نظام المسؤولية الإدارية في المجال الضريبي

ملخص:

يُنظر إلى المسؤولية بشكل عام ذلك الحد الذي يقع بين الحق والباطل، ويؤطر ثنائية الحرية والسلطة، والسبب والنتيجة، الشيء الذي يحيل إلى وجود خيط ناظم ودقيق يصل بين المسؤولية واللامسؤولية، الذي قد يتبدد لأسباب تافهة وهينة، الشيء الذي تسقط معه أحد ركائز دولة القانون، وتنهار معه كل الضوابط والقواعد المعيارية التي تتأسس عليها قواعد تفعيل المحاسبة التي رسخها الشرع والقانون.

إن موضوع نظام المسؤولية الإدارية في المجال الضريبي يأتي في إطار سر حقل معرفي مالي، يزعم البعض أن له خصوصية واستقلالية وذاتية، تعفيه من المساءلة، وتبوئه نوعا من السيادة، بينما هو مفترق يتقاطع مع كل المكونات الأخرى وتلتقي فيه كل الحقول القانونية؛ سر المفهوم والمادة، التي تجمع تحت نفس الاسم العديد من الأنشطة المتنوعة، والعمليات المتمثلة في ربط وتصفية وتحصيل الضريبة، والتي على الرغم من ذلك شكلت صورة مقيتة جوهرها التاريخي، هو جمع المساهمات، أو بعبارة أدق الاقتطاعات التي تمس دخول الأشخاص. والتي ينظر إليها في الواقع أنها قدر محتوم يترك الملزمين مثبطين نوعا ما أمام الإدارة التي ترى فيها اقتطاعا مشروعا محددا بكل الوسائل القانونية المؤطرة للمادة الضريبية.

يأتي موضوع أطروحة المسؤولية الإدارية الضريبية بهدف تغيير جذري وشمولي لهذا المفهوم الذي يجعله بعض الفقه مرادفا للموت الذي لا مفر منه، فالضريبة اليوم يجب أن تأخذ صورة جديدة باعتبارها وجها يعكس صورة وطبيعة الدولة، لذلك يجب العمل على جعلها مساهمة مالية رضائية كآلية للتطور والتقدم والرفاه، لا أن تستمر في ترسيخ دورها كأداة جبرية للامتثال والخضوع الشيء الذي يسهم في تراجع الدولة وانحلالها وانحطاطها وضمورها. سر مشرع وإدارة، وقاضي يعملون بطموحات متناقضة تتمثل في حماية تمويل النشاط العمومي، دون ترك الخاضع للضريبة ضعيفا جدا أمام الدولة، أو إلهامه بعدم الثقة في مؤسساتها. 

الكلمات المفاتيح:

التصرف الضريبي – مسؤولية الإدارة الضريبية – مسؤولية المشرع – التخليق – النجاعة القضاء الدستوري – الكلفة المالية لدعوى المسؤولية الإدارية.

Abstract:

Responsibility is generally seen as the boundary between right and wrong, and it affects the duality of freedom and power, and the cause and the result. This indicates the existence of a systematic and accurate line linking responsibility and irresponsibility, which may be dissipated for trivial and minor reasons, with which one of the pillars of the rule of law falls, and with it all the normative rules and controls on which the rules of accountability are based, which are established by Sharia and law.

The subject system of the administrative responsibility in the field taxation takes us to the heart of the ambiguities and secrets that taxpayers know in general:

The secret of a financial field of knowledge, some claim that it has privacy, independence, and subjectivity, exempting it from accountability, and assuming it a kind of sovereignty, while it is a crossroads that intersects with all other components and where all legal fields meet; The secret of the concept and the article, which combines under the same name many diverse activities, and the processes of associating, liquidating and collecting the tax, which nevertheless formed a distasteful picture of its historical essence, is the collection of contributions, or, to be more precise, the deductions that affect people’s incomes. This is seen as an inevitable fate that leaves the obligors somewhat discouraged before the administration, which sees a specific project deduction by all the legal means framing the tax article; The secret of a legislator, administration, and judge working with contradictory ambitions represented in protecting the financing of public activity, without leaving the taxable person too weak before the state, or inspiring him to distrust its institutions.

The topic of the thesis on fiscal administrative responsibility is therefore aimed at fundamentally and comprehensively changing the concept of taxation, which some jurisprudence makes synonymous with inevitable death. Taxation today must take a new form as a face that reflects the image and nature of the state. Therefore, work must be done to make it a satisfactory financial contribution and a mechanism for development, progress, and well-being, rather than continue to consolidate its role as a compulsory tool of compliance and submission, which contributes to the state’s decline, dissolution, decline, and atrophy.

Keywords:

Fiscal act – The responsibility of the fiscal administration – The responsibility of the legislator – Moralization – performance – The constitutional jurisdiction – The financial cost of the administrative responsibility lawsuit.


تقديم:

لقد جاء في أحد خطب الملك الراحل الحسن الثاني أنه: ” لا يمكن لهذا البلد أن يكون دولة قانون إلا إذا جعلنا كل مغربي عنده الوسيلة كي يدافع عن حقوقه كيفما كان خصمه”، إن هذا الطموح الملكي ما زالت تعارضه نظرية المرافق السيادية التي تعرف استثناء من المساءلة عن تصرفاتها غير المشروعة، والتي يعد المرفق الضريبي جزءا منها، لذلك عملت الأطروحة على الانطلاق من البحث في مبررات فقهية قضائية لتفنيد ودحض هذه النظرية  لإمكانية دراسة هذا الموضوع، باعتباره لبنة جديدة في سبيل إحقاق دولة القانون من جهة أولى، وإعادة بناء المعادلة الجبائية بشكل متوازن يقوم على حماية الموارد المالية لخزينة الدولة والجماعات الترابية من جهة ثانية، والحفاظ على حقوق وضمانات الملزم من جهة أخرى، وأجرأة للخطاب الملكي الذي ينشد بلوغ دولة القانون بتحقيق وضمان الحقوق والحريات من جهة ثالثة، وهكذا جاء السياق العام للأطروحة مبنيا على ثلاث منطلقات أساسية تمثلت في الآتي:

  • الفلسفة والأسس الحديثة للقانون والقضاء الدستوريين ولعلم السياسة:

إن التكامل والالتقائية الذي يعرفها الدستوري والإداري جعلت الأطروحة تنطلق من المبادئ الجديدة التي أصبحت تقوم عليها الدولة الحديثة، والتي تنطلق من سيادة وخضوع الجميع للقانون أو ما يعرف باختصار بدولة القانون، إضافة إلى مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة كمفهوم ينبني على ضرورة تقديم حسابات وتوضيح آليات تنفيذ المهام وتعليل القرارات التي تم اتخاذها وتبليغها للمعنيين بها، وفي إطار التفاعل المباشر مع مطالب المواطنين وانتقاداتهم، وتحمل المسؤولية عن الأضرار الناتجة عن الأخطاء  والانحرافات التي تنتج عن التصرفات  الصادرة، وإذا كان تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة كأداة لتأمين التدبير الأنجع للموارد من خلال ربط المنجزات بالغايات والكفايات المستهدفة، فإن أهم ما يدعم هذا المبدأ هو تحديد مجال المشروعية الذي يجب أن يشتغل فيه كل مسؤول.

علاوة على ذلك أضحى الحديث أكثر من أي وقت مضى على المفهوم الجديد للسلطة، إذ تبناه  الملك محمد السادس العرش منذ اعتلائه للعرش، في العديد من الخطب من بينها الخطاب التأسيسي لهذا المفهوم وخطوطه العريضة الذي ألقاه يوم 12 أكتوبر 1999 أمام ممثلي الجهات والولايات والعمالات والأقاليم للمملكة، حيث أكد على أن: “مسؤولية السلطة في مختلف مجالاتها هي أن تقوم على حفظ الحريات وصيانة لحقوق وأداء الواجبات وإتاحة الظروف اللازمة لذلك على النحو الذي تقتضيه دولة الحق والقانون في ضوء الاختيارات التي نسير على هديها من مملكة دستورية وتعددية حزبية وحرية اقتصادية، وواجبات اجتماعية بما كرسه الدستور وبلورته الممارسة”.

ويتابع جلالة الملك في خطابه بالقول: ” ونريد في هذه المناسبة أن نعرض لمفهوم جديد للسلطة وما يرتبط بها مبني على رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية والحريات الفردية والجماعية وعلى السهر على الأمن والاستقرار وتدبير الشأن المحلي والمحافظة على السلم الاجتماعي، وهي مسؤولية لا يمكن النهوض بها داخل المكاتب الإدارية التي يجب أن تكون مفتوحة في وجه المواطنين ولكن تتطلب احتكاكا مباشرا بهم وملامسة ميدانية لمشاكلهم في عين المكان وإشراكهم في إيجاد الحلول المناسبة والملائمة”.

وقد عملت المؤسسة الملكية في العديد من المحطات على بسط مقومات هذا المشروع الذي يهدف إلى تحولات جذرية في علاقة السلطات العمومية بالمتعاملين معها، حيث جاء في الرسالة التي وجهها عاهل المملكة للمؤتمر الرابع والثلاثين للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان أن المفهوم الجديد للسلطة: “مشروع شمولي يروم توسيع نطاق الحريات العامة، وإصلاح التشريع والميكانيزمات وتقوية التربية على حقوق الإنسان وإرساء علاقات جديدة بين الإدارة والمواطن تتأسس على المصلحة العامة والثقة المتبادلة والمسؤولية والتضامن مع المعوزين والمهمشين وإشراك كل مكونات المجتمع المدني في هذه المعركة الدائمة”. 

لم يكتف الفقه والقانون الدستوري بهاته الأسس فقط، بل انصرف إلى الحديث عن تدويل منظومة حقوق الإنسان، وهكذا أصبح الحديث عن أجيال حقوق الإنسان، الجيل الرابع والجيل الخامس …، ومفاهيم من قبيل الدستورانية الاجتماعية والتشاركية، وقد أسس المشرع الدستوري أيضا لآليات جديدة لمساءلة ومراقبة المشرع من خلال سنه لآلية دستورية قانونية تقوم على إمكانية تقديم الملتمسات والعرائض، والدفع بعدم دستورية القوانين.

إن هاته الركائز الجديدة ستجد مواكبة لها على مستوى القانون والقضاء الإداريين، وذلك من خلال التحولات التي ستعرفها العديد من النظريات ومن ضمنها المسؤولية الإدارية بشكل عام والمسؤولية الضريبية بشكل أخص.

  • بداية أفول نظرية المرافق السيادية ولا مسؤوليتها:

حيث ينطلق الفقه القانوني المعاصر من مناقشة تعارض فكرة السيادة مع فكرة المسؤولية، حيث تم اعتبار أن فكرة سيادة الدولة تعني أنه، حتى لو كانت الدولة تتمتع بحرية كاملة في إصدار ما تشاء من قواعد يجب على المواطن احترامها، إلا أنه في الحقيقة لا يتنافى الأمر مع إمكانية المطالبة بالتعويض بل بالعكس فإن الأمر يبرز قوة الدولة والثقة وفي مؤسساتها وقدرتها على تحمل المسؤولية مهما كانت النتائج.

ينضاف إلى ذلك أن التطور الذي يعرفه مفهوم المصلحة العامة كمفهوم مطاطي يضيق ويتسع بحسب تطور وظائف الدولة، أصبح يوحي بأن الدور التدخلي للدولة في مختلف المجالات السياسية الاقتصادية والاجتماعية منها، يثير لا محالة مساسا ببعض الحقوق والحريات سواء بسبب خطأ أو بدونه، وعليه فالأدوار الجديدة التي أصبحت تلعبها الدولة يجب أن يواكبها تعويض عن الأضرار اللاحقة برعاياها.

  • الفلسفة الحديثة التي أصبحت تقوم عليها نظرية المسؤولية الإدارية:

لقد عمل الفقه الإداري المقارن بشكل كبير على العمل على البحث في نظرية لا مسؤولية السلطة العمومية L’irresponsabilité de la puissance publique انطلاقا من المبادئ التي أصبح يقوم عليها القانون والقضاء الدستوريين السالفة الذكر، حيث اعتبر أن التفاعل بطريقة غير مسؤولة يعني خرق لعلاقة الثقة بين الشخص والغير، علاوة على ذلك فالتصرف بطريقة غير مسؤولية هو عدم القدرة على تحمل المسؤولية الشيء الذي لا يسمح بالمحاسبة. وعليه فتحليل اللامسؤولية لم يعد نقيضا للمسؤولية من خلال الحديث عن عدم إمكانية انعقاد الخطأ أو الحصول على تعويض، بل انصرف التحليل الحديث إلى استحضار المبادئ الجديدة للفلسفة الأخلاقية وبالضبط للأخلاق البيولوجية، وإلى تحليل المبدأ الدستوري المتمثل في ربط المسؤولية بالمحاسبة.

وبناء عليه فتطوير نظرية المسؤولية الإدارية أصبح يقوم على قاعدة مفادها توجيه النظرة للضحايا المتضررين، ولحجم الضرر لا إلى مصدر الخطأ ومرتكبه، بل ذهب الفقه المعاصر إلى التأسيس لنظرية “أنسنة المسؤولية الإدارية” L’humanisation de la responsabilité administrative.

 إن هاته المنطلقات جعلت للأطروحة مشروعية على مستوى وجودها كنظرية جديدة تنضاف إلى حقل المسؤولية الإدارية، وهكذا خلصت الدراسة من خلال هذا السياق العام إلى الحاجة للتأسيس لمسؤولية إدارية في المجال الضريبي، وذلك بهدف تخليق عمل الإدارة الضريبية لكي يؤدي مهامه بشكل ناجع، ولا تقتصر المسؤولية الإدارية على المصالح الضريبية بل تنصرف إلى المشرع وإمكانية إثارة مسؤوليته، وهكذا فالموضوع يرتبط أيضا بضرورة العمل على  عقلنة عمل المشرع، ويأتي هذا الأمر بهدف بناء المعادلة الجبائية بشكل يقوم على الثقة والمعاملة بالمثل، بين كل من الإدارة – المشرع – الخاضع للضريبة، وعليه فهذه المداخل ستحقق لا محالة النجاعة الضريبية والأمن الضريبي المنشود.

إن الأطروحة حينما اعتمدت تصورا عاما للموضوع فقد وضعت في الحسبان العديد من التصورات والمقاربات، لكنها انطلقت من خطة بحث منهجية تبحث منذ البداية في الإشكاليات والمعيقات، التي يمكنها أن تحد من إمكانية انعقاد المسؤولية الإدارية الضريبية، وعليه ناقشت في الفصل الأول سؤال خصوصية التصرف الضريبي وأسئلة الاستثناء التي تحوم حوله،  إذ تعد مسألة الحسم مع خصوصية التصرف الضريبي أحد المؤشرات المركزية التي ستقودنا إلى إمكانية الحديث عن فرضية مساءلة التصرف الضريبي، وتبعا لذلك وجود خطأ الإدارة الضريبية من عدمه، وبالتالي بناء أساس لمسؤولية الدولة عن الآثار التي ترتبها التصرفات الضريبية، والبحث في درجة تأثيره على وضعية الخاضع للضريبة، ماديا ومعنويا.

إن حياكة القرار الضريبي وإخراجه لحيز الوجود، هو حديث عن القرار المالي الذي يتفرع إلى: النشاط التشريعي الضريبي أولا، ونشاط الإدارة الضريبية ثانيا.

فالنشاط التشريعي انطلق من فكرتين أساسيتين: ترتكز الفكرة الأولى على البحث في سؤال ذاتية القانون الضريبي كقانون استثنائي منفصل عن النظام القانوني، أي كإلكترون حر في سماء النظام القانوني على حد قول الفقيه L.Trotabas، وقد خلصت الأطروحة إلى اعتبار القانون الضريبي قانونا مثل باقي القوانين الأخرى ولا يمكن فصله عن النظام القانوني، نظرا لما يمكن أن يشكله من ضرب لفكرة الأمن القانوني، فالقانون الضريبي على الرغم من كونه يتأسس بناء على الضريبة كأداة مالية اقتصادية أولا، إلا أنه يأتي في إطار تصرف تشريعي ثانيا،  الشيء الذي يجعله ينصهر في إطار هرمية دستورية تضبطها قواعد وضوابط مبنية بشكل ممنهج، يتصدرها الدستور كأسمى تشريع، أما الفكرة الثانية فقد توقفت عند البحث في مكامن المسؤولية الإدارية في مجال القانون الضريبي الدولي، حيث تراوحت بين البحث في مسألة المكانة القانونية للاتفاقيات والالتزامات الضريبية المبرمة دوليا، من خلال الوقوف عند إشكالية الملاءمة التشريعية من جهة أولى ثم من خلال مبدأ الاحتياطية Subsidiarité  من جهة ثانية، ثم البحث في إشكاليتي تفسير وتأويل النصوص الاتفاقية، حيث عمدت الدراسة على الوقوف على أبرز التحولات القضائية في هذا المجال.

وعموما خلصت الأطروحة في هذا الشق إلى قراءة المشهد الضريبي من خلال القانون الذي ينظمه، من خلال:

أولا: كونه تصرفا قانونيا، هذا يعني أنه إعلان عن إرادة المشرع من أجل إحداث أثر قانوني يضبط مجالا اقتصاديا وماليا بالدرجة الأولى. إن هذا التصرف الضريبي يأتي بغرض ضبط علاقة جبائية، بين الخاضع للضريبة والإدارة في إطار التزامات قانونية، لها صبغة مالية، تؤطر من جهة حقوق الإدارة وواجباتها، ومن جهة أخرى تحدد ضمانات الخاضع والواجبات الملقاة على عاتقه، الشيء الذي يؤسس للمشروعية الضريبية.

إن هذا الأمر يجعلنا نقول إن القانون الضريبي هو مثله مثل جميع القوانين والقواعد التي تنتمي للنظام القانوني، والتي تهدف إلى ضبط وتنظيم المجتمع في إطار دولة يحكمها القانون، حيث يبقى للقانون الضريبي الداخلي مكانته ضمن الهرمية الدستورية، التي تفرض عليه قيود ترجع للقواعد التي تسمو عليه والتي تتمثل في الاتفاقيات والالتزامات الضريبية الدولية و الدستور …

هذا التحليل يعتمده فقهاء القانون الإداري بشكل كبير، حيث يجعلون من كل تصرف-يحيد عن مبدأ المشروعية الضريبية، ومؤثر في الوضعية القانونية للخاضع للضريبة أو المتعامل مع الإدارة الضريبية عموما- يفتح مجالا لإمكانية مساءلة الدولة عن تصرفات المشرع في المجال الضريبي.

ثانيا: إن تحليل بنية القاعدة الضريبية من حيث كونها تمتح أصولها من القانون العام أو القانون الخاص، خاصة في القانون المقارن، ترجع بنا إلى القول بأن القانون الضريبي يأخذ عن مجموعة من الفروع القانونية وهو لا يخالفها كليا، فتارة نجده يتوافق مع قواعد القانون المدني وقواعد القانون التجاري … وتارة أخرى نجده يخالفها، ويرجع ذلك إلى الاحتمالات التي تفتحها القاعدة الضريبية للتأويل ومن طرف القاضي بحسب الوضعية الماثلة أمامه.

وبالتالي فالنظرة التأويلية -من طرف الإدارة- للقانون الضريبي لا تجعل منه قانونا استثنائيا وذاتيا بل قانونا يتفاعل وقابلا للتطور، وقانون يتسم بالمرونة والزئبقية، الشيء الذي يجعلنا نجزم دون مجازفة أننا أمام “قانون الاجتهاد الإداري”، حيث تعمل الإدارة الضريبية على المساهمة بشكل كبير في هاته الصناعة التشريعية لهذا القانون.

ثالثا: إن ذاتية القانون الضريبي تتمثل أيضا في تدخل القاضي الإداري في تأويل نصوصه، باعتبار هذه التقنية اختصاصا أصيلا له، حيث نجده تارة يعتمد القواعد العامة وتارة أخرى يؤول النص بحسب الواقعة المعروضة أمامه، غايته في ذلك إحقاق التوازن وترسيخ العدالة.

وبناء عليه نجد أن القاضي الضريبي وضع مجموعة من المبادئ العامة للقانون في الميدان الضريبي، بغاية فك الغموض الذي يحوم حول القاعدة الضريبية، حيث نجد العديد من القراءات المتعددة للنص القانوني، فعلى مستوى المسؤولية التضامنية في استخلاص الدين الضريبي، نجد أن القاضي الإداري يبقى وفيا لقواعد قانون الالتزامات والعقود في تطبيقه لنظرية التضامن في المادة الضريبية، وذلك في الحالة التي لم يتم فيها تقسيم التركة بين الورثة، حيث يتم استيفاء الدين من أحد الورثة على أساس رجوعه إلى باقي الورثة لاسترجاع مستحقاته،  وتارة أخرى نجد القاضي يعتمد الالتزام متعدد الأطراف بمتابعته لكل وريث في حدود نصيبه، وفي ذات السياق نجد القاضي الإداري يضع قواعد لممارسة مسطرة الإكراه البدني بشكل مغاير للقواعد العامة.

وهكذا يمكننا القول إن القاضي الإداري يؤسس “لقانون الاجتهاد القضائي للمادة الضريبية”، فالقانون الضريبي إذا وبحسب التحليلات السابقة ليست له ذاتية أو خصوصية معينة، على مستوى قواعده ونصوصه، فإذا كان كل ضابط من الضوابط القانونية يأتي بهدف تنظيم العلاقات بين أشخاص أو بين طرفين أحدهما شخص من أشخاص القانون العام، فالقانون التجاري ينظم العلاقة بين التاجر والزبون، وقانون الشركات ينظم أعمال ونشاط الشركة في علاقاتها مع باقي المتعاملين معها، وقانون الوظيفة العمومية ينظم العلاقة بين الموظف والإدارة التي يعمل بها … فالقانون الضريبي أيضا جاء بهدف تنظيم العلاقة بين الملزم والإدارة الضريبية.

والملاحظ أن القاضي أصبح ينظر في أمور أخرى، وهو الذي خلق هاته الخصوصية والذاتية والتي تأتي بشكل استضماري على مستوى الأحكام والقرارات، حيث أصبح يعمل على تجاوز احترام الضوابط إلى الحفاظ على ما يسمى بالأمن الاقتصادي الأمن العقاري الأمن الضريبي …..، لكن حقيقة القانون هي تبقى واضحة ولا تحيد عن كونه مجموعة من الضوابط التي تنظم العلاقات.  

إن ما يجعل القانون الضريبي يتسم بنوع من الخصوصية، هو نصوصه الغامضة أو سكوته أحيانا الشيء الذي يفتح المجال للعديد من التأويلات، إضافة إلى أنه كقانون لا يحيط بكل الظواهر أو الوقائع الضريبة، حيث إن الصراع دائم بين القانون والقضاء والإدارة على مستوى اعتماد قاعدة قانونية معينة.

علاوة على ذلك، نجد أن التعديلات التي يعرفها قانون المالية، بشكل سنوي تجعل القانون الضريبي متحولا بشكل مستمر هذا التحول هو الذي يمكننا النظر إليه كآلية تجعل من القانون الضريبي ذا خصوصية معينة.

وعلى العموم فإذا كنا لا نتفق مع الرأي القائل بذاتية واستقلالية القانون الضريبي، فلأننا نسائل هذه الاستقلالية ومكمنها، فالقانون الضريبي مستقل عن ماذا؟ هل هو مستقل عن القانون الخاص؟ أم عن القانون العام؟

سيكون الجواب لا محالة أن بناء القانون الضريبي لم يخرج في كنهه عن القانون الخاص وهندسته من خلال اعتبار هذا الأخير أب القوانين فمعظم المفاهيم بدء من الالتزام الضريبي من خلال نشأته وانتقاله إلى انقضائه، تجد أساسا لها في القانون الخاص، إضافة إلى أن هذا القانون يطبق داخل مرفق عمومي ينظم عمله القانون الإداري وقواعد القانون العام برمتها.

فالقانون الضريبي إذا لم يشكل نسقا له ولوحده فقط بل انصهر في مسلسل قانوني لا يحيد عن ثنائية قانون عام – قانون خاص، وبذلك نجد أن بنيته كقانون لا تشكل خصوصية. وإذا كان القانون الضريبي يعرف تجاذبات عدة بين المشرع والإدارة والقضاء فإن الأمر يفتح المجال لإمكانية وجود تأويلات خاطئة ترتب أضرارا تلحق بالأشخاص، الشيء الذي يفرض إقرار المسؤولية عن هذا التشريع الضريبي.

 إن أسئلة الخصوصية الضريبية لم تتوقف عند تصرفات المشرع أو الاتفاقيات الدولية بل عملت الأطروحة على ملامستها على مستوى تصرفات الإدارة ونشاطها الدؤوب، وهكذا تم تناول هذا الشق من خلال تفييئ أعمال الإدارة الضريبية إلى أعمال منفصلة عن العملية الضريبية، وأخرى متصلة بها، الشيء الذي يعطي للأولى مكانة قانونية واضحة كقرارات إدارية أو أعمال مادية أو عقود إدارية والثانية يتم النظر إليها كعملية مركبة ومعقدة لا يمكن فصلها، في إطار ما يسمى بنظرية “الكل غير القابل للتجزيء”، الشيء الذي لا يجعل الباحث يخوض في طبيعتها القانونية، ويطلق على هذه الأعمال بالعمليات الضريبية “ربط الضريبية، تصفيتها، تحصيلها”.

وإذا كان القاضي الإداري قد حسم في طبيعة تلك الأعمال المنفصلة عن العمليات الضريبية، وتبعا لذلك في أساس المسؤولية عن خطأ المصالح الضريبية، إلا أن نقاشا حديثا طفا إلى السطح والذي يتعلق ببعض الأعمال التي وإن كانت منفصلة عن العملية الضريبية إلا أنها مؤثرة فيها، وفي المعادلة الجبائية بشكل أخص، وعموما فهي عبارة عن تصرفات قانونية مهما كان مصدرها يجب البحث في مدى مشروعيتها ودرجة تأثيرها على الوضعية الجبائية للمتعامل مع الإدارة الضريبية، وهي ما يطلق عليها بفقه الإدارة الضريبية La doctrine administrative fiscal  أو كما نود تسميته باجتهاد الإدارة الضريبية.

وهكذا فقد دأب الفقه والقانون والقضاء على تصنيف العمليات الضريبية إلى ثلاث مراحل، تتمثل في: مرحلة تأسيس أو ربط الضريبة من خلال تحديد الواقعة المنشئة للضريبة، مرحلة التصفية التي تعرف بدورها العديد من المساطر التنازعية غير القضائية منها والقضائية، بهدف الوصول إلى قرار الفرض الضريبي من خلال تحقق الالتزام واقعا وقانونا، ثم مرحلة التحصيل بشقيه الرضائي والجبري، بهدف استخلاص الدين الضريبي من خلال الالتزام بالأداء الناشئ عن القرار الأول.

إن هذا التحليل يبين فقط آليات اشتغال إدارة الضرائب من خلال وصف وتحليل العمليات الضريبية وطرق حسابها وتصفيتها وتاريخ استحقاقها، وهذا الأمر هو الذي يحاول أن يكرس الطابع التقني والخصوصي لتلك الأعمال، حيث نجد أن هذا التحليل يتبناه الفقه المالي بشكل كبير.

وعليه تجاوزت الدراسة الوقوف على هذه المقاربة للموضوع، لكونها لا تعطينا بشكل واضح طبيعة هاته العمليات ضمن المنظومة القانونية بشكل عام، بعلة أن القاضي الإداري في آخر المطاف، يؤسس النظر في نازلة معينة على طبيعة التصرف أو الواقعة ومدى مشروعيتها.

وعليه فالإشكال العميق إذا ينصرف إلى الطبيعة القانونية لهاته الأعمال وتصنيفها، حيث عرف هذا الأمر صراعا بين فقهاء القانون الإداري، والقانون الخاص، والفقه المالي، فهل تدخل في خانة التصرفات القانونية أم الوقائع القانونية أو الأعمال المادية أم لها طبيعة خاصة؟ فعلى سبيل المثال، هل تعتبر الواقعة المنشئة للضريبة واقعة قانونية أم تصرفا قانونيا؟ ونفس الأمر بالنسبة لباقي الأعمال الأخرى المرتبطة بتصحيح الأساس الضريبي ومقررات اللجان الضريبية أو آخر إشعار بدون صائر أو الإشعار للغير الحائز، أو قرار الحجز …، لذلك كان لزاما علينا وضع أسس ينبني عليها تصنيف نشاط الإدارة الضريبية، لأن بسط هذا الأمر سيساعدنا لا محالة في التعامل مع دعوى المسؤولية الضريبية، والحسم في إشكالية الطابع التقني والمعقد للعمليات الضريبية، وتوضيح حقيقة ما يصطلح عليه بالخصوصية.

                وعموما فقد خلصت الأطروحة بعد بسطها للطبيعة القانونية للعمليات الضريبية، إلى الجواب على سؤال الخصوصية، وتجلياتها على المستوى الأساس القانوني، وعليه فالنقاش الفقهي عرف تضاربا كبيرا خلص القول إلى أنها إجمالا أطروحات مبنية على أسس قانونية صرفية دقيقة وممنهجة؛ والملاحظ كل باحث كان يناقش من وزاوية تخصصه، الشيء الذي أفرز هذا التباين على مستوى التحليل (التزام، قرار انفرادي، تصرف قانوني، عقد، ….).

ومما لا جدال معه فالعمليات الضريبية تبدأ بأهم نشاط تقوم به الإدارة الجبائية، يتمثل في الواقعة المنشئة للضريبة كحدث وكواقعة قانونية تعمل على إثارة وضعية قانونية، تتضمن شروطاً محددة سلفا لنشأة الالتزام الضريبي الذي تتم صياغته في شكل قرار للفرض الضريبي، هذا الأخير الذي لا يمكن أن يكون إلا قرارا إداريا في نظرنا، وفي نظر العديد من الفقهاء. فمتى كان هذا القرار مشروعا ينشأ ما يسمى بالدين الضريبي بموجب قرار أيضا يسمى التزاما بالأداء، تعمل الإدارة على تنفيذه بطرق عديدة ومحددة بمدونة تحصيل الديون العمومية.

هذا التسلسل لم يخرج عن نطاق ربطه بمفاهيم متضمنة في القانون المدني، وركز على ذلك فقهاء القانون العام، من خلال استنباط مفاهيم من القانون الخاص وتكيفها بحسب نوعية النشاط، ونفس الشيء ينطبق على توجهات فقهاء القانون الإداري.

ومجمل القول، إن دراسة الطبيعة القانونية للعمليات الضريبية، لم تخلق نظريات ومفاهيم جديدة في القانون يستقل بها القانون الضريبي عن غيره من الفروع القانونية الأخرى، وبالتالي فالعمليات الضريبية لا تكتسي أية أصالة أو خصوصية، وفي هذا الصدد نخالف الرأي القائل بذاتية وخصوصية نشاط الإدارة الضريبية، والذي تبناه جانب مهم من الفقه.

وبناء على ما سبق فالعمليات الضريبية حتى وإن كان يتم النظر إليها في إطار نظرية الكل الغير القابل للتجزيء، فإنه يمكن فصل هاته الأعمال إلى مجموعة من القواعد كما سماها Hans Kelsen، وطبيعتها القانونية لا تخرج عن نطاق نشاط أي مرفق عمومي.

إن التحليل الذي اعتمدته الأطروحة في هذا الشق جاء بهدف فتح مجال لمشروعية الحديث والبناء لهوية المسؤولية الإدارية الضريبية إذ خلص إلى إعادة طرح سؤال: ما الذي تبقى من الخصوصية أمام كل ما تم استخلاصه من حقيقة النشاط الضريبي؟ حيث  ما يزال العديد من الباحثين  يعتبرها ميزة للنشاط الضريبي لإعفائه من الخطأ والمساءلة، إن نوعية النشاط الضريبي المتمثلة في الطبيعة الاقتصادية المالية الصرفة للنشاط الضريبي، هي العنصر الوحيد الذي يعطي تلك الصبغة الاستثنائية للنشاط الضريبي، لكن وكما سبق الذكر لا يمكننا الحديث عن الاقتصادي في انفصال عن القانوني، وعليه فكل تصرف مهما كانت نوعيته وطبيعته يجب أن ينضبط  للوحدة المنسجمة المتكاملة للنظام القانوني لا القول باستثنائها كإلكترون حر في سماء هذا النظام، وحتى لو كان كذلك فإنه لا يمكن أن يحيد عن المرتكزات التي تقوم عليها الدولة، فالدولة وجدت أولا من أجل التنظيم والضبط، وبالتالي لا يمكن لأي تصرف مهما كانت قيمته أن يسمو عن المبدأ الذي تقوم عليه الدولة الديموقراطية الحديثة.

وعليه فإذا كان الفقه والقضاء لعبا أدوارا كبرى في تحليل التصرف الضريبي سواء كان تشريعيا أو إداريا، فكيف سيعمل قاضي المسؤولية في تكييف هذه النتائج واستثمارها لبناء معالم المسؤولية الإدارية الضريبية وإعطاء هوية لها؟

انطلق الفصل الثاني من الأطروحة من الوقوف على التطور الذي عرفته نظرية المسؤولية الإدارية، بشكل عام، باعتبارها نظرية قضائية ولدت من رحم المسؤولية المدنية وتمتح أصولها وقواعدها منها، إذ تم إبراز المبررات التي ستدفع بالخاضع للضريبة أولا والقاضي الإداري ثانيا للتفكير في تمديد هذه النظرية والقبول بها في المجال الضريبي؛ في ظل غياب ثقافة التقاضي -لدى الأشخاص طبيعيين كانوا أو معنويين- المتمثلة في فكرة مقاضاة السلطات العمومية. علاوة على ذلك، يقتصر الملزم وفي غالبية الأحيان فقط، على سلوك مسار المنازعة الضريبية وذك من خلال دعوى الاسترداد أو استرجاع الدفع الغير المستحق. وبهذا صح التساؤل حول كيف سيواكب إذا تلك التجاذبات الفقهية التي سبق الوقوف عندها؟ وكيف سيستثمرها لوضع معالم واضحة تعمل على بناء أساس للمسؤولية الإدارية الضريبية؟

ومما لا شك فيه أن تتبع تطور المعيار القضائي لأساس المسؤولية الضريبية، لن يتم بمعزل عن دراسة مسار مسؤولية السلطة العمومية، في كافة المرافق، بهدف البحث في:

أولا: في حقيقة الاستثناء الذي تعرفه الإدارة الضريبية، بإعفائها من تقديم تعويض عن الأضرار الناشئة عن أعمالها غير المشروعة.

ثانيا: باعتبار المسؤولية الضريبية ضرورة تسهم في تخليق وتوجيه نشاط الإدارة الجبائية وإعادة الثقة لمرتفقيها من جهة، والعمل على أداء خدماتها على أحسن وجه، من جهة أخرى، ضمانا للجودة المنشودة.

بناء على ذلك واحتراما للقواعد المنهجية، في إيجاد معيار يؤسس لمسؤولية المصالح الضريبية اعتمدت الأطروحة نماذج مقارنة، وفي مقدمتها النموذج الفرنسي لأنه من جهة أولى، يعد المغرب ابنا بارا لهذا النموذج سواء على مستوى التنظيم المؤسساتي للقضاء الإداري -على الرغم من عدم استكمال بناء هذا الصرح- ومن جهة ثانية، فقد عرف هذا النموذج تطورا مهما في مجال المسؤولية الإدارية وذلك في ظل معياري الخطأ الجسيم والخطأ البسيط، اللذين يجب البحث في مدى كفايتهما بالقول بإقرار مسؤولية المرفق الضريبي.

ينضاف إلى ذلك أنه لوحظ -من خلال تصفح القرارات والأحكام القضائية بالمغرب، مقارنة بالدول الأكثر تقدما- أن القاضي الإداري لم يبن منهجية واضحة في إقراره لهذا النوع من المسؤولية، إذ يرجع ذلك إلى شح الأحكام والقرارات القضائية في هذا الموضوع، وإلى التقييد الكبير لنطاق المسؤولية، إضافة إلى التضارب بين توجهات محاكم الدرجة الأولى ومحاكم ثاني درجة، ينضاف إلى ذلك تدخل الوكالة القضائية للمملكة للتحكم بشكل كبير في الحد من توسع نطاق المسؤولية باعتمادها مقاربة تعطي هامشا كبيرا للإدارة الضريبية كمرفق استثنائي؛ في حين وجدنا النموذج المقارن أكثر منهجية -على الرغم من المؤاخذات والانتقادات الممكن توجيهها له- فقد عرف تطورا بشكل تدريجي حيث في كل مرة كان القاضي الإداري يقدم مبررات ترتبط بطبيعة المرفق من جهة، وبالصبغة التي يكتسيها النشاط من جهة أخرى.

وعموما يمكننا أن نميز في أساس المسؤولية الإدارية عن تصرفات المصالح الضريبية، بين مرحلتين ما قبل 2011 وما بعدها هذا بالنسبة للنموذج الفرنسي، أما بالنسبة للمغرب فالدراسة انكبت على القرارات التي عرفها القضاء الإداري خاصة سنتي 2013 و2015 و2ّ018 و2019 باعتبارها قرارات تأسيسية إلى حد ما.

وبناء عليه فالتحولات القضائية ما قبل 2011 تبدأ من خلال قرار 1913 compagnie générale parisienne des tramways  وقرار 1927 Domoreuil حيث اعتمد القاضي الإداري معيار الخطأ الجسيم جسامة استثنائية واعتبر الفقه أن هذا المعيار لم يتم استعماله إلا في المرفق الضريبي بهذه العبارة، ثم انتقل القاضي بعد ذلك إلى اعتماد معيار الخطأ البين والواضح وذو جسامة خاصة ثم الخطأ الجسيم، وعموما في هاته المرحلة اعتبرت المسؤولية الضريبية مسؤولية استثنائية بامتياز، حيث ظل القاضي الإداري يعطي هامشا كبيرا من الحرية للإدارة الضريبية، وقد لوحظ أن القاضي ينظر للضرر الذي يمكن وصفه بتلك الاستثنائية لا إلى الخطأ، وتجدر الإشارة في هذا الصدد أن القاضي الإداري في هاته المرحلة لم يكن يميز داخل نشاط الإدارة الضريبية بين العملية الضريبية وتلك الأعمال المنفصلة عنها.

لم يتوقف القاضي الإداري عند هذا الحد بل حاول الوفاء إلى ثنائية الخطأ الجسيم والخطأ البسيط، من خلال الرقابة على العمليات المرتبطة بإجراءات تأسيس وتحصيل الضريبة، وقد اتخذ القاضي الإداري هذه المعايير بالنظر للصعوبات الخاصة التي يعرفها نشاط الإدارة الضريبية، ولحساسية الدور الذي تقوم به، حيث ارتأى القاضي الإداري في قضية Bourgeois 1990 ثم قضية Commune d’Arceuil 1997 تبني هذه المبررات لإعطاء مجال معقول للإدارة الضريبية للتدخل وممارسة أعمالها، بالشكل يضمن حماية حقيقية للمتعامل الإدارة، وفي نفس الوقت ضمان أداء المرفق لنشاطه بانتظام واضطراد.

لكن الفقه الفرنسي كان ملحا على ضرورة تجاوز كل هاته الادعاءات، واعتبارها التزامات أصيلة وواجبات ملقاة على عاتق الإدارة، وقدم تحليلا منطقيا يفند تلك الصعوبات الخاصة والتعقيد الذي تعرفه المادة الضريبية، باعتبارها الأسس التي أنشئت من أجلها الإدارة الضريبية كمرفق يؤدي خدماته وفق القانون وفي احترام لمبدأ المشروعية بعيدا عن العبث والصراع الذي عرفته الضريبة عبر التاريخ. وهكذا عرف القضاء الإداري ثورة حقيقية في مجال المسؤولية الضريبية واعتمد معيارا واضحا الذي يقوم على أن “كل خطأ يرتب ضررا مباشرا يستوجب مسؤولية” أو بالأحرى “كل عمل مناف لمبادئ المشروعية يرتب ضررا يوجب انعقاد المسؤولية الإدارية الضريبية”، وفي نظرنا يبقى هذا هو الأساس الذي يسمح بتحقيق التوازن المنشود، حيث إنه يعني أنه على كل طرف تحمل التزاماته مهما كانت طبيعتها، وإن كل خرق لهذه الالتزامات يوجب المحاسبة.

 أما بالنسبة للنموذج المغربي فقد ظل المعيار القضائي يرسخ لمبدأ راسخ لحدود سنة 2020 هو أن المسؤولية الإدارية الضريبية هي مسؤولية استثنائية ويلاحظ من خلال القرارات أن القاضي الإداري المغربي أنه يسير في منحى النموذج الفرنسي، ويمكننا القول إنه حتى لو كان هذا الأمر  يساير التطور العام للقضاء الإداري، إلا أنه لا يعطي اجتهادات متقدمة بل يعتمد معايير أثبتت فشلها سنوات خلت، خاصة على مستوى تطبيقات المسؤولية الإدارية عموما والمسؤولية الضريبية بشكل خاص.

وخلاصة الأمر نجد أن القضاء الإداري المغربي لم يبن هوية لهذا النوع من المسؤولية الإدارية، ووضع معالم تبدو غير واضحة ويشوبها نوع من التضارب، الشيء الذي جعلنا نخلص إلى أنه إذا كان الفاعل الرسمي لا يحدد شروطا مضبوطة وديموقراطية لانعقاد المسؤولية الإدارية الضريبية، فإنه  يخلق العبث والاستهتار داخل الإدارة، من خلال الاستثناء الذي تتبوؤه إذ يعطيها هامشا من السلطة والحرية التي تنقلب إلى تعسف غالبا؛ والحال أن التحولات الدستورية وتطور وظائف الدولة أصبحت تفرض بناء جسور للتعاون والتكامل، فالإدارة المسؤولة هي التي تعمل على ترسيخ مفهوم المواطنة الجبائية، والوعي والثقافة الجبائيتين. وهاته هي المداخل الحقيقية لبناء اقتصاد الدولة، والثقة في مؤسساتها، وتحقيق الرفاه لمواطنيها.

لم تتوقف الأطروحة عند حدود ضبابية معالم المسؤولية الضريبية، بل وضعت آمالا قد يعمل القاضي على تبنيها مستقبلا من خلال النماذج التي تم التطرق إليها، ثم عملت على مسايرة النماذج المقارنة التي عملت وتعمل على توسيع نطاق المسؤولية الإدارية بتفعيلها للمبادئ الدستورية السالفة الذكر، وفي مقدمتها ربط المسؤولية بالمحاسبة، حيث لم تجعل المسؤولية الإدارية تتوقف عند نشاط الإدارة بل تتجاوزه إلى نشاط المشرع أيضا.

وهكذا فقد توخى الفصل الثالث من الأطروحة الإسهام في خلق نظرية وآلية جديدة، تروم الحد من الحرية المطلقة لتدخل المشرع وفرض الرقابة عليه في خلق مقتضيات قانونية ضريبية باستمرار، والقطع بشكل غير مباشر مع بعض الممارسات التي تقوم بها الإدارة، من خلال تدخلها بقوة في صناعة النص الضريبي.

حيث إن التعديلات المتواصلة التي تعرفها النصوص الضريبية من خلال قانون المالية السنوي، والتي تحرص مديرية التشريع بالإدارة العامة للضرائب على تضمينها في مشروع قانون المالية، إضافة إلى القواعد القانونية التي تأتي في إطار معاكسة التشريع للاجتهاد القضائي من خلال القطع مع المبادئ العامة للقانون التي استقر عليها هذا الأخير، كلها تصرفات ستؤثر لا محالة في وضعية الأشخاص والمقاولة بشكل خاص، مما ينتج عنه تقويض دعائم الاقتصاد والاستثمار.

يأتي هذا الأمر في إطار توسيع نطاق المسؤولية الضريبية، الشيء الذي يجعلنا، نطرح تساؤلا عميقا ينصب حول البحث في الآلية التي يمكننا من خلالها فرض رقابة على تلك القوانين، ومساءلتها في حالة مساسها بحقوق وحريات الخاضع للضريبة.

فإذا كان التعويض يتم بناء على الرقابة على مشروعية تصرفات الإدارة الضريبية، وذلك باعتماد الخطأ المقترن بضرر مباشر كأساس لانعقاد المسؤولية الضريبية، فالمسؤولية التي تترتب عن أثر القوانين الضريبية، تنصب حول البحث في إمكانية مساءلة الدولة خارج نطاق الخطأ، والشروط المألوفة للمسؤولية عن النشاط الإداري.

وعليه فإن هذا الأمر يمكننا أن ندرجه في إطار تأسيس وتطوير نظرية المسؤولية التشريعية في الميدان الضريبي، هاته الآلية ستعمل على توسيع نطاق المسؤولية الضريبية، وستحد من التدخل المتزايد للدولة في ضبط العمل الضريبي مما سينعكس إيجابا على العلاقة بين الخاضع والدولة، حيث سيسهم في بناء مفهوم المواطنة الجبائية التي تقوم على إشراك المواطن في صناعة القرار الضريبي وتدخله المباشر في فرض رقابته على مشروعية النص الضريبي، وهذا إذا يشكل لبنة جديدة بل ودعامة قوية لاستكمال بناء دولة القانون.

وقد خلصت الأطروحة إلى أن الأساس في انعقاد المسؤولية بناء على عدم مشروعية تصرف ضريبي صادر عن المشرع، عرفت تطورا ملحوظا في تطبيقات القضاء الإداري المقارن -دون وجود أساس واضح إن لم نقل انعدام الأساس القضائي بالمغرب باستثناء حكم للمحكمة الإدارية بالرباط تم التصدي له برفض الطلب سنة 2017- وعموما ظل المعيار القضائي يعرف نوعا كبيرا من التشدد والتقييد بالنظر للشروط التي تتأسس عليها المسؤولية، والملاحظ أن التحولات القضائية لم تنحصر في الاجتهاد القضائي لقضية La Fleurette  بل تلاها إلى قضايا أخرى إلى حدود سنتي 2012 و 2015، وعموما لم يعترف القاضي الإداري صراحة بخطأ المشرع بل انصرف الأمر إلى اعتبار تصرفه هذا غير مشروع ورتب المسؤولية بناء على خرق المبدأ الدستوري المتمثل في المساواة أمام تحمل التكاليف والأعباء العمومية، وبوجود شروط جد مقيدة وخارج نطاق الخطأ التشريعي.

 واستشرفت الأطروحة معيارا سيأتي في يوم من الأيام لا محالة، إذ سيتم الاعتراف الصريح بخطأ المشرع، وسيعمل القاضي الإداري على اعتبار أن كل تصرف -مهما كانت وجوبيته- غير مشروع ومرتب لضرر، يعطي الحق في الحصول على تعويض عادل وشامل.

أما بخصوص خرق الاتفاقيات والمعاهدات الضريبية والالتزامات الدولية عموما، فقد توقفت الأطروحة عند أبرز التحولات القضائية في هذا المجال وتم تناولها من خلال مرحلتين ما قبل 2007 وما بعدها، بالنسبة للنموذج المقارن، علاوة على دراسة التحولات القضائية بالمغرب التي اكتفت بالمعايير الكلاسيكية لانعقاد المسؤولية الإدارة عن خطأ الإدارة إلى حدود سنة 2017، وقد تمت دراسة هذا التطور في إطار إما حالة تطبيق الاتفاقية الدولية من طرف الإدارة، أو في حالة خرق المشرع لاتفاقية دولية ضريبية.

 ينضاف إلى كل ما سبق، هو أن الأطروحة ذهبت إلى أبعد الحدود، وهو البحث في نظرية ما زالت فتية عند القضاء الإداري المقارن والتي تعد كترف فكري، ويتداخل فيها الدستوري بالإداري، إذ يتعلق الأمر بمسؤولية الدولة عن الآثار المترتبة عن الدفع بعدم دستورية نص ضريبي، ولا شك أن هاته الآلية القضائية وجدت تطبيقات لها على مستوى النماذج المقارنة سواء البلجيكي، الإيطالي، الألماني …، لتشهد أول ترسيخ لمعيار قضائي في أواخر سنة 2019، حيث ثار جدل بين الفقه، حول أساس انعقاد هذه المسؤولية، فالبعض اعتبرها ناتجة عن خطأ المشرع والبعض الآخر، تحفظ على استعمال عبارة الخطأ للاكتفاء بعبارة لا مشروعية التصرف التشريعي، واستقر القضاء مؤخرا على اعتبار الأساس يتمثل في خرق مبدأ المساواة أمام التكاليف العمومية، إضافة إلى وضع شروط لتحديد التعويض تتعلق بتقادم هذا النوع من الدعاوى يتمثل في أربع سنوات الأخيرة، إضافة إلى شرطي الضرر والعلاقة السببية.

إذا كان القاضي الإداري أسس لمعالم ولهوية للمسؤولية الإدارية الضريبية، واعترف بها ولو بشكل مقيد أحيانا، فما يثار بخصوص هذه الدعوى هو إشكال يرتبط بهاجس أكبر، يتمثل في الكلفة المالية لدعوى المسؤولية كمعيق حقيقي لتطور هذه النظرية، مما يجعلنا نتساءل عن مداخل لعقلنتها بهدف تحقيق نوع من النجاعة الضريبية.

وهكذا فقد عنونت الأطروحة هذا الجزء من الأطروحة ب”الكلفة المالية: الحقيقة المرة في دعوى المسؤولية الضريبية”، حيث تطرقت الدراسة لآليات تقدير التعويض من قواعد قضائية، وخبرة وسلطة تقديرية، لتتوقف عن تنفيذ هذه النفقة العمومية كما هو مموأ إليها في الفصل 14 من القانون التنظيمي لقانون المالية 130.13، حيث تطرقت الأطروحة في هذا الصدد للآليات الإدارية والقضائية في تنفيذ التعويض، بهدف الإجابة على سؤال مركزي يتمثل في “هل تعد الكلفة المالية معيقا حقيقيا لدعوى المسؤولية الإدارية الضريبية؟” حيث توصل التحليل إلى نتيجة مفادها أن إشكالية تنفيذ الأحكام والقرارات هي إشكالية تدبير كتلة مالية لا إشكالية خصاص موارد، وتطرقت أطروحة للعديد من مداخل تحسين تدبير هذا النوع من النفقات العمومية.

لتختم الأطروحة الإشكالية بالوقوف على المداخل الحقيقية لتحقيق النجاعة الضريبية المنشودة، وذلك من منطلق كون أن نظرية المسؤولية الإدارية الضريبية نظرية قضائية، حيث اعتبرت أن تطوير هذه النظرية رهين بنجاعة القضاء الإداري كتصرف للقاضي الإداري من جهة، وكمؤسسة تحتاج لمزيد من الاستقلالية والعناية لاستكمال بناء صرح القضاء الإداري المغربي والوصول إلى تحقيق الازدواجية المتوخاة، والقضاء المتخصص المنشود.

لقد عملت الأطروحة في خاتمتها على صياغة إجابات واضحة عن الإشكالية، وحددت نطاق توقفها في لاستكمال البحث واستشراف مواضيع مستقبلية مهمة، من قبيل المسؤولية الإدارية الضريبية الرقمية والتحولات التي ستواكب القانون الإداري ومفاهيمه الأساسية، والانتقال الضريبي الرقمي، والمعاملة بالمثل في المجال الضريبي، ….