الدولة وسؤال الهوية في المنطقة المغاربية

إذا كان التوصيف المجمع عليه في كل بحث نقرأ في هذا الكتاب أو في غيره، لتعريف الهوية أنها “نتاج تاريخي” أو “معطى تاريخي”، فالاستدراك الأول الذي يطلع علينا ونحن نشدد على صفة “التاريخي”، أن “التاريخي” ليس هو الماضي فحسب، بل هو مسار زمني أي انه “زمن ممتد”. وإذا كان يَحسن بل يجب الاستفادة من إنجازات المدارس الحديثة في علوم الإنسان والمجتمع، ولا سيما من المعطيات المنهجية والابتسمولوجية لعلم التاريخ في حقوله ومناهجه الجديدة، فالزمن التاريخي يرى ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، ولكن ليس بمرآةٍ انكرونيكية (خالطة للأزمنة) وليس أيضًا بمرصدٍ تطوري مقولب بآلية حتمية في طريق مستقيم أو وفقًا لسهمٍ ماضٍ لنقطة تصويب رام على لوحة المستقبل. فالتحولات في الظاهرات التاريخية وأنماط المعرفة الإنسانية وأحوالها وحتى في العلوم البحتة والطبيعية، تمر بصعوبات وعوائق وانقطاعات وتجاوزات. ولعلّ الهوية كحال انتماء معيشٍ أولًا وكمفهوم نظري ثانيًا، هي معطى متحوّل، أي أنه يتغير في سياق زمن تاريخي مركب وغير سلس، فيتشكل من حلقات ثابتة أو شبه ثابتة هي بنيات، وحلقات تغير قد تكون خطوات بطيئة أو سريعة أو قفزات أو انها تبدو كذلك لعدم معرفة ماذا يجري لهذه البنيات من اختلال من داخلها أو صدمات من خارجها أو من الاثنين معًا، من الداخل ومن الخارج.

هذا هو شأن “الهوية” عندما نحيلها إلى الماضي فحسب، فنحسب أنها “ثابتة” تحت عناوين مجرّدة كـ “التراث” أو “الحضارة” أو “الدين”، فكل هذه العناوين لا معنى لها في التاريخ (أي لا تفسير لها ولا فهم لها) إذا لم توضع في سياقها الزمني، فيجاب على (متى وأين وكيف) وما كانت تجلياتها وتعبيراتها في الأفكار والممارسة والمعيش. فلا يسأل مثلًا عن الدين أو الشريعة بالمطلق، بل يسأل عن التدين وأشكاله وأنماطه خلال مراحل التاريخ، أكانت “الأنماط” مثلًا حافزًا لنهضةٍ إنسانية أو لعقلنة وتسامح؟ كيف عاش المسلمون “هويتهم” أو “هوياتهم”، وكيف فهموها “وحدة” “فرقًا” “طوائف” “مذهب” “طرقًا” “خلافة” “سلطنة” إمارة” “قبائل” “عشائر” “عائلات” “عصبيات”؟ هذا تاريخ كان يغلب فيه “الاختلاف”. وليس “الوحدة”، ومع ذلك نقرأه “دعوة” ونستعيدها في الحاضر “واحدةً” وجامعة في “دولة وطنية حديثة”.

أين المفارقة في تلك “الدعوة”؟

تقع المفارقة هنا في حيّزين: حيّز الواقع أي التاريخ الفعلي، كما كان لا كما نحب أن يكون، أي تماهيا هويًا، وحيز المعرفة (معرفة هذا الواقع الذي تحمله ذاكرة لا زالت أسطورية أو تأسطرت). ومن هنا كان واجب السعي المعرفي لحل هذه المفارقة أو فهمها. ومن هنا أيضًا وبالتحديد، كان هذا الجهد الذي نلمسه في هذا الكتاب، جهد انصب على البحث في إشكالية الهوية، وبالأخض في إشكالية “الهوية الوطنية” أي هوية شعب في دولة حديثة أو “دولة/وطن”، “دولة/أمة”، أو “دولة/ مواطنين”…

إذًا هي إشكالية “الهوية الوطنية” التي تعالجها نصوص هذا الكتاب، باعتماد نماذج ثلاثة نستطلع خصائصها المؤطرة في مغرب كبير، المملكة المغربية، الجزائر، تونس.

تحتوي النصوص تحليلات شيقة ومعطيات لفهم العلاقة بين ما يجري الآن من حوارات وسجالات حول الهوية في كلٍ من المغرب والجزائر وتونس، وهي دول خطت خطواتٍ في طريق الإصلاح بعد ثورة تونس وانتظارات الربيع العربي أو بتأثير منها. إلا أن مسألة الهوية بقيت مسألة مستشكلة حتى اليوم، ويساهم الاستشكال في طابعة “التناكفي” ومجرياته السلطوية النفعية ذات الأمد القصير، ولا سيما بين معسكرين ايديولوجيين (إسلامي وعلماني)، في تأخير وعرقلة مهمات التنمية العاجلة الأكثر إلحاحًا، والتي لا زالت تنتظرها جماهير الثورة أو الإصلاح بين أملٍ وإحباط كي لا نصل إلى القول “باليأس”.

لا أقصد أن الكتاب حامل لهذا الطابع السجالي بين المشاركين. لكن النصوص، وهي في معرض نقاشها لمسألة الشريعة وحقوق المرأة والمواطنة ومسائل أخرى في الحقوق تموضع الهوية، كمرجعية صالحة وربما واجبة لتفسير هذه المصطلحات أو لتطبيقها في السياسات والدساتير والقوانين بل في شتى مناحي الحياة أحيانًا، وبصورة خاصة في فهم التاريخ والموقف منه. من هنا واجب التوقف: أولا للتنويه والتحيهة، فلا شك أن في هذا المنحى والتوجه غنى في البحث والتنقيب، وإثراءً للأفكار ومستوى عال وراق من المنهجية العلمية الأكاديمية الجادة، طالما أُعجبت بها ونوّهت بها؛ بل وأفدت منها عبر مسيرتي الثقافية والأكاديمية الطويلة جنبًا إلى جنب مع زملائي وزميلاتي وأصدقائي وصديقاتي وطلابي وطالباتي من المغرب الكبير.وثانيًا: للإضافة المتواضعة، بعد الاستئذان، ومن قبيل التفاعل مع الأفكار والتعليق على بعضها بما أراه مكملًا أو مالئًا لفراغ أو طرق بابٍ قد يفتح على مزيدٍ من التفسير والفهم لإشكالية “الهوية” عمومًا وإشكالية “الهوية الوطنية” على وجه الخصوص.

ليس المقام ولا المكان مناسبيْن للاستطراد. لكن إشارة عابرة وسريعة “لجنيالوجيا الهوية” تعيدنا إلى، بل وتذكرنا بقرينتها التي كادت تنسى في خضم نصوص الكتاب. وهي “الذاكرة” و “الذاكرة الجمعية” على وجه أكثر تحديدا. وإذا كان للنسيان معنى في “اللامفكرفيه” فإن انصباب التفكير الكلي على “الهوية” بذاتها ولذاتها، أبعد العنصر المكوّن لها “كمشروع هوية” ليجعلها “ماهية” من غير ذاكرة تاريخية. من هنا حقّ السؤال: لماذا لم تخضع الذاكرة كمفهوم وكممارسة ثقافية للدرس وبالتحديد من زاوية درس علاقتها ببناء الهوية[1] أو الهويات، وهي المنطلق أو الوعاء الجمعي الذي يستجمع خيوط العلاقة الذكراتية بالماضي لينسجها “هوية حاضرة”. يلاحظ بول ريكور – في سياق حديثه حول ثنائية (هوية/ذاكرة) أن علاقة الذاكرة بالماضي وبالزمن عمومًا علاقة هشه من حيث إدراكها لواقعاته وخضوعها لمضمونه، فينبه إلى دورها الوظيفي والخدماتي بل الاستخدامي (manipulation) من خلال انبثاقها من “الهوية الجمعية” واحتمال تحويلها إلى “ذاكرة مستخدمة” أو “متلاعب بها”2.

لذلك فإن القول بـ “هوية واحدة” لمجتمع أو لدولة، سواء كانت دينية أو إثنية “تعود إلى آلاف السنين”، حيث يتصوّر بعضهم هوية لمصر في زمن فرعوني أو هوية للبنان في زمن فينيقي، أو هوية لتونس في زمن قرطاجي أو أفريقي…إلخ، أو يتصور بعضهم هوية ثابتة أبدية لبلد عربي أو إسلامي ذو أكثرية مسلمة في تراث أو شريعة أو مذهب (سواء كان المذهب المالكية أو الحنفية أو الجعفرية)، فإن كل هذا يندرج في “أسطرة” التاريخ وتصوره حاضرًا صالحًا لكل زمان ومكان. إن خلط الأزمنة مهما كانت الخدمة التي يوفرها ذاك الزمن لهذه الايديولوجيا أو لتلك، لهذه الجماعة أو لتلك، لا يقدّم حلًا للإشكال القائم: البحث عن هوية جامعة من خيوط الأزمنة الماضية. فالماضي لا يوحد، هو مدعاة للاختلاف أكثر ما هو مدعاة للتوحد.

مسألة ثانية غابت وهي المتعلقة بسؤال: ماذا نتذكر ومتى نتذكر، ولماذا ومتى ننسى؟ أي جدلية “التذكر والنسيان” ليس في مشروع بناء “الهوية الوطنية” فحسب، بل أيضًا من أجل الفعل الإنساني في الحاضر والبناء للمستقبل. فعندما كتب نيتشه مقالته الشهيرة: “محاسن التاريخ ومساوئه” كجزء من مقالات عنوانها: اعتبارات في غير أوانها، وكانت الثقافة الألمانية والأوروبية عمومًا غارقة في التاريخ باعتباره ذاكرة تمجيدية، وبحثًا عن “هويات قومية”، كان يدعو العقل للتفكر في أحوال الحاضر وجنيالوجيته، أي تكوينه لبناء مستقبل متجاوز من أجل الحياة وليس تقليدًا للماضي. وهكذا فعل ميشال فوكو مع ظاهراته التاريخية التي يعايشها ويعانيها الإنسان المعاصر اليوم: الجنون والمرض والجنس والحب.

 أما فعل التفكر أو فعل النسيان، فكلاهما مكرسان من أجل الحياة، وبفعل الإرادة والوعي. يذكرنا بندكت اندرسن في كتابه “الجماعات المتخيّلة” بأمثلةٍ مستقاة من خبرات التاريخ القائمة على “الانقطاعات” وليس “الاستمرارية”. يصر المؤرخ الفرنسي جول ميشليه Jules Michelet)) في أواسط القرن التاسع عشر على إحياء “ذاكرة الأموات” في الثورة الفرنسية (أي الشهداء)، لكي لا تُنسى خدمة لتضحياتهم، وللمساهمة في بناء “هوية وطنية” فرنسية. ويكتب “لم أنس في مسيرتي المهنية أن أعنى بواجب المؤرخ، ومنحت الموتى المنسيين (في الثورة الفرنسية) ذلك الحضور الذي سأحتاجه نفسي في يوم من الأيام. نبشتهم من قبورهم ودفعتهم إلى حياة ثانية…إنهم يعيشون بيننا الآن ونشعر أننا أهلهم وأصدقاؤهم. وبذلك تقوم عائلة ومدينة بين الأحياء والأموات”[2].

 كان إحياء الذاكرة التاريخية هنا بسبب “خطر النسيان”، أما في أواخر القرن التاسع عشر، وقد قامت الجمهورية الفرنسية الثالثة، مع تطلعاتها وآمالها الوطنية والمدنية، فكانت “الحاجة إلى النسيان” هي التي شغلت مؤرخًا فرنسيًا كأرنست رينان (Ernest Renan) من أجل مستقبل الأمة. يكتب: “والحال أن جوهر الأمة يتمثل في امتلاك جميع الأفراد أشياء مشتركة وفي أن لديهم أشياء ينسونها… فلا بد لكل مواطن فرنسي من أن يكون نسي برتلمي (مذابح ضد البروتستانت في القرن السادس عشر)، ومذابح ميدي في القرن الثالث عشر”2.

 لا شك أن هـــذا المثـل واضح في دلالاته ومعـانيه، لا سيما عندمـا نضعه في سيـاقه

التاريخي الذي كانت تحتاجه النخب الفرنسية (في جيلها الثاني بعد الثورة – جول ميشليه، وجيلها الثالث حين بناء الجمهورية – إرنست رينان). وإذا كان هذا المعطى المستقى من الحالة الفرنسية أقل وضوحًا في الحالات المدروسة لكلٍ من المغرب أو تونس أو الجزائر، فسبب ذلك على ما أرجح إغفال الاستخدام الابستمولوجي والمنهجي لدى الباحثين لدور “الذاكرة الجمعية” من حيث حجمها أو وزنها أو مدى حقيقة حضورها في صياغة تاريخ يقدّم على أنه “تاريخ وطني” جامع أو خلفية تاريخية لـ “هوية وطنية” جامعة وثابتة. لنتذكر دائمًا أن الذاكرة قابلة دائمًا للاستخدام في “مشروعات الحاضر”، ومن هنا يصبح لمقولة “الهوية معطى تاريخي” معنى مرهون بعمليات التشكّل والتصوّر، وهي عمليات ذات طابع نفسي واجتماعي وسياسي (فردي وجمعي)؛ ولذلك تخضع لرهاناتٍ وآمال وانتظارات واعية وغير واعية، فيكون على المؤرخ أو عالم الاجتماع أو اي باحث، إخضاع الذاكرة بدورها للتحقق والتحليل والتفسير.

 مهم حينذاك المحذور الذي يلتفت إليه مقال “خصوصيات ثقافية أم منازعات سلطوية”، ومهم أيضًا أن يُدعى لـ “هوية مرنة” في مقال آخر، ومهم أيضًا أن تفصل “جماعة النهضة” في تونس بين ما هو “دعوي” وبين ما هو “سياسي” في عملها وبرامجها. لكن كل هذا يبقى من قبيل الدعوات أو التمنيات، وتبقى العبرة في الممارسة. ذلك أن الايديولوجيا جزء من “خطاب”، والخطاب جزء لا يتجزأ من ممارسة واحدة. وكل هذا ينطبق على الخطاب الإسلامي ومنتجيه كما ينطبق على الخطاب العلماني ومنتجيه. فالقاسم المشترك بين الطرفين يكاد يكون واحدًا على صعيد المنهج، الأدلجة التاريخية للخطابين، حيث يجري الانتقاء من هيولى الماضي وضبابيته والتباساته “عناصر مختارة” لدعم خصوصية ما. هذا يستقي من ضبابية تراثٍ يسمى “عربي – إسلامي” وذاك من ضبابية “تاريخ” يسميه “مجتمع مدني” أو دستوري عريق أو “أصيل” أو “متجذر”. أما دعوة الفصل بين ما هو “سياسي” وبين ما هو “دعوي” فتستدعي عمليًا الفصل بين “المقدّس” و”السياسي” في الممارسة السياسية نفسها، ويعني هذا مثلًا امتناع توظيف الدين (الدعوة) كـ “رأسمال رمزي” في الانتخابات أو التمثيل الشعبي، فهل أمكن أو يمكن ذلك؟

 أرجح أن الإمكان يرتبط بنزع المقدّس عن السياسي، وكما كان حال تحولات الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا، وإذا كان للدين أن يعود إلى المجال العام، فنظرية هابرماس تقترح فكرة “التواصلية” بين الأفرقاء في نشاطات المجتمع المدني، وليس بالضرورة عن طريق الصراع على السلطة وفي نطاق الدولة وداخل مؤسساتها أو من أجلها. ولعل هذا ما يقود ويوصل إلى فكرة “الهوية المرنة” التي تمتدح في أحد المقالات. وهذه دعوة تستحق المديح فعلًا، شرط أن ترتبط بالممكن وشروط تحققه، ولا شك أن أحد أهم شروطه توفير حقوق لـ “مواطنية كاملة” تسمح بتكوين “هوية مرنة”، علمًا أن الهوية المرنة لا تكتسب إلا من خلال “هوية مركبة” تتألف من “عدة هويات” أو تنفتح على هويات أخر. فحين يستشهد العديد من الباحثين العرب (ومن ضمنهم الباحثون في هذا الكتاب) بمواصفات الهوية الرحبة التي يستدخلها أو يحملها الكاتب المعروف والمرموق أمين معلوف لمواجهة الهويات الأحادية والشمولية الرافضة للآخر، يحسن أن يتذكروا “الهوية الحقوقية” التي يتمتع بها أمين معلوف وأمثاله من الكتّاب من ذوي الهويات المرنة والمنفتحة. وهي الهوية التي ترجمها المشرعون العرب للأسف في معظم دساتيرهم بـ “الجنسية”، ويعنون بها ما نصت عليه مواثيق الأمم في العالم الكبير، الناسيوناليته (Nationalité)، وكان الأجدر ترجمتها بـ “الهوية الوطنية” ليستقيم معناها الوطني والحقوقي معًا في مبدأ “المواطنية” .(Citoyenneté) إن أمين معلوف يحمل إلى جانب هويته الأصلية (اللبنانية) الهوية الفرنسية. وهذه الأخيرة هي التي تعطيه حقوق المواطن في إطار الهوية الوطنية (الناسيوناليته) العالمية، وليس الهوية اللبنانية التي تحيل حقوقه إلى مرجعية طائفية زبائنية، في المجال السياسي كما في مجال الأحوال الشخصية، بل في المجال الانثروبولوجي للثقافة.

 إذن، يحمل أمين معلوف هويتين حقوقيتين (الجنسية اللبنانية والجنسية الفرنسية). والسؤال أي الهويتين تتيح له هذا الانفتاح وهذا الحضور الثقافي التعددي، وهذه المرونة والغنى والسلاسة في التعامل مع المختلف والآخر؟ لا شك بغنى ثقافته الذاتية وقدراته الشخصية، لكن الاحترام والتقدير والتشجيع والتكريم، كل هذا ناله من مصادر “هويته الفرنسية”، ولا شك أيضًا أن أمين معلوف محب لوطنه لبنان ولكنه “حبٌ مؤلم” تضيع فيه ومعه هويته اللبنانية أو تنسى في زواريب الهويات الطائفية وانحطاط الخلق السياسي للمتسلطين وأتون الحروب الأهلية الباردة منها والساخنة.

 ما أودّ التشديد عليه أخيرًا ومن خلال إنهاء هذا الاستطراد، أن “مرونة الهوية” هي جزء لا يتجزأ من أخلاقيات يكتسبها المواطن عبر اكتساب أشكال وأنماط من العلاقات المتدرجة بدءًا من هويات صغيرة إلى هويات أكبر فأكبر، وفي حضن مؤسسات تحميه وتصونه وتنميه وتكبر فيه ويكبر فيها، ليس افتخارا بماضٍ مضى وإنما بحمل مسؤولية تاريخٍ يصنع في كل لحظةٍ يخطفها الماضي من الحاضر لتؤسس وتبني للمستقبل. في خضم هذه اللحظات الزمنية (التاريخية) تصنع الهوية البناءة المنفتحة على كل الهويات.

 الكتاب الذي شرّفني القيمون عليه بكتابة “تقديم” له، كتاب غني بالأفكار البناءة والمثيرة والمحفزة على التفكير والاستزادة والتجديد. ولعلّ الهوية الأمثل هي مشروع دائم التكوين باتجاه “هوية إنسانية” في وطن كبير أو صغير ينحو فيه المواطن ليكون “مواطنًا عالميًا”، وطنه الأرض كلها، وليس في “أرضٍ” تكثر فيها “الهويات الفائضة” عن اللزوم وتنقص فيها حقوق المواطنة حتى “الانتحار” أو “الغرق” أو “الاعتزال”1.


[1] نستثني من هنا الحكم البحث المعنون: تحليل مضامين الخطاب السياسي والتاريخي المدرسي حيث لامس الكاتب موضوعة الذاكرة في سياق مبحثه عن “اشكالية الهوية وامتداداتها التربوية.

2– راجع: ريكور بول، التاريخ، الذاكرة، النسيان، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد، ص 647 – 666.

[2]– وردت في: أندرسن بندكت، الجماعات المتخيلة، تأملات في أصل القومية وانتشارها، ترجمة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت – الدوحة 2014، ص 296 – 297.

2 نفس المرجع ، ص 299.