القبيلة والسلطة وتدبير المجال الصحراوي: دراسة سوسيو أنثروبولوجية للتغير الاجتماعي في مجتمع الركَيبات

ناقش الباحث الباحث محمد المهدي أهل ميارة   يومه السبت 06 يناير 2024 على الساعة العاشرة صباحا كلية الحقوق بمراكش  أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية في موضوع : “ القبيلة والسلطة وتدبير المجال الصحراوي، دراسىة سوسيو أنثروبولوجية للتغيرالاجتماعي في مجتمع الركَيبات”  وذلك أمام لجنة علمية ضمت الدكتور المهدي الفحصي بصفته رئيسا ومقررا، والدكتور محمد بن طلحة الدكالي مشرفا، والدكتور عبد الرحيم العلام عضوا ومقررا و الدكتور حفيظ يونسي عضوا و الدكتور محمد منار باسك عضوا ومقررا.

وبعد مناقشىة الأطروحة قررت اللجنة منح الطالب الباحث درجة مشرف جدا مع التوصية بالنشر.

ملخص الدراسة:

تروم هذه الدراسة التي أخترنا لها عنوانا :” القبيلة والسلطة وتدبير المجال الصحراوي؛ دراسة سوسيو أنثروبولوجية للتغير الاجتماعي في مجتمع الرگيبات” مقارنة بنية القبيلة بين زمنين : تميز الأول بسيادة إقتصاد الرعي المؤسس على الترحال وهيمنة السلطة الجماعية في تدبير المجال عبر الحروب والتحالفات البينقبلية و قيادة حركة مناهضة الإستعمار. وزمن حاضر يعكس تغيرات جوهرية في وظائف القبيلة وفي المجال المدروس أبرزها: سيادة الدولة الوطنية عبر خطابها التحديثي وجهودها التنموية دون إقصاء للقبيلة التي أصبح دورها هامشيا وتراجع نفوذها لصالح العائلة السياسية.

Summary:

This study, for which we have chosen, is entitled “Tribe, Power and managing  the Saharan Area; Socio Anthropological Study of Social Change in the Rguibat Society “Comparing the Tribe’s Structure Between Two Times: The first was characterized by the sovereignty of the herding economy founded on travelling and the dominance of collective power in the management of the field through wars, inter-tribal alliances and the leadership of the anti-colonial movement. Present time reflects fundamental changes in the tribe’s functions and in the field of study, most notably: the sovereignty of the national State through its modernized discourse and development efforts without exclusion of the tribe, whose role has become Marginally and their influence has declined in favour of the political family.

الكلمات المفاتيح:

القبيلة، السلطة ، تدبير المجال الصحراوي ، التغير الاجتماعي، مجتمع الركَيبات.

Tribe, Power, Managing  the Saharan Area, Social Change, the Rguibat Society.

استهل الباحث دراسته بالإشارة إلى أن الموضوع قيد الدرس يندرج ضمن محاولات مستمرة وغير متوقفة كانت السوسيولوجيا الوطنية المغربية وعلم الإجتماع السياسي تحديدا  قد أسهما  بقدر وافر من الأبحاث التي اعتنت بنقد منظور السوسيولوجيا الكولونيالية للقبيلة المغربية وتأتي هذه المحاولة كإستمرار لهذه الدينامية التي تتغيا رد الإعتبار للتاريخ الاجتماعي لإحدي القبائل المغربية الوطنية المجاهدة من حيث إعادة قراءة لإسهاماتها في الكفاح من أجل وحدة المغرب واستقلاله شأنها في ذلمك شأن قبائل تكنة وبني ورياغل وأيت باعمران وغيرهم الكثير منذ المقاومة الأولى الممتدة من 1905 إلى سنة 1934 ثم المقاومة الثانية التي دشنتها القبيلة بانخراطها في جيش التحريربالجنوب المغربي استجابة لنداء الملك محمد الخامس في محطة أولى ُثم الدور الذي اضطلعت به في مسلسل البناء والتشييد إبان استرجاع الأقاليم الجنوبية.

 أشار الباحث كذلك إلى  أنه   تنطلق من صفىة الكونفدرالية التي تحيل على قابليلة القبيلة  إلى الإنشطار إلى لفين متقابلين  لكن ليسا متعارضين مكونين من خمسىة أقسام  أو خمسة أخماس le cinq cinquiéme  وتارة أخرى نشير إلى القبيلة كمجتمع  بوصفها جزءا أصيلا من الأمة المغربية العريقة تاريخيا وحضاريا معتمدين تصور تالكوت بارسونز للمجتمع باعتباره نظام مغلق وغير معلن، قابل للتنظيم وفق منظور تراتبي ينطلق من الحالة البدائية إلى الحالة العصرية وفي هذا التصنيف تدخل المجتمعات التي تعتمد إقتصاد الرعي كأساس حيوي لتدبير المجال ومنها مجتمع الركَيبات.

أولا :  أهمية الموضوع وأهدافه:

يستمد البحث حول السلطة القبلية في مجتمع الركَيبات جدواه  من طبيعة المجتمع المدروس حديث العهد بالتمدن، فاستقرار المجموعات القبلية ذات الطابع الترحالي لم يتم بشكل كلي إلا في بداية السبعينات. فنحن هاهنا نتحدث عن مجتمع مستمر في التشكل أو بعبارة أدق لم تتبلور نهائيا خصائصه الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، وإن كان التحديث الذي داهمه قد غير وأثر كثيرا في طابعه البدوي، ويبقى من المهم معرفة حدود هذا التأثير ودرجته.

 وبناءا عليه فدراسة البنى القبلية – وبالتبعية دراسة المجتمعات التي تحتضن الظاهرة القبلية – أساسي كما أشار الى ذلك جاك بيرك لإكتشاف “المبدأ العام الذي تنتظم وفقه هذه التجمعات، ولو عرفنا ذلك لاكتشفنا إحدى القوانين الأساسية التي تتحكم في تنظيم المجتمع المغاربي” وعلى هذا الأساس تهدف الدراسة إلى استجلاء طبيعة التحولات التي مسَّت المنظومة القبلية تبعا لعوامل التحديث وتدخل الدولة  عبر جهودها التنموية. كما تروم الدراسة الكشف عن تمظهرات السلطة القبلية في ظل بروز هيئات حديثة للتأطير السياسي.

ثانيا: إشكالية البحث وفرضياته

  شكلت القبيلة على الدوام مفتاحا لتحليل واقع المجالات الصحراوية، وقد فطن لذلك العديد من الدارسين حتى قالوا أن تاريخ المغرب هو تاريخ القبائل. وعليه نؤسس لنقول أن دراسة القبيلة في علاقتها بالسلطة مرده الرغبة في إبراز حدود الدور الذي ماتزال تسهم به البنيات التقليدية في تشكل وتطور ممارسة السلطة في المجتمعات الموسومة بالبداوة، ومنه المجتمع موضوع الدراسة، فالقبيلة تُعَدُّ مكونا أساسيا وعنصرا مهما لفهم التحولات الاجتماعية وكذا السياسية بالمنطقة، إذ بدون فهم الظاهرة القبلية لايمكن تتبع تطور المجتمع والوقوف على تغيره الاجتماعي.

إن دراسة القبيلة في علاقتها بالسلطة مرده كذلك الرغبة في إبراز الثابت والمتحول في الدور السياسي للقبائل عبررصد المظاهر والمحددات الأساسية لهذا الدور وبيان هل هو في تنامي أم في تراجع؟ دون إغفال عوامل من مثل تدخل الدولة الوطنية ودوره في تفكيك الروابط المشتركية للقبيلة وعلاقة تراجع سلطة القبيلة بتنامي دور العائلة السياسية؟ وحدود التعايش بين القبيلة بوصفهامؤسسة تقليدية و الحزب السياسي بوصفه مؤسسة حديثة؟

انطلاقا مما تقدم، تتبلور تساؤلات حول ماهية السلطة القبلية وحول طبيعتها في مجتمع الركَيبات موضوع الدراسة؟ وهل هي سلطة جماعية أم فردية متمحورة حول زعيم قبلي؟

هل القبيلة المغربية كما يمثلها مجتمع الركَيبات هي مثال للجمود السياسي كما صورها بعض الانثروبولوجيين بعجزها عن تطوير نظامها السياسي أسوة بالنظام الأميري الموريتاني والنظام القايدي  الذي ساد في واد نون ؟ و وهل يشكل هذا الأخير نموذجا سياسيا ماقبل دولاتي؟ وهل هذا الجمود السياسي له علاقة ببنيتها الداخلية المقاومة لمركزة السلطة؟ أم أن الأمر يتعلق بعوامل خارجية أوقفت تطور السلطة القبلية ومنها الظاهرة الاستعمارية وتدخل الدولة بخطابها التحديثي؟

إلى أي حد استطاع مجتمع الركَيبات التكيف مع التحولات السياسية والمجتمعية؟ وهل تم هذا التكيف بشكل سلس أم بطريقة قسرية؟ وكيف تتمظهر السلطة القبلية في ظل هذه التحولات؟ وهل يُعَّدُ الاستناد إلى القبيلة في محطات سياسية معينة كالانتخابات أو التجمعات القبلية المؤيدة أو المناهضة لبعض السياسات العمومية، عودة للقبيلة أم هو محض توظيف سياسي لبنية متهالكة أصبحت من الماضي ؟

إلى أي حد يصح القول بأن حضور القبيلة غذا شكليا لا يتعدى المواسم الدينية وحملات التضامن القبلي؟ وهل تجسد تمثلات المبحوثين حضورا للوعي القبلي أم نفيا له؟

ولمقاربة الاسئلة أعلاه  تم الإستناد على فرضيتين:

  • القبيلة معطى اجتماعي وثقافي لصيق بالمجتمعات ذات المجال الصحراوي، وهي حاضرة بقوة في عصرنا الحالي؛ في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع من خلال تأثيرها في الوعي الجمعي للأفراد والذي يتمظهر في السلوك والتصرفات التي تصدر عنهم. وبذلك فالقبيلة تحتل مكانة متميزة داخل المجتمع مما يصعب معه القول باضمحلال تأثيرها أو اندثارها كلية.
  • التنظيم القبلي بخصائصه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لم يعد قائما، يرجع سبب ذلك إلى عدة مؤثرات وعوامل لعل أهمها الظاهرة الإستعمارية وعنصر التحديث الذي  عززه التمدن والاستقرار و تدخل الدولة الوطنية عبر البرامج التنموية والسياسات العمومية مما أسهم في تغير عميق في العلاقات الاجتماعية والسوسيوسياسية والاقتصادية لمجتمع القبيلة،الشيء الذي جعل سلطة القبيلة تتراجع لتحل محلها سلطة العائلة ليغذو حضور القبيلة شكليا وموسميا في فترة الانتخابات أو عند توزيع مكاسب سياسية أو بطلب من الدولة لمواجهة وضعية سياسية طارئة.

ثالثا: منهج البحث

             تحكمت طبيعة الموضوع في تحديد نوعية المناهج المعتمدة، فمادام المجتمع المدروس ممتد في الزمن فكان لابد من الاستناد على المنهج التاريخي لمقاربة تطور مفهوم السلطة، ليس بنفس الكيفية التي يعتمدها البحث التاريخي لكن مع اعتماد المعاينة والمشاهدة؛ بمعنى اخر تطبيق أسس السوسيولوجيا التاريخية.

 يساعدنا التاريخ على فهم الظواهر الاجتماعية – ومن ضمنها الظاهرة القبلية –  والتي طرأت عليها تحولات عميقة. فالرجوع إلى التاريخ يمكن أن يكون اختزالا للواقع المجتمعي في بعض عناصره الفوقية من حيث تعرضه للاختزال والتشويه والتحريف لكن في الوقت نفسه يمكن أن يفيد في تقريب الظاهرة الاجتماعية من خلال معرفة أصولها وسوابقها، والمراحل التي مرت منها. وفي نفس المنحى يمكن تفسير اعتماد المنهج المقارن على اعتبار أن المجتمع المدروس إنما يعيش بتفاعل وتأثر وتأثير مع المجتمعات التي تجاوره أو تلك التي هاجر منها أو إليها

إن المجتمعات المغاربية هي ذات أصول اجتماعية متشابهة حيث هيمنة القبائل العربية والأمازيغية التي تكاد تكون نسخاً مكررة، إذا ما أخدنا بعين الإعتبار نظمها الاجتماعية ( تقسيمات القبائل ) والسياسية مؤسسة المشيخة وأيت أربعين والمقدم أو الأمغار مع اختلاف بسيط يخص مركزية الظاهرة القايدية في المغرب. وعلية فإن نهج المقارنة يعد مواتيا للمجتمع المدروس مع الأخد بعين الاعتبار تحديد معايير مضبوطة للمقارنة، وتحديد وحدات المقارنة وأن تكون العناصر المقارنة متشابهة، وفي هذا الإطار تأتي المقارنة بين نظام الحماية وكذا القانون العرفي لدى الركَيبات وقبائل أينولتان وقبائل زمور

وانطلاقا من أن الدراسة تنحو منحى ميداني عن طريق توظيف استمارة الاستبيان وتقنية المقابلة، فالمنهج الوصفي يفيد في تفسير الظواهر الاجتماعية المتسمة بعدم الثبات والمعرضة للتغير المستمر.

إن التناول البيركي لموضوع القبيلة المغاربية والمغربية القائم على استكشاف التاريخ الاجتماعي المعاين في بعده الشمولي الذي يمتد إلى الشمال الأفريقي من خلال قراءة يقظة وذكية للبنية القبلية بعيدا عن التأويلات وتتغيا في الوقت نفسه إعمال الشك المنهجي. يحفز الباحث في البنى القبلية إلى سلوك الاجراء ذاته في التعامل مع الإرث النظري المتخم بالتفسيرات الجاهزة حول القبيلة والبنى الاجتماعية، وفي نفس المنحى يندرج إسهام الخطيبي في تبنيه للنقد المزدوج بإلحاحه على تفكيك المفاهيم الغربية المؤدلجة والمتمركزة حول الذات، ثم بالطريقة عينها نقد الانتاج السوسيولوجي المنتج عربيا، لتحقيق نتائج أقل استلابا وأكثر انسجاما حول الموضوع المدروس.

رابعا : هيكل البحث

انطلاقا مما تقدم ، وارتباطا بالإشكالات السالفة الذكر ، تم تقسيم الموضوع قيد الدرس إلى مقدمة وقسمين لكل واحد منهما مقدمة وخلاصة تركيبية ثم خاتمة عامة للبحث

 تضمنت مقدمة الدراسة التعريف بالموضوع  من حيث بيان  أهميته والأسباب الذاتية والموضوعية لإختياره والصعوبات التي تحيط بالبحث  مع تبيان الإشكالية التي تؤطر البحث والأسئلة المتفرعة عنها والمنهجية المعتمدة مع التذكير بالدراسات السابقة  . أما القسم الأول فقد ميزه البحث في البنية الداخلية للقبيلة و إمتدادها المجالي و علاقاتها مع جوارها القبلي والسياسي وأشكال ممارستها للسلطة  وتدبيرها للمجال  منذ  النواة  الأولى للقبيلة  أي من القرن السابع عشرإلى  حدود  جلاء الإستعمار الإسباني  سنة 1975.

حاول الباحث في الفصل الأول الإحاطة بالمقاربات النظرية  لمفهوم القبيلة سواء في جانبها التراثي أو الأنثروبولوجي و منظور السوسيولوجيا الكولولونيالية والوطنية أما الفصل الثاني فقد تطرق إلى انتظام كونفدرالية الركَيبات  على المستويين الإجتماعي  والسياسي و أشكال تدبير المجال الصحراوي .

عالج  القسم الثاني  موضوع التغير الإجتماعي  الذي ميزه تفكك القبيلة والإنتقال من التدبير القبلي إلى التدبير الدولاتي   حيث مارست الدولة الوطنية سيادتها على المجال محتفظة للبنيات التقليدية ومنها القبيلة موضوع الدراسة بهامش ضئيل من التواجد  مما يعكس أفول التنظيم القبلي .

تطرق الباحث في الفصل الأول  أثر السياسات العمومية في التحولات التي مست البنية القبلية ومنها اعتماد نظام وساطة تقليدي وأخر عصري و  اعتماد الخيار الجهوي في أفق الحكم الذاتي الذي احتفظ للقبيلة بموقع متميز داخل هيكلته المقترحة

أما الفصل الثاني فقد  خصص لدراسة  تمثلات المبحوثين ونظرتهم لسلطة القبيلة ، مما مكننا من قياس الوعي القبلي والتضامن القبلي. ليخلص الباحث في الأخير إلى استنتاجات ضمنها خاتمة البحث.

خامسا: صعوبات البحث

إن إنتماء الباحث للقبيلة سيف ذو حدين، فقد يساعد في فهم التطور الإجتماعي والسياسي للبنية الإجتماعية موضوع الدرس، ذلك أن معايشة مراحل مهمة متأخرة من تفاعل القبيلة مع المجتمع ثم مع السلطة السياسية يجعل الدراسة ميسرة نسبيا ،غير أن وضع مسافة مع المجال المدروس وإظهار سلبياته وإيجابياته يظل تحديا لابد من تجاوزه، فالتعامل مع الظاهرة الإجتماعية باعتبارها شيئا من وجهة نظر دوركهايم(Durkheim) أمر من شأنه تغليب الجوانب العلمية في الموضوع قيد الدرس.

إن دراسة مواضيع مثل السلطة وتدخل الدولة والأعيان والانتخابات والنسب ما تزال عند البعض تعد من الطابوهات. فضلا عن وجود صعوبات تتعلق بالعمل الميداني الذي لم تعتد عليه المنطقة خاصة تقنية الاستمارة. أما بالنسبة لتقنية المقابلة فقد لقي الباحث تجاوبا كبيرا.

إن اعتماد المعطيات الرقمية  لوحدها يعد اختزالا للظواهر المدروسة، وإغفالا لأبعادها ومضامنيها الثقافية وعلاقاتها الداخلية وهو ما دفعنا إلى دمج  الجانب النظري بالميداني.

سادسا : خلاصات ونتائج البحث

تلقت القبيلة ثلاثة صدمات أسهمت في تفكيك بنيتها الإجتماعية وحدت بالتالي من سلطتها وتدخلاتها في تدبير المجال الصحراوي وهي الصدمة الإستعمارية وتدخل الدولة الوطنية وعامل التحديث الذي طال المجالات القبلية. لقد توزعت السياسة الإستعمارية بين الطابع العنيف حينا عبر  تهجير القبائل وإغلاق المجالات الرعوية وتأليب القبائل بعضها على بعض وأحيانا أخرى نهج خيار السلم عبر التفاوض مع الزعماء القبليين لفرض الضرائب وإنشاء فرق الجمالة لمراقبة التحركات القبلية. وقد أدت هذه السياسة إلى تقطيع أوصال القبيلة موضوع الدراسة على عدة مجالات بعضها خاضع لسلطة الإدارة الإستعمارية الفرنسية جنوب الصحراء الأطلسية والبعض الآخر خضع لنفوذ السلطة الإستعمارية الإسبانية شمال الصحراء الأطلسية.

انتقل تدبير المجال الصحراوي من ازدواجية الصراع والتعايش التي طبعت لسنوات عديدة التاريخ السياسي للمجتمع القبلي إلى مرحلة سيادة وتحكم الدولة على المجال عبر آليات جديدة لممارسة السلطة، بعضها تقليدي مستمد من التدبير القبلي نفسه والبعض الآخر عصري. وظفت الدولة إلى جانب الأعيان والزوايا والشيوخ رجال السلطة والمنتخبين والإدارة المحلية لإدارة المجال بكيفية عقلانية. وترتب عن تدخل الدولة انحسار سلطة القبيلة من سلطة فاعلة ومؤثرة في المجال إلى عصبية منفعلة ومتأثرة وموجهة. فالقبيلة ماتزال حاضرة أيضا من خلال التوظيف السياسي الذي ينهجه أفرادها خلال المحطات الانتخابية أو الذي تمارسه الدولة. ومن المفارقات أن هذه الأخيرة التي أسهمت في تفكيك البنية القبلية نجدها تتدخل بين الفينة والأخرى لبث الروح في القبيلة عبر دعم وإسناد المؤسسات التقليدية والدينية وذلك لغايات سياسية ظرفية.

لعب التحديث بأبعاده المختلفة دورا حاسما في انهيار النظام القبلي، غير أن القبيلة باعتبارها ظاهرة اجتماعية تاريخية مترسخة في أذهان الأفراد ومؤثرة في سلوكاتهم، ماتزال تتعايش عبر تمظهرات عديدة تطال المجالات المجتمعية كافة بما في ذلك السياسية منها. ويكفي أن نشير بهذا الصدد إلى السلوكات التي أصبحت طاغية في مجتمعاتنا الموسومة بالحداثة من تفضيل الروابط الشخصية المبنية على القرابة الدموية أو المصاهرة في الأحزاب السياسية وباقي هيئات المجتمع المدني، بل وتغلغلها في دواليب الادارة من خلال الدفع بالأقارب والموالين إلى مناصب المسؤولية وهي سلوكات ذات بعد قبلي تتعارض مع قيم المساواة وحكم القانون.

ومن الاستنتاجات المتوصل إليها في البحث ما يلي:

لقد تقوت روابط المخزن بالقبائل بفعل العلاقة التي نسجها زعماء القبائل مع السلاطين، حيث فضل هؤلاء الشيوخ التحالف مع القصر مباشرة، رافضين أية وساطة في علاقتهم بالقصر. ويتضح ذلك من خلال حرصهم على تجديد الروابط مع السلاطين عبر نظام البيعة الذي يحيل إلى البعد الديني الذي تجله القبائل، كما يحيل على الأصل الجينالوجي المشترك الممتد إلى النسب الشريف الذي تتقاسمه القبائل الصحراوية مع ملوك الدولة العلوية.

 شكلت الزيارات المتبادلة بين زعماء قبيلة الركَيبات للملك محمد الخامس  بالرباط وامحاميد الغزلان أحد وجوه هذه العلاقة التي تقوت في عهد الملك الحسن الثاني باستقطاب  رئيس الجماعة الصحراوية و رئيس حزب الاتحاد الوطني  الصحراوي المنتميان إلى قبيلة الركَيبات .

  • عَوَّضَت العائلة السياسية سلطة القبيلة، غير أنها حافظت على ميكانيزمات الاشتغال ذاتها التي كانت تطبع عمل القبيلة ( سلطة متمحورة حول زعامة عائلية؛ تحالفات محصورة ضمن طبقة الأعيان وفي إطار المصاهرة؛ صراع وتنافس لا يخلو في بعض الأحيان من طابع عنيف خصوصا زمن الانتخابات).
  • يغلب على العائلة السياسية وريثة القبيلة منطق الغنيمة الذي يتجسد في فكر الغلبة وإحتكار المجال السياسي عن طريق استعمال كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة لحسم التنافس السياسي لصالحها. ويتجسد منطق الغنيمة أيضا في ظاهرة الإستخلاف السياسي وتهيئة الأبناء لانتقال السلطة داخل العائلة.
  • على الرغم من أفول القبيلة فإن توظيفها سياسيا مايزال قائما بسبب غياب ثقافة الديموقراطية والتنشئة السياسية السليمة داخل المجتمع وفي داخل الأحزاب السياسية التي أصبحت تحالفاتها مع فئة الأعيان مجسدة لهيمنة القبلية السياسية.
  • أصبح التضامن القبلي موسميا ومحصورا في حدوده الدنيا في المناسبات والأعياد ومساعدة المرضى، ولا يخلو هذا التضامن من مظاهر الفخر.
  • ما يزال الوعي القبلي حاضرا على أرض الواقع تعززه بعض السلوكيات والمظاهر التي تبرز عند حالات النزاع بين القبائل أو زمن الانتخابات.
  • لم يؤثر المستوى الثقافي في منسوب الوعي القبلي لجهة تحييده، ذلك أن الفئات المتعلمة تكاد تقارب في نظرتها للقبيلة مثيلاتها من الفئات غير المتعلمة مما يطرح تساؤلات حول ارتباط التعليم بالواقع المجتمعي. ويمكن تفسير ذلك بطبيعة التنشئة الاجتماعية السائدة في المجتمع.
  • إن التدبير القبلي للمجال الديني مايزال ملموسا في المواسم الدينية التي تقام عند أضرحة الأولياء وفي أنشطة الزوايا التي تتلقى الدعم من قبل الدولة عبر التشجيع والمنح المالية. ويرتبط التدين الشعبي أيَّمَا ارتباط بالوعي القبلي من حيث ارتفاع منسوب الوعي القبلي لدى القبائل التي تتضمن فئة الأولياء وتسود فيها طقوس زيارة الأضرحة والمزارات.

سابعا: آفاق البحث

إن محاولتنا المتواضعة هذه لمقاربة بنية القبيلة في المجال الصحراوي  لاتدعي الإلمام بجميع جوانب الموضوع، فهي فقط تمرين جزئي باعتبار أنها لم تتطرق لكافة الإشكالات التي تحيط بالموضوع قيد الدرس وهي كذلك تمرين نسبي باعتبار  أن هذه المحاولة لاتدعي القراءة النهائية للموضوع ، بل نأمل أن تكون المنطلق لأبحاث أخرى أكثر جرأة تتناول حدود تأثير البنيات التقليدية في المجال الإجتماعي والسياسي والديني في المغرب ككل والمناطق الجنوبية تحديدا.