وضعنا الإنساني في زمن الجائحة: هشاشة وتصدّع

رغم ما يشهده العصر الراهن من تحكّم الإنسان في الطبيعة وتسخيرها لصالحه، إلاّ أنّه لازال يدفع ثمن هذا التحكّم غاليا؛ بل أصبح أثر هذا التحكّم، يوما بعد يوم، مدمّرا بوقوع هذا الأخير فريسة سهلة لنزوعات متطرّفة شتّى: استقواء، استهلاك، تسيّد، إلخ. ربما، سيكون علينا اعتبار الوقت قد فاتنا لفعل شيء ما في زمن هذه الجائحة المتفاقمة، شيء يتوقّف أمره على كلّ واحد منّا، بوصفنا بشرا بوعي وإدراك لما يقع من حولنا. ولعلّ من الأمور المستعجلة اليوم، خاصّة في ظلّ انتشار مرض كورونا، هو أنّ يتجنّب الأفراد الشّراك الذي نصب لهم عبر ما يسمّى بـ”اقتصاد المؤثرات” الذي يمثّل في حدّ ذاته منظومة متكاملة للاستلاب الفردي والجماعي؛ وذلك لأنّه يتمحور حول الترويج لما لا يدوم، فيحضّ المستهلك على تفضيل المتغير على الثابت والمتلاشي على المستدام.

لقد كشفت ظروف الجائحة الناجمة عن انتشار فيروس كورونا (كوفيد19) هشاشة النظام الاقتصادي والاجتماعي المعولم، وذلك بالرغّم من تشابك العالم المعاصر وسيادة التكنولوجيا. في الواقع، إنّ ما ظهر الآن هي حدود هذا العالم الذي صاغته الرأسمالية المعاصرة المتحالفة ضدّ كلّ امكانية لانعتاق الاقتصاد الدولي من سيادة السوق وقيمه الليبرالية. لذا، لن يكون ممكنا اتاحة الفرصة لنموذج جديد ما لم تقع الكارثة العظمى. ربّما يكون انتشار فيروس كورونا بداية هذه الكارثة، في انتظار أن تجهز الكارثة المناخية على الباقي. لكن هل من حلّ لتفادي الأسوأ؟

لقد آن الأوان لترشيد استهلاك العالم للمواد الأولية والمصنعة معا، بشكل يوازيه نشر وعي كاف بأهمية الحرص على نظام استهلاك رشيق، قوامه تفادي المنتوجات التي تضرّ بالبيئة، وخاصّة منها تلك التي تصنف ضمن خانة “اللوكس” من أيّ صنف كانت. كما يلزم التصدي للعجز البيّن الذي أصبحت عليه الدول القُطْرِية تجاه لوبيات الشركات الكبرى، لتتحوّل بذلك إلى آلة بيروقراطية لخدمة الرأسمال الليبرالي المتوحّش. فبدلا من مواجهة أصحاب المال والشركات الدولية، عملت الدولة المعاصرة على تحرير الاقتصاد باستقلال عن مواجهة الأزمات السياسية والبيئية التي تسهم فيها الشركات المتعدّدة الجنسيات بشكل مباشر أو غير مباشر.

ولأنّ جوهر النزوع الاستهلاكي المعاصر يكمن في خلق حاجات دائمة إلى استهلاك الجديد، وترك القديم الذي لم يعد يحوز رضا المستهلك ورغبته، فقد تحوّلت الآلة الإعلامية إلى أكبر صناعة دعائية تسير عليها خطة المنتج والحملات الإعلانية المختلفة كي تضمن الزيادات المطردة للطلب على الاستهلاك. ونتيجة لذلك، فنحن لم نعد بمنأى عن المساءلة -على الأقل من وجهة نظر بيئية- في عالم بدأ يفقد، شيئا فشيئا، الكثير من مقوّمات العيش الكريم جراء استغلال الآلة الرأسمالية المتوحشّة لكل إمكاناته الطبيعية لفائدة فئة قليلة من كبار الاحتكاريين الجدد.

أمام هذه المعضلة الثقافية، يبدو مستقبل المجتمعات المعاصرة رهينا بنمط التأويلات الأيديولوجية والاجتماعية والسياسية التي تسوّق للبسطاء أنّها الخطط الممكنة لإنقاذ السفينة التي تغرق. لكن، والحالة هذه، ستبقى مثل هذه التفسيرات متعلقة فقط بتدبير الأزمة، وربما بتأجيل الكارثة لبضع سنوات، حتى لا نقول لبضعة عقود. إنّ المشكلات الناجمة عن عولمة الرأسمالية قد وضعت حدودا نظرية وواقعية للنمط الأمريكي في العيش والحياة؛ ومن ثم لا يمكن لهذا النموذج أن يعطي الحلول الحقيقية للمشاكل التي تسبّب فيها في العالم برمّته.

تعدّدت المشاكل التي يتخبّط فيها وضعنا البشري الراهن، وقد اتخذت كلّ الألوان والمقاسات، حيث أصبحت التبعات المختلفة (اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، ومعلوماتية، وصحية) تهدّد بتفجير الأوضاع جراء جشع نخبة مالية عالمية، ويظهر أنّه لم يعد يهمّها مستقبل الإنسانية قدر اهتمامها بكسب الأرباح الصافية. فلذلك، نصّبت أسواق المال والاعمال سلطة مطلقة تفوق كلّ اعتبار آخر، وجرّاء ذلك سيّدت الربح وأطلقت سطوة الأعمال. في تقديسها لنمو الأسواق المالية، جعلت هذه الليبرالية عملية صنع القرار في يد عالم المال والأعمال على نحو كامل، مكرَّسة للرّبح الخاص للمؤسّسات المالية على حساب المجتمعات المعاصرة. لقد تحولت البنوك المالية العالمية إلى الآمر الناهي في هذا العالم المعولم، بينما الحكومات المحلية بقيت مقيّدة بالديون، وغير قادرة فعلا على التحكّم في جموح وسطوة الاعمال والشركات.

منبها إلى أن الطفرة الإنتاجية الصناعية المترتبة عن التقدم العلمي الاقتصادي، أبرز المفكّر «داني- روبير ديفور» (Dany Rober Dufour) أنّ العولمة الحالية انحرفت ناحية التأثير السلبي في الإنسان والبيئة، من حيث هي دعوة جامحة لاستثارة غرائز الإنسان واستغلال الموارد الطبيعية المحدودة أصلا.[1] بالنسبة لاستغلال الطبيعة، فالبين، أن كوكبنا الأرضي لم يعد يتحمل الاستهلاك المفرط، نظرا لمحدودية موارده الطبيعية. وقد ظهر للناس جلّيا كيف أن إحراز مستوى التنمية الأعلى في الشمال (أميركا، كندا، أوروبا) بالنسبة لسكان الجنوب إفريقيا، آسيا، وأميركا الجنوبية) يتطلب أضعاف مضاعفة كلّ الموارد الطبيعية الحالية، ما من شأنه أن يلحق ضررا فادحا بالأنظمة البيئية كلّها[2].

يسائل هذا الوضع الجديد مقولة النمو الدائم مشكّكا في خلفياتها الأيديولوجية، ويجعل فكرة الزيادة في الإنتاج والاستهلاك تصطدم حتما بمحدودية موارد الطبيعة الظاهر من ذلك أن هناك تعارض بين متطلبات اقتصاد السوق الحالي (القائم على النمو الدائم) ومحدودية الموارد الطبيعية، والتغاضي عن هذه الحقيقة والاستمرار على النهج الاستهلاكي نفسه، القائم حاليا، قد يعجل بالصدامات والحروب حول المصادر الطبيعية للماء والزراعة ومختلف مصادر الطاقة الطبيعية الأخرى.

يلزم نقد نمط عيشنا الراهن وتجاوزه إلى نمط رحيم بالبيئة، يقوم على ترشيد الموارد واستدامتها وتجاوز النزوع الاستهلاكي. غير أنّ الانتقال من نمط الإنتاج السائد إلى نمط اقتصاد بديل يحتاج إلى استبدال البارديغم الليبرالي برمته (النموذج الراهن الموروث عن الحداثة الأنوارية) إلى بارديغم جديد للحياة والارض، بحيث يكون قادرا على تجاوز نزعة التحديث القائمة على فكرة السيطرة على الطبيعة. ويلزم من هذا التحوّل ضرورة تخطي المنظورات الكلاسيكية والمعاصرة معا للعقلانية والتحديث والتقدم، واستبدال نزعة المنفعة الآنية التي تنظر إلى الطبيعة كموضوع للسيطرة فقط. لقد ثبت الان بأن منطق الإنتاج المادي الحالي لا يمكنه أن يطول مادام يصطدم بمحدودية الموارد وانتشار الفقر والتفاوتات بين الأغنياء والفقراء.

إن تبرير منافع النمو يجب أن يأخذ بالاعتبار استدامة الطبيعة وتحقيق العدالة المناخية ومراعاة حقوق الشعوب الضعيفة في مواردها المحدودة. ولأجل ذلك يتعين على العالم تغيير السلوك والفكر معا، إذ التغيير المطلوب اليوم جذري وعميق، وكما يقول «ميشيل سير» (Serres Michel) يجب التحكم في التحكم الذي أفضى إلى ما نراه الان.[3] غير أنّه لا يمكن تعزيز مكانة الطبيعة من جديد مالم تقوّض الايديولوجية الليبرالية الجديدة المنفلتة، سواء في ثوبها الاقتصادي، أو في شكلها السياسي الذي تغذّيه النزعة النفعية – المصلحية المادية.

تقدّم بعض التيارات النقدية المعاصرة يعض الحجج في رفض هذه الأيديولوجية الشمولية التي توجتها العولمة الامريكية سواء بالنسبة للسياسة أو الاقتصاد، وتقيم هذه الحجج على أطروحة جديدة تزعم بأن الفكر الحديث في شكله العقلاني الموروث عن الأنوار الغربية عبارة عن أداة شرسة للتحكم في الطبيعة، ولكي يعري هذا التوجه النقدي الجديد تحكمية العقلانية الحديثة (اقتصاديا وسياسيا وعلميا).[4] ويقدم أنصار البيئة والتعدّدية القيمية عيوب النموذج الأنواري الحديث من خلال الاعتبارات الآتية:[5]

  • النموذج التنويري للاقتصاد والسياسة يهمه التحكم في الطبيعة قصد استغلالها؛ لكنه بهذا الفهم، قد أصبح مقادا بتصورات فكرية وأيديولوجية تعتبر مبادئ الطبيعة خارج نطاق سائر الثقافات الإنسانية. لذلك، لا يمكن تفسير نظام الطبيعة الفريد إلا من خلال علم ذي صحة كونية، ومن ثم مشروعية الدراسة الموضوعية للطبية والتعامل معها على أنها موضوع قابل للاستغلال إلى ما لانهاية.
  • لا تسمح أيديولوجيا الأنوار الحديثة بتفسير العلوم وفلسفاتها على ضوء الثقافة الاجتماعية التي أنتجتها، إذ تزعم أنها موضوعية وكونية، وتريد أن تتعالى على المنفعة والمصلحة والثقافة التي أنتجتها، في حين تبقى في عمقها وليدة الظروف التاريخية والاجتماعية التي نشأت فيها.
  • تعد نزعة الأنوار الحديثة مسؤولة عن ترسيخ دعائم نظرة تحكمية للطبيعة والبيئة، ومن ثم، لا تحمل في نموذجيتها شروط إمكان فهم الطبيعة خارج دائرة الموضوعية، ومن ثم فهي محكومة بهاجس التحكم فيها واعتبار الإنسان سيدها ومستغلها.

وانطلاقا من هذه الاعتبارات، تقيم التيارات النقدية الجديدة الأدلة على محدودية نظرة العقلانية الكلاسيكية للطبيعة، لذلك كان هدف النموذج الاقتصادي والسياسي القائم على هذه النظرة الضيقة السعي إلى استغلال الثروات الطبيعية للربح، ومراكمة رأس المال، والثروة المالية، وقد أوقع ذلك فكر الأنوار الحديث في قصور منهجي خطير عماده اعتبار الطبيعة مصدر تلبية كل الرغبات وبشكل غير محدود[6]. سبق في إطار الفلسفة المعاصرة أن نبهت المفكرة «حنة ارنت» (Hanna Arendt) إلى خطورة النزوع التحكمي للتقنية التحديثية باعتبارها سيرورة منفلتة، حيث رأت في ماهية التقنية في صيغتها الحديثة وسيلة لإرغام الطبيعة على التطويع الدائم للسيطرة البشرية.[7] بنفس الحدّة النقدية، نبهت المفكرة الأميركية المعاصرة «ساندرا هاردينغ» (Sandra Harding) إلى ضرورة تهذيب فلسفات التنوير الحديثة كي تتخذ وجهات فكرية مفيدة في إرشاد إنتاج المعرفة النافعة وبلورة السياسات الديموقراطية الحقة.[8]

يتبيّن ممّا سبق أن تغيير العادات والافكار غدا مطلبا أساسيا لعصرنا الحالي، وذلك  قبل فوات الأوان. فتركيز الاقتصاد على تحقيق النمو والأرباح دون مراعاة لتحوّلات البيئة، أمر أصبح لا يتماشى والأمل في بقاء البشرية على قيد الحياة. لقد بات الوضع خطيرا، وغدت نجاة البشرية على محكّ المبادرة العالمية للتحرّك العاجل. فبغض النظر عن هذا الوباء (كورونا) أو غيره، ستكون الإنسانية أمام امتحان عسير، يلزمها أن تختار: إمّا الاستمرار في هذا المشهد البئيس والتوجّه رأسا إلى الكارثة البيئية والصحية، أو تعديل المنظور والسلوك ناحية مسار جديد، تلجم فيه الحكومات جموح الشركات الكبرى، لتحدّ من سطوة الأعمال، وكذا من جوقتكم التكنوقراط أصحاب البنوك. دون هذا الأمر، فالكارثة واقعة لا محالة.


[1] – Dany Rober Dufour, L’individu qui vient après le libéralisme, collection Folio essais, édition Denoël, Paris, 2011, p.87.

[2] – Jean-Marc Lévy-Lebond, Auto-critique de la science. Ed Seuil, Paris, 1973.

[3] – Serres Michel, Le Contrat naturel, Paris, François Bourin, 1990, p.132.

[4] Charline Zaitoun, « La science est-elle en crise ? », dans le site web:

– https://lejournal.cnrs.fr/articles/la-science-est-elle-en crise? vu le 15.01.2019 dans le Journal CNRS. FR.

[5]  – إنجنر، “سياسات السعادة: المقاييس الاقتصادية والذاتية باعتبارها مقاييس للرفاهية الاجتماعية”، ورد في كتاب: السعادة والفلسفة، إعداد: ليزا بورتولوتي، ترجمة أحمد الأنصاري، مراجعة حسن حنفي. المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 2013، ص 252.

[6] – رانر فونك، الأنا والنحن: التحليل النفسي لما بعد الحداثة، ترجمة حميد لشهب، الطبعة الأولى، نشرة جداول، بيروت، 2016، ص 180. 

[7] – Hannah Arendt, La crise de la culture, éd Gallimard, Paris, 1972,  p.136.

[8] – أوما ناريان، ساندرا هاردنغ، نقض مركزية المركز، الجزء الأول، ترجمة يمنى طريف الخولي، منشور في سلسلة عالم المعرفة، العدد 395، ديسمبر 2012، ص 123.