هوية الدولة أو فصل القول في البنى الزمانية للحياة الاجتماعية

نشرت هذه الدراسة ضمن مؤلف جماعي صدر عن مركز تكامل للدراسات والأبحاث سنة 2021: “الدولة وسؤال الهوية في المنطقة المغاربية -أعمال متكاملة –“، الكتاب متوفر في المكتبات وقابل للتحميل على الموقع الإلكتروني للمركز.


مقدمة

 إن الحديث عن الدولة في كلام معدود ينطوي في حد ذاته على مغامرة، ثمة فيض من نظر طال الموضوع على مر أزمان عديدة. هذا الزخم على مستوى النظر ساوق تحول الائتلاف الإنساني عبر التاريخ، فكان الاجتماع على نسخ عديدة تعكس التراكم الذي حصل على صعيد التجربة. نقف راهنا على أكثر من نسخة تكشف عنها تجربة الدولة، لكل تجربة مسار وسياق تاريخي يخصها مضمونا ومظهرا، فمن ذا قد يتنكّر أن للدولة منطق ثابت لا يعتريه انزياح على مجرى الأزمان؟ فرض ارتقاء الحياة البشرية أن نحيّن مضمونها وصيغ ائتلافها، مرّ بها الحال من أشكال محدودة وصولا إلى أشكال متعددة. واقع التعدد يجعلنا نشايع القول بهوية متعددة للدولة، رغم أنه ثمة توافق على شكل واحد يسع مضمون متعدد متباين؛ أو ليس هذا الأمر في حد ذاته مفارقة، حينما نقبل التحديث الذي طال شكل الدولة ونتحفّظ، وفي أحسن الأحوال نمارس الانتقائية؟

 ونحن بصدد مساءلة هوية الكيان الذي نرتضيه صيغة مثلى لائتلافنا، لا يمكن أن نتحاشى مساءلة هوية هذه الهوية في مدى وجاهة أن تعبُر الزمن على وجه قار، أو لها أن تحيّن ذاتها وتنسخ نفسها بنفسها، لتسفر في كل طور على مضمون جديد وتصبح على وجه حديث. عندما نعاين هوية الدولة على نسخها المتعددة، نخلص إلى أنها صورة من المجتمع، حينئذ قد نجد حجة لمن يتمسك بأن لكل جماعة نهجا يخصها ويلائمها[1]. لكن الإشكال الذي قد يفرض علينا إلحاحه: كيف نصوغ طبيعة ائتلافنا وأشكال البنى الاجتماعية التي يقع عليه اختيارنا وفق منطق الزمان وتبعا لمجرى الارتقاء التاريخي؟ وما الذي يجعل شعوبا بعينها تحيّن بناها على مرّ الزمن في بحث عن الائتلاف الأنسب الذي يوائمها، بينما تعتصم الأخرى بنهج خاص مبني على منظور ثابت للهوية والثقافة؟ فالشاغل الذي يعنينا في هذا المقام هو النظر في التطابق الحاصل تاريخيا بين صيغة الدولة والبنى الاجتماعية والثقافية، ولكن من دون أن نغفل هذين المكونين في معزل عن معطى الزمان. فالدولة ليست وفقط صورة حرفية من هوية مسيّجة معزولة تخص أمة ما، بل هي بالأحرى نابتة زمانية. وأن نقول بالطبع الزماني للدولة، يفترض أن يكون للدولة منطق يخصها إزاء البنى الذهنية والهيكلية المصانة في المجتمع. وبفعل تزمّن هذه البنى نفسها وتفاعلها مع سياقها، يفترض أن تفصح كل مرة عن نسخة غير قارة لهوية الائتلاف الذي يتحينّ مع مجرى الزمان. ولا يحتاج منا التدليل على الطابع النسبي لهوية البنى الاجتماعية ولكيان الدولة زمانيا، ولنا في سيرة الدولة نفسها عبر التاريخ آية اليقين فيما يخص طبيعة الارتقاء الذي يلازمها.


[1]– فيما بين الحياة السياسية وضروب الحياة الثقافية والاجتماعية من تطابق، يحدثنا هشام شرابي: “كانت أنماط الحياة السياسية وأشكال السلطة في حياة الشعوب تنبثق من أنماط الثقافة الاجتماعية وأنماط الأنظمة العائلية المهيمنة فيها”. هشام شرابي، النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين، مركز الوحدة العربية، بيروت 1990. ص 91.