التحولات الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرها على الإصلاح الإداري بالمغرب

ملخص:

بتاريخ 15-10-2020 تمت مناقشة أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام للباحثة نجلاء الوجدي برحاب كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة تحت عنوان “التحولات الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرها على الإصلاح الإداري بالمغرب“، وقد نالت الباحثة ميزة مشرف جدا مع توصية بالنشر. وتعالج الأطروحة العلاقة الجدلية بين الإصلاح الإداري وبين التحولات الاقتصادية والاجتماعية على المستوى الدولي والوطني، حيث شهد العالم تحولات متلاحقة شكلت تحديات ونقطة تحول في كل المجالات، ومن أهم التحولات المؤثرة دوليا، تلك المرتبطة بالجانب الاقتصادي والاجتماعي، حيث ظلت انعكاساتها على الإدارة المغربية مستمرة إلى يومنا هذا.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن الأطروحة تقر بأن هناك العديد من العوامل التي أدت إلى الإصلاح الإداري بالمغرب، ومن بينها العوامل السياسية والثقافية والبيئية، حيث لعبت هذه العوامل دورا مهما في التوجه نحو إصلاح الإدارة المغربية، إلا أن هذه الأطروحة ركزت على العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي كانت الأساس في بلورة الإصلاحات الإدارية، نظرا لضرورة تأطير الموضوع ولمحدودية المجال المتاح لمعالجته، وهو ما يعني إمكانية التوسع فيه في بحوث علمية أخرى.

Abstract:

The thesis deals with the dialectical relationship between administrative reform and economic and social transformations. At the international and national levels, as the world witnessed successive transformations that posed challenges and a turning point in all fields. Among the most important transformations affecting internationally, those related to the economic and social aspect, as their repercussions on the Moroccan administration have continued to this day.

Should be noted that although the thesis recognizes that there are many factors that led to administrative reform in Morocco, including political, cultural and environmental factors. As these factors played an important role in the trend towards reforming the Moroccan administration. This thesis focused on the factors Economic and social, which was the basis for crystallizing administrative reforms. Given the necessity of framing the subject and the limited scope available for its treatment, which means the possibility of expanding it in other research.


تمثل التحولات التي يشهدها العالم المعاصر أحد أهم التحديات التي تواجه البشرية، بحيث تمثل نقطة تحول على كافة المجالات، كما أنها تعتبر مرتكزا أساسيا في تحديد توجه الدول على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي والإداري… . ومن أهم التحولات المؤثرة دوليا، تلك التي تندرج ضمن المجال الاقتصادي والاجتماعي، والتي تنعكس تأثيراتها على سائر المجالات.

على المستوى الاقتصادي، شهد العالم بعد الحرب العالمية الثانية تحولات عديدة انعكست على النظام العالمي برمته، حيث ظهر ما يسمى بالنظام الاقتصادي الدولي الجديد، فقد برزت علاقات دولية حديثة من خلال ظهور التكتلات الاقتصادية وتزايد هيمنة المؤسسات المالية الدولية، وتعاظم دور الشركات المتعددة الجنسية…، هذه التحولات أدت في النهاية إلى إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد قائم على الليبرالية، إذ أسس هذا النظام لمبادئ جديدة تؤكد على تحرير التجارة الدولية وحرية انتقال رؤوس الأموال وتشجيع الاستثمارات وتفعيل سياسة الخوصصة…، واستند في ذلك على مجموعة من المؤسسات المالية الدولية التي كان لها دورا مهما في ترسيخ مبادئ الليبرالية على المستوى الدولي، الشيء الذي أثر على السياسات العمومية المتبعة في مختلف الدول سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو الإداري…، حيث سادت العالم أوضاعا اقتصادية مختلفة تميزت بسيطرة الدول الرأسمالية المتقدمة على الدول النامية واستغلال ثرواتها.

هذا الوضع ترتب عنه تزايد حدة التفاوت بين الدول الرأسمالية المتقدمة والدول النامية، مما فاقم من أزمة التنمية، فبالرغم من أن  التحول نحو اقتصاد السوق كان لصالح بعض الفئات من السكان أو بعض البلدان، إلا أن النمو الاقتصادي المتحقق لم يؤد بالضرورة إلى التقليص من مستوى الفقر، بل على العكس من ذلك تزايد نمو معدلات الهشاشة الاجتماعية في صفوف الفئات الاجتماعية الأكثر فقرا، مما أدى إلى ظهور ما يسمى بالحركة العمالية للمطالبة بالحقوق الاجتماعية، حيث كانت هذه الأخيرة بمثابة آلية لإنعاش اقتصاد يعيش أزمة، فمطالبتها للدولة أن توفر الحماية الاجتماعية أدى إلى دعم القدرة الشرائية للعمال وبالتالي إنعاش الاقتصاد.

وقد أظهرت المجتمعات المستحدثة اختلافات كبيرة في المدى الذي استطاعت فيه أن تتكيف مع المتغيرات الاقتصادية، فالمجتمعات العربية مثلا عرفت تحولات سريعة مست البنية الاجتماعية، وهو ما عرفه المغرب بدوره من خلال ظهور التصنيع في المدن الكبرى (خاصة الدار البيضاء)، مما أدى إلى الهجرة من البادية إلى المدينة، حيث أصبحت التباينات الطبقية تعبيرا لتواجد فئات مختلفة داخل المجتمع المغربي، فبالإضافة إلى طبقة الأعيان والبروليتاريا، ظهرت وانتشرت الطبقة المتوسطة التي استفادت من متطلبات بناء دولة حديثة واستندت على مشاريع تنموية مهمة تم اعتمادها بعد الاستقلال.

وقد استمرت التحولات الاقتصادية وتأثيراتها على المجتمعات على مر العصور، وكان أبرزها ما شهدته المجتمعات العربية أواخر سنة 2010، حيث انتشر الحراك الاجتماعي في مختلف البلدان نتيجة عوامل مشتركة، وأهمها العامل الاقتصادي، إذ لم تتناسب الطفرة الديمغرافية التي عرفتها المنطقة العربية مع مستويات النمو الاقتصادي، الشيء الذي رفع من مستويات التهميش والأمية التي أصبح من الصعب تأطيرها، كما أن هذه الطفرة أدت إلى تجديد الأجيال بأنماط فكرية مغايرة وتنشئة حضارية مختلفة، تتسم بالانفتاح على العالم الخارجي.

ونظرا لكون الجيل الحالي يعد امتيازا ديمغرافيا، وعنصرا فاعلا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ورافعة من أجل تحقيق الثروة، ونظرا لكونه يوجد في صلب التحولات التي يعرفها المجتمع، فإنه من البديهي مسائلة موقعه داخل هذا المجتمع، ثم الإمكانيات المتاحة له للولوج إلى المرافق والخدمات العمومية التي تلاءم حاجياته، فالاندماج الاقتصادي والاجتماعي يظل في صلب اهتمامات الجيل الحديث، وهو ما يرفع من مستوى التطلعات وتنامي موجات المطالب والاحتجاجات الاجتماعية التي تشارك فيها مختلف شرائح المجتمع.

ومما لا شك فيه، أن هناك رابطة وثيقة بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة وبين الأجهزة الإدارية من جهة أخرى، فمن خلال هذه الأجهزة يتم إعادة النظر في التدابير الاقتصادية، وتحسين مناخ الأعمال، وجذب الاستثمارات، وإعادة توجيه النفقات العمومية نحو الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم، والبنية التحتية في المناطق المهمشة… .

وعلى هذا الأساس، كان على المغرب كبلد منخرط في النظام الاقتصادي العالمي الجديد أن يضمن عبر الإدارة انسجام وتعاون التدخلات الاقتصادية، فالإدارة المغربية ذات الطابع التقليدي لم تعد قادرة على التكيف مع الواقع الاقتصادي الدولي الجديد، الأمر الذي دفع المسؤولين لاتخاذ إجراءات حديثة والبحث عن إدارة فعالة، قادرة على مواجهة التحدي الاجتماعي وضمان العيش الكريم لكل المواطنين من خلال المساهمة الفعالة في النمو الاقتصادي.

من هذه المنطلقات، تم اختيار موضوع “التحولات الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرها على الاصلاح الإداري بالمغرب” كأطروحة لنيل الدكتوراه في حوالي 400 صفحة، حيث تحددت الإشكالية الرئيسية لها كالتالي:

إلى أي حد تأثرت الإدارة المغربية بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية، وما هي حدود تجاوبها مع مختلف التطورات المتلاحقة؟

وللإجابة على الإشكالية المحورية والأسئلة المتفرعة منها تم وضع فرضيات قابلة للاختبار، فكانت الفرضية الأساسية كالآتي:

إن العلاقة التفاعلية بين التحولات الدولية والوطنية وبين إصلاح الإدارة هي علاقة تأثر وتأثير، إذ تتأثر الإدارة المغربية بكل التحولات المحيطة على المستوى الخارجي والداخلي، وبالمقابل تنعكس سياساتها التدبيرية على هذا المحيط.

للاشتغال على هذه الفرضية وعلى الفرضيات الفرعية المطروحة والإجابة على الإشكالية الرئيسية والتساؤلات الفرعية، والمتسمة بتشعب حقولها المعرفية، فرضت طبيعة البحث الاستعانة بالأساس على توظيف المنهج النسقي الذي يقودنا إلى اكتشاف التفاعل المتبادل بين العناصر المترابطة للنسق، وبين النسق نفسه ومكوناته، ثم بين النسق ومكوناته الخارجية، فمقاربة الموضوع من خلال المنهج النسقي مكنت من تفكيك العلاقة التفاعلية داخل العلبة السوداء من خلال ما أقر به “دافيد إيستون” حول المخرجات والمدخلات ثم التغذية الاسترجاعية أو الفعل الاسترجاعي العكسي، فالمدخلات تتمثل بالأساس في التحولات الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة على النسق الإداري المغربي، أما المخرجات فتتمثل في الآثار الناتجة عن هذه التحولات والتي تمثل بدورها مجموع التغييرات والمستجدات الطارئة على الإدارة المغربية، وهو ما يتجلى في الإصلاح الإداري، أما الفعل الاسترجاعي فيتعلق بالآفاق التي يمكن استشرافها حول الإصلاح الإداري.

كما أن الموضوع استدعى تطعيمه بالمنهج التاريخي لدراسة مختلف المحطات التاريخية التي ميزت الإدارة المغربية من جهة، ثم تدخل الأحداث الاقتصادية والاجتماعية في اتجاه تطوير وتحديث هذه الإدارة من جهة أخرى، وهو ما ساعد على فهم الخلفيات التي كانت وراء تحديث التدبير الإداري، بمساعدة المنهج التحليلي كمنهج تطبيقي يتيح إمكانية جمع وتحليل المعطيات والمعلومات المرتبطة بالموضوع.

ومن أجل معالجة الإشكالية الرئيسية لهذا الموضوع وأسئلته الفرعية في تناسق تام مع المناهج المعتمدة، تم تقسيم الموضوع إلى قسمين، حيث تم التطرق في القسم الأول الذي يحمل عنوان “العوامل الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة في إصلاح النسق الإداري بالمغرب” إلى رصد التحولات الاقتصادية على المستوى العالمي والوطني، ثم البحث عن العلاقة التفاعلية بين هذه التحولات وبين التحولات الاجتماعية التي شهدها العالم، مع التركيز على النموذج المغربي.

أما في القسم الثاني المُعَنون ب “الإصلاحات الإدارية المغربية وتفاعلاتها مع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية “، فتم التركيز فيه على انعكاس هذه التحولات الاقتصادية والاجتماعية على الإدارة المغربية، وذلك منذ فجر الاستقلال إلى يومنا هذا، مع رصد التطورات التي عرفتها الإدارة في هذا السياق وتحديد أهم آليات التدبير الحديثة التي يعتمدها الجهاز الإداري بالمغرب، ومدى فعاليتها وسبل ضمان نجاعتها، حيث حاولنا من خلال التقسيم الثنائي المعتمد، التطرق لمختلف جوانب الموضوع وملامسة أبعاده المختلفة.

أما الخاتمة فقد كانت جامعة شاملة للنتائج التي تم التوصل إليها من خلال ما تضمنته هذه الأطروحة في قسميها الأول والثاني، وتتمحور في مجملها حول الضغوطات الخارجية والداخلية التي يتعرض لها المغرب على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي يسلط الضوء على الأجهزة الإدارية وضرورة تكييفها لاستيعاب الأهداف الحالية والمستقبلية لحركة التطور والعمل على تحويلها إلى إنجازات ملموسة على أرض الواقع، فرغم النتائج التي حصدتها الإدارة المغربية نتيجة التدابير الإصلاحية التي تم اعتمادها منذ الاستقلال، إلا أنها لم تكن كافية ولم ترق إلى مستوى التطلعات، وأثبتت أن الإشكال ليس مرتبط بالمنظومة القانونية بقدر ما هو مرتبط بالممارسة الإدارية والسلوكيات الهجينة المعاكسة للإصلاح، مما يجعل العنصر البشري محور كل إصلاح يستهدف تجويد الإدارة.

كما أن ما ينقصنا بالإضافة إلى المداخل الإصلاحية هو بناء ثقة بين المواطن والإدارة، وإعادة صياغة علاقة جديدة قائمة على هذه الثقة، مما يطرح مسألة تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد الإدارة، ومسألة الرقمنة الإدارية كآلية أساسية لتحقيق الشفافية والتي أثبتت أهميتها في ظل جائحة كورونا… . وخلاصة القول، فنتائج الأطروحة تؤكد أنه ليس هناك وصفة جاهزة للإصلاح الإداري يمكن تأطيرها بفترة زمنية محددة لتكون حلا نهائيا لكل الاختلالات التي تعتري الإدارة، وإنما هي عملية مستمرة تستدعي مراجعة مستمرة في أداء الجهاز الإداري لتدارك الاختلالات التي تشوبه وتحسين الأداء، وتقويم عملية الإصلاح نفسها، أي قياس النتائج المحققة ومقارنتها مع المؤشرات المخططة والمعتمدة في البرنامج الإصلاحي من حيث الكفاءة في تنفيذ البرنامج، من حيث الزمان والتكلفة والجودة، ومن حيث الآثار الايجابية التي يتركها على أجهزة الدولة، فالتوقف من فترة إلى أخرى لمعاينة ثمار الجهود المبذولة في أي عمل كان يعتبر أمرا ضروريا لفعاليته، أما إصدار قوانين وتسطير تدابير وتحديد إجراءات بهدف تحديث هذا الورش المهم للدولة دون تحديد وتوفير آليات لضمان تفعيلها يعتبر إهدارا للمجهودات ليس إلا.