الدولة المدنية والحرية في المغرب الكبير (مؤلف جماعي)

تمّ تداول تعبير الدولة المدنية بقوة بعد هذا الحراك الاجتماعي أواخر سنة 2010، سواء من خلال تعبير الشعوب تطلعاتها لتحقيق تغيير سياسي حقيقي نحو الديمقراطية والحكم المدني، أو عبر محاولة النخب السياسية المختلفة التعبير عن رغبتها في إيجاد تقارب بينها، أو العمل على نفي تهمة محاباة الدولة الدينية أو الدولة العسكرية التي قد تُلصق بهذه الأطراف.

والدولة المدنية في أساسها تقوم على مفهوم الإرادة العامة التي تتوج وتعبّر عن التعاقد الاجتماعي داخل المجتمع، وليس يخفى أن هذا التصور قد نشأ في الفكر السياسي الحديث عبر مختلف فلاسفة العقد الاجتماعي، وفلاسفة الأنوار الذين ساهموا جميعا في إحداث قطيعة نظرية مع تصورات العصر الوسيط للممارسة السياسية المستبدة، وقد توّج ذلك فيما بعد بالدولة المدنية الحديثة التي انتقلت عبر تحولات وتراكمات عدة، رغم كل المآسي والحروب التي رافقت هذه التحولات، إلى نمط الدولة الديمقراطية المعاصرة بسلبياتها وإيجابياتها.

لكن في المجال التداولي لثقافتنا الإسلامية مازال هذا المفهوم يطرح مشكلة مزمنة، تتمثل أساسا في سيادة تصورات عتيقة للممارسة السياسية، تستقي من الأدبيات السلطانية ومن اللاشعور الثقافي السلطوي الكثير من أسهها وقيمها وتمثلاتها للفعل السياسي والتعاقد الاجتماعي، مما يجعل أي حديث عن مفهوم الدولة المدنية يصطدم بهذه التمثلات والتصورات التقليدية.

وينجم عن هذا التعارض بين التصور الحديث للدولة والتصور التقليدي الشمولي للسلطة، صراع وتمزق حقيقيان سواء في واقع الممارسة أو التنظير في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر. وقد اتخذ هذا التمزق أشكالا مختلفة من الظواهر السياسية والثقافية والحقوقية والقانونية، اتسمت في غالب الأحيان بالمزاوجة بين التقليد والحداثة، مما جعل مهمة الإصلاح معقدة.

وفي المقابل، فقد احتلت فكرة الحرية مركز اهتمام إنسان العصور الحدیثة والراهنة على حدّ سواء، وذلك لِما لها من أهمية في تبریر الرغبة في الحیاة وإضفاء المعنى عليها. وترسّخ الوعي بهذه المسألة منذ الاكتشاف النظري والمنهجي لمفهوم الفرد باعتباره شخصا واعیا وذاتا حرّة، تفكّر وتتمثل هذا العالم على أنه موضوع لها؛ فالحریة بهذا المعنى تحمل دلالات وتجلیات تكمن في عدم الخضوع لإكراهات وحتمیات موضوعیة “طبیعیة وسیاسیة وثقافیة واقتصادیة”، وذاتیة “نفسیة وشعوریة ووجدانیة”، غیر أنّ وجود هذا الإنسان في واقع معطى یخضع لمحدّدات تاریخیة واجتماعیة وثقافیة، فرض الإقرار بمبدأ الحتمیة إلى جانب الحریة، ومن ثمّ ضرورة التسلیم بنسبیة الحریة الإنسانیة ومحدودیة الإرادة.

ورغم كونیة سؤال الحریة، إلا أنه في مجتمعات الأزمة یصبح أكثر إلحاحا، بسبب تعاظم الأسباب الموجبة للتفكیر فيه مجددا، ولا شك أن المجتمعات العربیة والإسلامیة معنیة بهذا السؤال أكثر من غيرها، فهي لیست في حاجة إلى استئناف طرح سؤال الحریة باعتباره موضوع للتفكیر فقط، بل هي في  حاجة ماسة لجعل الحریة إلى موضوعا للتطبیق؛ لأنها بقدر ما تتوق إلى الحریة، على غرار باقي المجتمعات، فهي تواجه مشكلة استعصاء الواقع.