كتاب الديمقراطية المحلية وآفاق التنمية الترابية بالمغرب

تضاعف الاهتمام بالسياسة الجهوية منذ أواسط القرن العشرين، كحقل جديد لتجارب إنسانية تروم تقديم الأفضل وإبداع الحلول من اجل تجاوز سلبيات المركزية وإعطاء نفس جديد لاشتغال الأنظمة السياسية الحديثة بما يمكنها من تحديث البنيات السياسية و الإدارية وتطوير وظائف الوسائط التراتبية حتى تستوعب المشكلات القديمة – المتجددة من قبيل: المشاركة السياسية المباشرة و غير المباشرة، استحضار البعد الثقافي و الاجتماعي و الاقتصادي و البيئي في برامج التنمية الترابية، إضافة إلى تزايد الحضور المكثف للمجالات الترابية المتوسطة الحجم في نسق التنافسية و التعاون الدوليين.

تعد الديمقراطية المحلية واللامركزية والجهوية ، في المغرب على غرار كثير من الدول، مواضيع مهمة  حظيت  بعناية واسعة من لذن السلطات الرسمية والممارسين الترابيين، كما شكلت موضوع بحث ودراسة كبيرين من طرف الباحثين من تخصصات مختلفة ومن وجهات نظر متباينة، تارة من أجل دراسة الأسس التاريخية ومدى تطورها مبتغية رصد مستويات تقدم المغرب نحو نادي الدول الديمقراطية التي تمتلك أدوات الاشتغال الديمقراطي وطنيا ومحليا، وتارة أخرى مهتمة بالوقوف على ملامح تطور النصوص المنظمة بدءا بدستور 2011 والقوانين التنظيمية الثلاث للجماعات الترابية. وبعد كل فترة من الممارسة يساهم الباحث من مختلف الزوايا والتخصصات في تقديم قراءات مختلفة لما جرى واستشراف القادم.

في هذا الإطار عمل مركز تكامل للدراسات والأبحاث طيلة سنتين متتاليتين على تنظيم ندوتين إحداهما حول الجهوية ، وندوة أخرى حول الديمقراطية المحلية والتنمية الترابية.  كانت تلك فرصة لباحثين من مختلف المشارب لطرح أفكار مهمة حول الحصيلة من منظور البحث العلمي الموضوعي ووفق مقاربات متكاملة يتداخل فيها الدستوري بالإداري والاقتصادي بالاجتماعي والتدبيري..

 من خلال دستور 2011، حسم الدستور المغربي في الاقتراع المباشر و الأمر بالصرف و ضمان التمثيلية النسائية و شكل توزيع الاختصاصات و الموارد و السلطة التنظيمية..، وترك التفاصيل من اختصاص قانون تنظيمي هده المرة، تأخر صدوره إلى غاية صيف 2015، نظر فيه القاضي الدستوري وكانت فرصة لتكريس وتوضيح كثير من المبادئ الدستورية ( التدبير الحر، التفريع، التعاضد..)، لكن ذلك زاد من تراكم الغموض المعياري، لاسيما أن القانون التنظيمي111-14 (و القانونين التنظيميين 113-14 و 112- 14 )، أحال بكثير من الغلو إلى القوانين العادية المكملة ( الممتلكات و الموظفين) و على النصوص التنظيمية ( مراسيم و قرارات). كل ذلك جعل النص القانوني الأساسي شاردا و تائها ينتظر 30 شهرا (هي المدة القصوى التي حددتها القوانين التنظيمية من اجل استيفاء شروط تنزيل النصوص التنظيمية المكملة)، وتولت الدوريات الوزارية مهمة ملء الفراغات. ذلك ما يطرح بإلحاح مشكلة الزمن في التدبير الإداري و السياسي ومكانته في التشريع ودلالته في التنفيذ من جهة، كما يعيد طرح جدوى الأمن القانوني في هذا المجال.

إن عدم الرضى عن وتيرة الجهوية و إيقاع الجهات بالمغرب قد أكد عليه جلالة الملك في الرسالة الموجهة للمنتدى البرلماني الثاني للجهات في 16 نوفمبر 2017 عندما ذكر بأن ” الآليات القانونية  اللازمة لتفعيل الجهوية المتقدمة قد تم اعتمادها في مجملها، و أن المنتخبين بمختلف الجماعات الترابية لم يتوانوا في العمل على تكريس مسلسل الجهوية المتقدمة على أرض الواقع، كما أعلنت عنه المناظرة الوطنية الأولى حول الجهوية بأكادير سنة 2020.

فلو تم تسطير الأهداف وتحديد المبادئ و القواعد بوضوح واضطلع الفاعلون بمهامهم، فإن المرحلة المقبلة ستكون حتما هي بلوغ السرعة القصوى من أجل التجسيد الفعلي و الناجع لهذا ” التحول التاريخي”، وفي هذا السياق يعمل الباحث العلمي على تقديم قراءته للوضع وتحليله للصورة.

لكن اللامركزية والجهوية  والانتخابات المحلية وحدها ليست هي الديمقراطية المحلية، لن تكون سوى اجتهادا لبلوغ الجزء المهم من الديمقراطية المحلية، فمهما تقدمت القوانين فإن المدى تحكمه ” العقلية الديمقراطية “. وبالمقابل فالتنمية المحلية لا تختزل الديمقراطية المحلية، وإن كان مهما فهو الذي يعطي القيمة و اللون و الطعم .

” الدولة الديمقراطية تتكلم قليلا عن السياسة، لكنها تمارسها كثيرا، أما عندنا فالحاصل هو العكس..”. هكذا قال المفكر المغربي عبد الله العروي في حديثه عن السياسة في المغرب وفي مناخ تحكمه الأمية.

إن الحديث عن الديمقراطية المحلية بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال اللامركزية و التنمية المحلية،  بعد فترة من التجارب و القوانين و الممارسات، يجب أن ينتقل نحو الممارسة و التفعيل. وفي هذا الإطار يلزمنا طرح السؤال الجوهري الثالث وهو ما العمل في مجال تفعيل وتجويد الديمقراطية محليا ؟

سؤال يفترض طرحه في التجربة المغربية على غرار باقي دول العالم، هل يمكن الحديث عن ديمقراطية محلية بمعزل عما تعيشه الديمقراطية على المستوى الوطني بل و المستوى العام؟ و هل يمكن فصل الديمقراطية عن التنمية؟ سؤال قديم تم طرحه واختلف حوله المؤيدون و المعارضون لاسيما في الدول المتخلفة ولازال السؤال يطرح وسيظل كذلك مستقبلا. قد يتغير المصطلح ” الديمقراطية التمثيلية” الديمقراطية التشاركية” ” ديمقراطية القرب” لكن في كل الأحول الديمقراطية باقية وحاضرة وكذلك ومثال تبقى التنمية مطلوبة و حاضرة سواء سميت ” تنمية اقتصادية ، تنمية سياسية، تنمية اجتماعية، تنمية ثقافية “، أو تنمية إنسانية وبشرية ” أو ” تنمية مستدامة “..” تنمية وطنية، محلية أو جهوية”..

الديمقراطية المحلية بدون فعل ملموس وتنمية نصيب الفرد من الثروة وعدالة توزيعية و مجالية، يبقى كلاما عن الديمقراطية ويبتعد شيئا فشيئا عن روح الديمقراطية وإن كان يحافظ ويعزز شكلها. فالديمقراطية المحلية توافق على الشكل وقبول بالانتخابات لكن كذلك توافق على المضمون كذلك. وهذا بالضبط سر ابداع الديمقراطية التشاركية، فهل كانت كل أطرافها في مستوى مناسب من النضج لنتحدث عن نجاح أو فشل كل مظاهرها أو جزء منها؟

إن هذا الكتاب الذي نضعه بين يدي القارئ المتخصص وغير المتخصص، هو ثمرة جهد في جمع وقراءة وتنسيق ما كتبه الباحثون بتخصصات متباينة لكنها متكاملة، حول دستور 2011 والقيمة الفعلية للمبادئ الكبرى ذات الصلة بالجماعات الترابية واللامركزية والجهوي من قبيل التدبير الحر والديمقراطية التشاركية ،  منهجية تدبير التداخل بين المركزي والجهوي على ضوء بعض التجارب كالتجربة لإسبانية والفرنسية والألمانية، النخبة المحلية وسؤال النشأة والفعالية ، ومكانة الانتخابات المحلية في سياق ديمقراطية محلية غير مكتملة، تثير بعض الدراسات أدوار الفاعلين في تطور مستوى اللامركزية والجهوية والديمقراطية المحلية، ما هو دور و مستوى مشاركة الفاعلين:   الوقوف عند مساهمة  الفاعل المدني في التنمية الترابية ودمقرطة الفعل العمومي الترابي، والفاعل السياسي من خلال مستوى النخب وكذا أدوار الفاعل الإداري لاسيما الولاة والعمال والمصالح اللاممركزة في إعادة تشكيل صورة جديدة تمزج بين التكامل والتداخل والتفاوض والصراع خصوصا في أفق تفعيل ميثاق اللاتمركز الإداري الواسع. أما على مستوى الفعالية، ساهمت المشاركات  العلمية في الوقوف عند القيمة المضافة للتقنيات الجديدة في مجال الحكامة الترابية من مدخل الفعالية التدبيرية، فالمواطن أصبح  ملحاحا في المطالبة بصورة جدية وحديثة للخدمة العمومية الترابية سمتها  الفعالة والجودة، في مجال الصفقات العمومية والتعاطي مع المال العام، وكذلك في مجال التسيير والإدارى وفق مؤشرات علمية ومضبوطة ولوحات قيادة ترابية، كل ذلك من أجل تطوير مناخ جيد للمعاملات الإدارية ، بل والاقتصادية من خلال تعبئة كل عناصر تجويد مناخ الاستثمار محليا عبر تشجيعه ومراجعة أدوار المؤسسات الاقتصادية الترابية كالغرف المهنية مثلا.

فهذا الكتاب يشكل مساهمة مهمة في التحليل والتوثيق للتجربة المغربية في مجال اللامركزية والجهوية والديمقراطية المحلية، محكومة بلحظة معينة سمتها الأساسية بداية الممارسة عمليا للنموذج المغربي للتنظيم الترابي اللامركزي القائم على الجهوية المتقدمة، كما حسم في ذلك الدستور المغربي. وعليه يشكل مرجعا بالنسبة للباحثين والممارسين كذلك، كما يقدم للقارئ الأجنبي المولع بالدراسة المقارنة فرصة الاطلاع على التجربة المغربية.