الفلسفة المتعالية

(مقتطف من تقديم المترجم)

غرضنا من ترجمة هذا النص الفلسفي الأساسي الذي خطه الفيلسوف الألماني كارل فيلهلم فريدريش شليغل في مستهل القرن 19م (1801)، ونتولى نقله ليكون متاحا للمشتغل بالفلسفة والمشنغل بها في لغة الضاد بصفة عامة، هو معرفة منزلة الفلسفة في مساره الذي تجاذبه أكثر من شاغل فكري. وأدبي، ومحاولة التعرف عن أوجه التأصيل الفلسفي الذي وقعه في سياق عصر فكري وأدبي زاخر، وفي معقل (مدينة يينا وجامعتها) كان يعج بكوكبة من الأسماء اللامعة، فكان لفكره نصيب من المساهمة الوازنة والمكانة المعتبرة ضمن الحركة الفكرية والأدبية في صورتيها المثالية والرومانسية في ألمانيا حديثا.

 وبما أن المقام يخص هنا تحديدا تبيّن المنزلة الفلسفية التي تنزّلها هذا الفيلسوف، أو بالأحرى نوعا من الامتحان لأنفسنا في شأن مدى اقتدارنا على أن ننفلت من عوائد تقييد النظر فيما تقرر من نظم فكري، ومن اعتياد دأب على حصر الإبداع الفلسفي في هذ العلَم أو ذاك، فإنه نأمل أن يكون فعل الترجمة نوعا من تحفيز العقول على أن تتحرر من تقييد النظر في قامات فلسفية بعينها، ويجعلها على قناعة أن باحة الفلسفة وأبنية التفكير أعز من أن تحصر، إذا أردنا أن نكون على بيّنة وصورة وافية تكشف انتظام ضروب التفكير على تباينها، بحلاقته الصغيرة والكبيرة، وإذا ما كان غرضنا هو تحصيل نظرة موضوعية عن طبيعة التفاعل الذي نجم عن مختلف التصورات والنظريات.

وبما أن كتاب الفلسفة الترستندالية يتوسط الانشغالات الفكرية المبكرة لفيلسوفنا والتي لم تعكس حدسا فلسفيا على غاية من النضج والقوة، والانشغالات المتأخرة التي كشف عن مسعاه لتوسيع أفق التفلسف وإحداثيته، فإنه ليس من تزيّد في القول إذا اعتبرنا هذا الكتاب يتنزّل منزلة الأساس في مجمل ما خطّه من أعمال فلسفية؛ ففيه زبدة تصوره الفلسفي، وفي طياته يعرض لملامح نسقه الفلسفي، بشكل يفصح بصريح العبارة أننا أمام عزم فلسفي مقبل على بناء نسق فلسفي يجاري به كبريات الأنساق الفلسفية التي سبقته بقليل (فيشته) أو تزامنت معه (شلينغ) أو أتت بعيده مباشرة (هيجل).

وتجدر الإشارة أن هذا الكتاب الذي نتولى نقله إلى اللغة العربية من النص الألماني، من حيث هو أول مصنف يستضاف لهذا الفيلسوف في لغة الضاد، وهو مصنف يعرض فيه شليغل لمعالم نسقه الفلسفي، لم يلتمس سبيله بعد كذلك إلى النقل للغة الإنجليزية إسوة ببعض آثاره النقدية والأدبية. كما أن النسخة الفرنسية التي ظهرت لهذا الكتاب، وهي النسخة التي تولى الإشراف عليها دنيس ثوارد (Denis Thouard) وصدرت عن دار فران (Vrin) ظهرت بترجمة منقوصة مبتورة، من غير إشارة لهذا الأمر. فرب نص يُعرب عن نفسه في صورة أصدق لما عبّر عنه صاحب النص، عونا كبيرا لمن غرضه معرفة مكنون فكر بعينه، وكان سعيه على تقدير منزلته ومنزلة الفكر عامة تقديرا موضوعيا، وهو ما يقتضي وعيا هادفا بالترجمة.