في هذه المقال، نود الوقوف عند بعض مظاهر التحول في الخطاب السياسي، لدى الفاعلين الحزبيين المتصدرين للمشهد السياسي في المغرب، وبشكل خاص عقب صدور الوثيقة الدستورية لسنة 2011، ومعاينة ما ترتب عن ذلك من تأزيم للفعل السياسي والتواصلي، سواء بين مكونات المشهد السياسي في ما بينها، أو بينها وبين عموم المهتمين بالشأن العام بالمغرب. نعتقد أن أهم مظاهر التحول في الخطاب السياسي قد شملت: قاموس اللغة السياسية المتداولة، ومسلكيات وأشكال الظهور الإعلامي للفاعلين السياسيين، وأنماط التواصل السياسي والحزبي والإعلامي،…الخ.
إن زخم الأحداث والممارسات والخطابات، والأفعال وردود الأفعال في المشهد السياسي المغربي، في ظل حكومة يترأسها حزب وطني بمرجعية إسلامية، وفي ظل دستور سادس للمملكة، جاء كنتيجة مباشرة لتداعيات الحراك السياسي والاجتماعي بالمغرب والدول العربية، كان زخما كثيفا ومسترسلا ومتشابكا، إلى درجة أنه أصبح من الصعوبة بما كان، بالنسبة للدّارسين والملاحظين للشأن السياسي، الإحاطة بجميع مظاهره وتجلياته، وتحليلها وتقييمها في مجرد مقال أو حتى دراسة. ما نتوخاه إذن، في هذا المقام، هو لفت الانتباه إلى بعض الصور والمظاهر، التي شكلت – في ما نعتقد – تحولا وسم مؤخرا الخطاب في المشهد السياسي المغربي.
قد لا يحتاج المتابع ليوميات الفاعلين السياسيين الحزبيين بالمغرب، في هذه الفترة، إلى كبير جهد لمعاينة ما يعتري الخطاب السياسي والإعلامي من تحول، حيث صارت اللغة السياسية المتداولة تمتح معجمها ومعانيها من حقول دلالية، بعيدة عن السياسة، ولغتها كما هو متعارف عليها عالميا؛ فأصبحت آذاننا تستقبل العديد من الأقوال والملفوظات ذات الإحالات المجازية على عوالم: الحيوانات والجن والأسطورة…الخ، فانتقلنا بهذه الطريقة من الحديث سياسيا في السياسة، إلى الحديث مجازيا في السياسة؛ فإن جرى العرف في تاريخ التجارب السياسية، على إلتماس قدر من العذر للسياسيين والمفكرين، بأن يلجأوا إلى عالم الحيوان وغيره، لتبليغ وتمرير رسائلهم وأفكارهم السياسية المشفَّرة، إذ لا مجال لديهم لإيصالها بشكل عادي، جرّاء الطغيان وقمع حرية التعبير، فإن اللجوء إلى هذه الصيغة في مناخ سياسي على قدر كبير من الانفتاح والتحرر. وفي ظل مرحلة تأسيسية جديدة، لا يمكن أن يرى فيه جل المتتبعين – إن لم نقل كلهم – سوى تحولا ارتكاسيا للخطاب الحزبي في مشهدنا السياسي، وتضاؤلا لمنسوب الوضوح والجرأة السياسيين المطلوبين.
لقد تحولت لغة الخطاب السياسي الحزبي من لغة تتوسل في منطوقها بمفاهيم من قبيل: مراكز القوى، الهيمنة، جيوب مقاومة التغيير، الأخلاق السياسية…الخ، إلى لغة مستحدثة توظف رزمة مصطلحات وتعابير في توصيف الأحداث والأشخاص، أساسها الدارجة المغربية، وما تكتنزه من شحنات وحمولات، تُمكّن من يلوذ إليها من كل ما هو بحاجة إليه، من أصناف وأشكال النعوت والأوصاف والأمثلة. ومما يلاحظ استعماله في مشهدنا السياسي، نجد: العفاريت، التماسيح، الشياطين، بويا عمر…الخ. كما تجدر الإشارة إلى أن هذا التنابز السياسوي قد تعدّى مستوى الخطاب، ليتم “إنزاله” على أرض الواقع، من خلال الاستعانة بخدمات أحد أنواع الحيوانات الأكثر شهرة، والأقدر توصيلا للرسائل السياسية (الحمار). مع العلم، أن هذا المخلوق له مكانة سياسية من نوع آخر، أكثر رِفعة في الديمقراطيات الحديثة.
غالبا ما يتم ذلك، بدون أن يلتفت الفاعل الحزبي إلى أن ذلك التوظيف، بقدر ما أنه يسعفه في تحقيق تواصل أكثر سيولة وجاذبية للمتعاطفين معه، ولعموم المعنيين بمتابعة الشأن العام، بقدر ما أنه يكلّفه الشيء الكثير – على المدى المتوسط والبعيد- سواء فيما يخص مصداقيته وصورته السياسية، أو فيما يخص مسؤوليته عن استمرار صور العزوف عن الشأن السياسي العام. والمسؤولية هنا تصبح ثقيلة إذا ما استحضرنا عاملين اثنين: يتمثل العامل الأول في أنه كان من أهم غايات إقرار الدستور الجديد، بما حواه من توسيع لمجال الحقوق والحريات ولمجال المشاركة السياسية، هو تشجيع عموم المواطنين – وخصوصا فئة الشباب – على ارتياد عوالم السياسة، والمشاركة في تدبير الشأن السياسي، المحلي منه والعام. ويتمثل العامل الثاني، في أن الأجواء الاجتماعية والاقتصادية والنفسية العامة، سواء تلك التي تتبنّى أو تلك التي تردّ على هكذا خطاب سياسي، هي لا تعمل في نهاية المطاف سوى على التيئيس والتبخيس، بدل التسييس والتأطير.
والحال، أن الأمر لا يستقيم على هذا المِنوال في البلدان التي استقرت بها الممارسات الديمقراطية على مستوى الفعل، كما على مستوى الخطاب؛ حيث أننا نجد أن أغلب الفاعلين السياسيين – ما عدى الأحزاب والحركات العنصرية والقومية – يصدرون في خطابهم السياسي والإعلامي عن تصور تواصلي وبيداغوجي معقول وسلس وجاذب، كما أنهم يؤطّرون ويعبّئون منخرطيهم ومتعاطفيهم، فيما يتعلق بالقضايا السياسية وغيرها من القضايا العامة، عن طريق لغة سياسية راشدة تتوخّى التبليغ والتوضيح والإقناع، مع الحذر من السقوط في إغراءات المسكوكات اللغوية، والخطابية المنفّرة والجاهزة. كما تجدر الإشارة، إلى أن هذا النمط من الخطابات السياسية، إضافة إلى كونه يصيب المتتبع للشأن العام من داخل الوطن بعسر الهضم، نتيجة اختلاط الحابل بالنابل، واستعصاء القدرة على الفرز، فهو يمدّ المتتبع لذات الشأن، من خارج الوطن، بصورة معكوسة لما اعتبر عقب صدور الوثيقة الدستورية الجديدة، استثناءً مغربيا، ليغدو الاستثناء متجسدا له في تمظهرات ومسلكيات خطابية وفعلية، لم تكن معهودة بهذا الشكل من قبل. هذا من جهة؛ من جهة ثانية، فالاستمرار في تبني هذا النمط الخطابي والسلوكي، يزكي رجاحة الانطباع الذي مفاده أن الحكومة المغربية الحالية – وخصوصا على مستوى رئاستها – استمرأت إنتاج هذا الخطاب، والدفاع به عما تعتبره إنجازاتها ومخططاتها، فيما يتوجب عليها الالتفات أكثر، والتركيز على المهام والملفات الدستورية والسياسية التي لازالت معلقة، والتي تحتاج إلى قدر كبير من عقلنة العمل البرلماني، كما تحتاج إلى إجراءات وتدابير حكومية أكثر نجاعة.
هشام الهداجــــي
باحث في القانون الدستوري والعلوم السياسية، حاصل على الدكتوراه في القانون العام من كلية الحقوق بمراكش، بأطروحة جامعية في موضوع: مسألة الحداثة في الفكر العربي المعاصر. له دراسات منشورة بمجلات علمية محكمة، ومقالات رأي منشورة في الجرائد الوطنية، ومشاركات في ندوات وطنية ودولية.