تقديم:
تعددت الخطابات المصاحبة لظهور جائحة كوفيد-19، واتَّسم هذا التعدد بسيادة أصناف معينة من الخطاب؛ مثل الخطاب العلمي (الطبي تحديدا)، والخطاب السياسي، وخطابات التوعية والإرشاد والنصح والتحذير… إلخ. لكن وسط هذا التعدد والغزارة في الخطابات المنتجة خلال هذا الزمن الوبائي، الممتد من أواخر سنة 2019 إلى أواسط سنة 2021، برز خطاب السخرية بشكل خاص، وتميز بإبداع استثنائي تناسب مع الزمن الاستثنائي الذي أبدع فيه. واتخذ هذا الخطاب أوجها مختلفة، تنوعت ما بين النكتة والكاريكاتور والغرافيتيا والشعر والمقالة الصحفية والأغنية… إلخ.
لقد شكَّل خطاب السخرية نوعا من المقاومة تجاه ما تعانيه البشرية من تهديد وجودي من قبل فيروس كورونا، واستهدف هذا الخطاب بالسخرية التدابير والإجراءات المواكبة لانتشار الفيروس، وكذلك السخرية من اللامبالين بقدرة هذا الوباء على الفتك بالأرواح، وتعطيل الاقتصاد، ودخول الدول في دوامة الحجر الصحي المؤلم.
جسَّد خطاب السخرية محاولة حقيقية للتخفيف من هول الصدمة التي تعرضت لها الإنسانية بشكل مفاجئ وحاد، كما أحدث شرخا واسعا في جدار الخوف والقلق الذي هيمن على العقل الفردي والجماعي: خوف من العدوى، وخوف من العزل الطبي، وخوف من التنفس الاصطناعي/الاختراقي المرعب، وخوف من الموت دون توديع الأهل والأحباب.
كما شكَّل خطاب السخرية أيضا كسرا لسلسلة الانتظارية المرعبة داخل “كهف” الحجر الصحي. ولعله كان بلسما يداوي آلام المرضى وأهلهم، ويخفف معاناة الواقفين في الصفوف الأمامية في مواجهة سرعة وهول انتشار الفيروس، ولعله أيضا كان أداة فعالة لهدم جدار اليأس والإحباط الذي ارتفع عاليا وزاد سمكه بفعل خطابات التهويل، التي استهدفت الحد من الآثار العضوية للجائحة دون الانتباه إلى الآثار النفسية لهذا التهويل المبالغ فيه أحيانا.
كل هذه المميزات التي عرفها خطاب السخرية خلال فترة جائحة كوفيد-19، استرعت اهتمام فريق مركز تكامل للدراسات والأبحاث، وجعلته يخصص هذا المؤلف ضمن مجموعة كتب في السلسلة التي يصدرها تحت عنوان “أعمال كُتبت في زمن كورونا فيروس”[1]، وذلك بغرض تجميع وتحليل خطابات السخرية المنتجة في هذه الفترة. وقد تنوعت أشكال التحليل والدراسة بتنوع الحقول المعرفية التي ينتمي إليها المساهمون في هذا المؤلف الجماعي: دراسات عربية، علم الاجتماع، فلسفة… إلخ.
لقد استهدفت الدراسات المقدمة في هذا العمل إبراز مظاهر وأشكال ووظائف خطاب السخرية في زمن الجائحة، وكذلك بيان أهم أدواره وآليات اشتغاله، باختلاف المجالات الاجتماعية التي أنتج فيها. واستهدفت أيضا تسليط الضوء على البعد النقدي لهذا الخطاب، ومحاولة تأويل دلالاته المختلفة، وعلاقته بكل من الاقتصاد والسلطة والثقافة خلال فترة الجائحة. واستهدفت هذه الدراسات كذلك البحث في البنية الإقناعية للخطاب الساخر وقوته الحجاجية، وقدرته على تصحيح الأوضاع الاجتماعية المختلة، ومدى حضور البعد الأخلاقي والقيمي في هذا الخطاب، وفعاليته في مقاومة الوباء وبعض مظاهر الغباء في التعامل معه.
إن أهم المتون التي اعتمدت عليها هذه الدراسات تلك المبثوثة في مواقع التواصل الاجتماعي، دون إغفال المتون التقليدية (كتب، صحف مجلات…)، لكن مع الإشارة إلى أنه في فترة الجائحة أصبحت مواقع التواصل الحديثة أكثر غزارة وكثافة من حيث إنتاج الخطاب “الكوروني”، وخاصة الخطاب الساخر.
في نهاية هذا التقديم؛ أتوجه بخالص الشكر والامتنان لكل المساهمين في هذا العمل، وأتقدم بعبارات التقدير والاحترام لأعضاء اللجنة العلمية على مساهمتهم القيمة في فحص الأبحاث المقدمة وتحكيمها ومصاحبتها من أجل التجويد والإغناء. كما أخص بالشكر أعضاء مركز تكامل للدراسات والأبحاث، لما بذلوه من جهد وتضحية في سبيل إخراج هذا المنتوج العلمي إلى الوجود، وفي مقدمتهم عبد الرحيم العلام؛ الذي كان صاحب فكرة هذا العمل وساهم بقسط وافر في تنسيقه والإشراف عليه، كما أنوه بالتعاون البناء للزميلين حفيظ هروس وسعيد الحاجي.
[1]– صدر عن هذه السلسلة:
– حالة الطوارئ الصحية. التدابير القانونية والاقتصادية والسياسية وأبعادها، تنسيق: العلام عبد الرحيم، منشورات مركز تكامل للدراسات والأبحاث، سلسلة أعمال كتبت في زمن كورونا فيروس، مطبعة قرطبة، أكادير، 2020.
– أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟، تنسيق: الحاجي سعيد، منشورات مركز تكامل للدراسات والأبحاث، سلسلة أعمال كتبت في زمن كورونا فيروس، مطبعة قرطبة، أكادير، 2020.
– الزمن الوبائي. دراسات في الدين والفلسفة والفكر، تنسيق: هروس حفيظ، منشورات مركز تكامل للدراسات والأبحاث، سلسلة أعمال كتبت في زمن كورونا فيروس، مطبعة قرطبة، أكادير، 2020.
– جائحة كوفيد-19 وآثارها الاجتماعية والتربوية والنفسية، تنسيق: اوطال ربيع، منشورات مركز تكامل للدراسات والأبحاث/مؤسسة باحثون للدراسات والأبحاث والنشر والاستراتيجيات الثقافية، سلسلة أعمال كتبت في زمن كورونا فيروس، مطبعة ووراقة بلال، فاس، 2020.
مركز تكامل للدراسات والأبحاث
فضاء متنوع ومتكامل من الحوار والنقاش بين أكبر عدد ممكن من التخصّصات العلمية والفكرية والأدبية والفنية.
TAKAMUL CENTER is a diverse and integrated space of dialogue and debate between the largest possible number of scientific, intellectual, literary and artistic disciplines; This is due to our belief in the importance of integrative cognitive approaches that are not limited to a single specialized perspective or dimension in dealing with phenomena and studying them as they are.