام 1494 نتيجة ملاحظة الضعف العسكري لهذه الإمارة الإيطالية ضد جيوش الممالك الوطنية العظيمة. لم يكن مستغربا، إذاً، بعد وضع أسس كل ولاية، أن يشرح ماكيافيلي، حينها، أنّ حدثته سينصب على الأسلحة وليس القوانين. هناك تحليل ضمني يمكننا الاستعانة به: في عصره، كانت الحرب تحدد الخيارات التي يجب اتخاذها، كما يعد التفكير في الحرب وطرق قيادتها أهم من أيّ شيء آخر، بل إنّه المهمة ذات الأولوية في هذه اللحظة.

لقد كان مؤكّدا أن الرومان هم المثل الذي ينبغي يتحدى به بالنسبة لماكيافيلي، خاصّة في المسائل العسكرية. فالتفكير في فنّ الحرب، كما لا يتوقف «فابريزو كواونا» المتحدث بلسان ماكيافيلي، ذاك ما تحاول “الحوارات” إبرازه بعرض طرق الرومان في شنّها. يضاف إلى ذلك، أنّ أولئك الذين يعتبرهم مثالا سلبيا، بالضبط عندما يتخلون عن “الأسلحة الخاصة”، هم عادة الذين يوكلون أمور جيشهم إلى جنود محترفين يتألفون من الأجانب والمرتزقة. نجد هذا الخطأ بارزا في الفصل الثالث عشر من “الأمير”، حيث كان السبب في خراب الإمبراطورية الرومانية.

وبالاعتماد على مثال الرومان، وعلى التجربة المعيشة في حروب إيطاليا، يفسر ماكيافيلي كيف ترتبط القوة التي يمتلكها جيش ما بشعور الحب الذي يكنّه الجنود لرؤسائهم، قد لا يكون هؤلاء جنودا محترفين لكنّه فعالين في الحرب. ذاك ما يشرحه في بداية “فن الحرب”، حيث الملوك والأمراء، وأيضا بنفس القدر الجمهوريات، “ينبغي أن يكون عندهم مشاة من الرجال الذين عندما يحين وقت شن الحرب يذهبون إليها عن طيب خاطر حبا فيها، وأيضا عندما يعود السلام يرجعون إلى بيوتهم وهم أكثر سرورا.

يظهر النقاش الذي عقده ميكيافلي بخصوص عدم فاعلية أسلحة المرتزقة، في مقابل تمجيد الأسلحة الخاصّة، من خلال تشريع قوانين جيّدة وغرس حب الوطن والامتثال للقوانين، أنّ العلاقة الحميمة التي يُفترض أن تربط بين الجنود، باعتبارهم مواطنين، والوطن هو بلا شك أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت تصوّره للسياسة واقعيا وملموسا، حيث كان يأخذ في الاعتبار تداخل العلاقة بين القوانين المشرّعة بكيفية (القوانين الجيّدة) وامتلاك أسباب القوة (الأسلحة الجيّدة). ولعلّ هذا الأمر هو ما يضفي الراهنية السياسية على فلسفته السياسية والأخلاقية، حيث ظلّ على الدوام المعين الذي لا ينضب للتفكير في الحرب كأفق ضروري للسياسة.


[1]  – أنظر العدد الخاص بالفيلسوف ميكيافلي الذي أصدرته المجلة الفرنسية “الملاحظ الجديد”، العدد السادس والستون لسنة 2007 (Le Nouvel Observation magazine; Num 66, 2007).