⁎ مصدر الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي
شَهِد كلّ من القرن 20 و 21 الميلاديين تطوّرات هائلة وكبيرة في مجالات تقنيات التواصل الإعلامي، ممّا انعكس كثيرا على مختلف مجالات الحياة الإنسانيَّة المعاصرة: الاقتصاديَّة، والسياسيَّة، والثقافيَّة، والرياضيَّة، والفنيَّة.. إلخ. ولفهم تلك التحوّلات الهائلة التي طالت تقنيات الإعلان والتشهير والإشهار، يَلْزَمُ العودة إلى سبر أغوار الفكر العقلاني الحديث المؤسّس لهذه السرديَّة الجديدة، وذلك لربط نتائجه المترتّبة عليه بالمقدّمات والأسباب الثقافيَّة والأديولوجيَّة التي حكمت تطوّراته وتحوّلاته الحديثة والمعاصرة.
وقد نهض الفكر النقدي المعاصر، ببعديه الفلسفي والسوسيولوجي، بتحليل هذه الظاهرة الثقافيَّة الخاصَّة بمجتمعات الحداثة الليبراليَّة؛ وكانت مدرسة فرانكفورت النقديَّة واحدة من التوجّهات النقديَّة لتأثيرات ثقافة التشهير والإعلان على استلاب إنسان “البعد الواحد” الذي وسم هذه المجتمعات.
وللوقوف على خصائص ومميّزات النقد النظري والسوسيولوجي لبعض روّاد هذه المدرسة النقديَّة، نقترح التعرّض لمحاولة كل من أدورنو (Theodor Adorno) وهوركهايمر (Max Horkheimer) في نقد مجتمع الجمهور الذي شكّلته المحاولات الكبيرة للآلة الدعاية الضخمة للقرن العشرين، خاصَّة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية كما جاء في كتابهما المشترك “جدل التنوير” (Dialiktik der Aufklärung) الذي نُشر أوَّل مرّة سنة 1944.
قدّم هذان المفكّران النقديان في معرض حديثهما عن “التنوير وخداع الجماهير” الكيفيَّة التي أصبح بها الإنتاج الثقافي والمتاجرة بالفنّ تحوّلا دراميا للمجتمعات الحديثة والمعاصرة، حيث عملت الآلة الصناعة فيها بالقيام بنوع من الاستحواذ على قيم الإبداع والجمال لأجل استثارة تجاريَّة رابحة، تمكّن أصحاب الصناعة الثقافيَّة من توجيه رغبات ودوافع الجمهور اللاشعوريَّة لاستهلاك نماذج قيميَّة جديدة غير عقلانيَّة. فكيف نُجز ذلك من طرف آلة الإنتاج الضخمة للصناعة الثقافيَّة الرامية لخلق مجتمع للجمهور كسوق استهلاكيَّة يمكّنها من تحقيق الأرباح؟
عملت الدعاية الإشهاريَّة للشركات الكبيرة على خلق نظام جديد من الدلالات والرموز يحتلّ فيه السامي مرتبة الوضاعة والوضيع مرتبة الأعلى، وذلك تمشّيا مع منطق الدعاية الإعلانيَّة الذي لا يستهدف سوى تحقيق المنفعة والأرباح والعائدات. غير أنّه، ونظرا للمنافسة القويَّة على تلك الأرباح المفترضة، يكون ذلك المستهلك المفترض هدفا لشتَّى أنواع الإثارة والاستثارة للتأثير فيه كي ينخرط بدون وعي في استهلاك منتجات الصناعيَّة الجديدة.
تماشيا مع هذا النهج الجديد، ظهرت الحاجة إلى خلق نجوميَّة دعائيَّة من رغبة جامحة للتشهير التسويقي التصنيعي وتسويقه، مستفيدا من تقدُّم أساليب الدعاية الإعلانيَّة المعاصرة. عبر هذه السياسة الإعلانيَّة الجديدة، تحولّت تسمية الفنان الكلاسيكيَّة إلى مجرّد توصيف المؤلّف ذي الأبعاد الإنتاجيَّة، مستفيدة من تطوّر الأدب، المسرح، السينما، الموسيقى، وباقي الأشكال الفنيَّة في القرن العشرين. ثمّ انتقل اسم المؤلّف بدوره إلى توصيف أخر أكثر حياديَّة، هي تسميَّة “التشكيلي” التي تسمح بتوسيع الممارسات الفنيَّة بشكل غير مسبوق لتشمل كلّ الممارسات الفنيَّة ودمجها في نسق الإنتاج الربحي الاقتصادي.
هكذا، ارتبط تطوّر استعراض الفنون بتجدُّد الحاجات الاجتماعيَّة، فكان على الآلة الإنتاجيَّة أن تنتقل من الصيغ التقليديَّة في تسويق الإبداع والعبقريَّة، إلى طور جديد يعتمد معيار الشهرة والنجوميَّة كمعيارين للترويج والتسويق حسب نوعيَّة المستهلك لفنون. انتبه كل من أدورنو وهوركهايمر إلى هذه التحوّلات الجديدة، فاعتبرا ظاهرة الشهرة، أو ما يسمّى بالنجوميَّة، نتاج الصناعة الثقافيَّة التي استثمرت الفن والإعلام المعاصرين في تسليع الثقافة. فالحضارة التي تمارس طقس النجوميَّة، هي حضارة في حاجة دائمة إلى آليات اجتماعيَّة لتحدِّد من خلالها مستوى كل ما يثير الانتباه.
ليست الشهرة والنجوميَّة غير نماذج تستخدمها المشاريع التصنيعيَّة ذات الأبعاد العولميَّة لخدمة الآلة الكبيرة للإنتاج الاستهلاكي، ومن ذلك تنشأ الحاجة إلى خلق النجوميَّة لخدمة قوى غير مرئيَّة التي هي الفاعلة الحقيقيَّة المحدّدة لما ينبغي تذوّقه واستهلاكه. هكذا، تنتج الشهرة وتستهلك كبضاعة إعلاميَّة لأغراض تفوق أبعادها تلك الصور المزيّفة التي ترسمها النجوميَّة في وسائل الإعلام والدعاية الإشهاريَّة. بمقتضى ذلك، يكون النجم أو الشخص المشهور (وهو إمّا لاعب رياضي، أو ممثّل، أو فنان شعبي..) في موقع الظهور البارز، فيحاط بنوع من التشهير الذي تعمل الآلة التسويقيَّة على ترويجه وهو يقتني أو يستهلك منتوجا صناعيّا معيّنا في إعلانات إشهاريَّة دعائيَّة لهذا المنتوج أو ذاك.
وبالنظر إلى التّمَاهِي الكلّي للجمهور مع الحاجات المُسْتَحْدَثَةِ، منع العمل الفني الاصطناعي الناس التحرّر من مبدأ النافع، في الوقت الذي كان منتظرا منه ذلك كما هو الحال بالنسبة للعمل الفني الأصيل. غير أنّه لمّا استبدلت القيمة المستخدمة في تلقي الأمر الثقافي بالقيمة التبادليَّة ذات الأبعاد التجاريَّة المحضة، تحوّلت قيمة العمل الفني والثقافي عامَّة إلى مجرّد سلعة تباع وتشترى. هكذا، فبدل البحث عن المتعة، أصبح يُصار إلى معاينة التمظهرات الفنيَّة المسلّيَّة فقط، من ثمّ بدل البحث عن أن يصير الإنسان عارفا بالثقافة والفنّ، غدا يصار إلى الاكتفاء بربح هالة مجد ونشوة لهو مؤقّت.
أمسى المستهلك بمقتضى هذا التحليل حجّة في صناعة اللهو بالنسبة للمؤسّسات الدعائية التي لا يستطيع المواطن العادي اكتشاف قوّة تأثيرها عليه، ما دام خاضعا لضرورة اقتناء بضاعة فنّيَّة معيّنة باعتبارها سلعة. وقد أصبح كلّ شيء تقريبا تحت هذا المظهر الوحيد قابلا لأن يستخدم لأجل شيء آخر عداه حتى من دون تعيين غرض عقلاني معقول؛ بالتالي لا قيمة لأيّ شيء، إلاّ بوصفه سلعة وغرضا لا قيمة له في ذاته تقريبا. وإذاً، فقيمة استخدام الفنّ إنّما تتحدّد فقط باعتباره موضوعة (Notion) أو تيمة (Thème) ذات القيمة التبادليَّة فقط، وهي الصفة الوحيدة التي يمكن يتمتَّع بها المستهلك للفنّ في مثل هذا الأفق.
يُظهر التحليل النقدي الذي يقيمه كلّ من أدورنو وهوركهايمر للصناعة الثقافيَّة الجديدة أنّ نزوع التبضيع والتسليع (Marchandisation) في الإنتاج الثقافي المعاصر قد رسَّخ فعليا القيمة التبادليَّة للفنون المعاصرة أيّما ترسيخ، حتى صار الفنّ المعاصر مرتبطا بنسق الإنتاج الصناعي الذي غدا الحصول عليه يقع تحت طائلة العرض والطلب. لقد تحوّل الفن، حسب ما لاحظه أدورنو وهوركهايمر، إلى سلعة قابلة للاستهلاك المبتذل يحكمها هاجس الربح، وأصبح بذلك مثله مثل أيَّة تجارة أخرى رائجة في الأسواق الجديدة.
كانت المعزوفة التي يؤدّيها “توسكانيني” (Arturo Toscanini) وتبثّها أمواج الإذاعة والراديو في ما مضى لا تباع ولا تشترى، وإنّما يُستمع إليها فقط، وكان كل صوت من هذه السمفونيَّة كما لو أنّه خالد. لكن بمجرّد إذاعتها في الراديو أصبح يرافقها بين الفينة والأخرى إعلان دعائي ما، ويعلن مسبقا أنها سوف تستمرّ بعد الإعلان. إنّ ما يجب الانتباه إليه هو أنّ المراوغة الدعائيَّة كانت تحصل دائما بشكل غير مباشر من خلال تنامي رقم معاملات مصانع السيارات أو الصابون الذين يموّلون هذه المحطَّات الإذاعيَّة ويشهرون فيها لإعلاناتهم الدعائيَّة والتجاريَّة.
إنّ الراديو والإذاعة في بدايَّة القرن الماضي وأواسطه كان ثمرة ثقافة الجمهور، وهي نفسها الثقافة التي تطوّرت بشكل حاسم مع مرورنا إلى عهد الإشهار التلفزيوني المتأخِّر الذي أوصل هذه الثقافة إلى أوجها وذروتها مع صناعة السينما والإشهار الدعائي المتلفز. والواقع أنّه قد تقوّت البنيات التقنيَّة لنظام التبادل الربحي الذي أسّسه المجتمع الصناعي الحديث وطوّره في صيغ معاصرة، فسحبه التطوّر الاقتصادي على مناحي مختلفة للحياة: الصناعيَّة والثقافيَّة، ممّا قوّى تجارة منتوجاتها. وقد بيّن أدورنو مخاطر هذا التطوير الصناعي على ثقافة الجمهور التي ستتعرّض لعمليَّة التبادل التي ستحدّد فيما بعد قيمة تلك المنتوجات الفنيَّة والثقافيَّة وفقا لصنميَّة التسليع (Fétichisme industriel) كما نبّه إلى ذلك ماركس (Karl Marx) نفسه.
وبما أنّ السلع التي تنتجها صناعة الثقافة لا تقاس بالقيمة الاستعماليَّة فقط، وإنما أيضا من خلال قيمة مجردة يحدّدها السوق فيما بعد؛ فإنّ هذا الأمر سرعان ما يفضي إلى نهج منطق الاستهلاك الذي يفترض بدوره وجود أنماط جاهزة من الجماهير الخاضعة والمستجيبة لهيمنة المال والتسليع. لذلك، عادة ما تتمّ عمليَّة إخضاع هؤلاء لهذا النمط من التعاطي مع المنتوجات الثقافيَّة الاستهلاكيَّة انطلاقا من القدرة الهائلة التي تنفرد بها الآلة الدعايَّة لمجتمع الجمهور عبر تحويل الثقافة الحقيقيَّة إلى ثقافة جماهيريَّة استهلاكيَّة.
تأسيسا على هذا التحليل لظاهرة الدعاية والإشهار في مجتمع الجمهور، يمكن القول مع أدورنو وهوركهايمر بأنّ الصناعة الثقافيَّة بالنسبة للنقد السوسيولوجي ليست مجرّد ظاهرة اجتماعيَّة بسيطة، وإنّما هي حالة ثقافيَّة مركّبة، تعكس مدى هيمنة قيم التبادل التجاري وسطوة قيم السوق والمال. ففي خضم سعي الشركات للربح والبحث عن أسواق جديدة، أحلّ المعلنون الإشهار مكان المدفع والبندقيَّة للدعاية والترويج للسلع المختلفة؛ وبذلك أصبحت عمليَّة خلق الحاجات الوهميَّة لاستهلاك الصناعة الثقافيَّة فكرة متأصّلة في الصناعة الدعائيَّة للمنتوجات التي يتوقّف ترويجها على نجاح الإشهار.
كشف نقد أدورنو وهوركهايمر للدعائيَّة والإشهار، باعتبارهما صناعة ثقافيَّة معاصرة، عن خطورة وسائل الإعلام والنشر في تسخير المثقفين والمفكرين والخبراء، وما تلعبه من أدوار غير حياديَّة عندما تخدم نزوع الهيمنة كما في الحال في الصناعة الثقافيَّة التي بدأت تنحو منحى تكريس إرادة السلطة، كما شرح أدورنو عندما وضّح كيف يتعذّر فهم جوهر الصناعات الثقافيَّة الجديدة دون اعتبارها الصيغة الحديثة لإرادة الهيمنة. إنّها التجلّي الأوضح لخدمة العقل الأداتي (la raison instrumentale) للتقنية التي تسعى إلى السيطرة الثقافيَّة على عالمنا المعاصر؛ وهي بذلك هيمنة تتأسَّس على آليّات فكريَّة وأيديولوجيَّة محدّدة ومدروسة بدقَّة، بحيث تسعى لتنميط الثقافة وقولبتها وإنتاج وإعادة إنتاجها لأغراض السيطرة والإخضاع والتلاعب، وهي بذلك كليانيَّة (Totalitaire) كما يقول جلبير هوتوا (Gilbert Hottois) في معرض كلامه عن التقنيَّة – العلم (ضمن الفلسفة والأخلاقيات، ج 11، أوديل جاكوب 2002، ص 54).
– الهوامش:
[1] – هوركهايمر وأدورنو: جدل التنوير، شذرات فلسفيَّة؛ ترجمة جورج كتورة، الطبعة الأولى، عن دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت-لبنان، يناير 2006، ص 310.
الحسين أخدوش
باحث أكاديمي ومترجم مغربي، مهتم بالفلسفة والفكر الإسلامي وبتاريخ الأفكار النظرية والتفكير النقدي. له عدّة دراسات ومقالات وترجمات في مجلات علمية مغربية ودولية.
A Moroccan academic and translator, interested in Philosophy, the history of theoretical ideas and critical thinking. Having several studies: articles and translations in Moroccan and international scientific journals.